محاكمة في زمن الحرب الدائمة
موفق نيربية
ورد في قانون العقوبات العام السوري:
المادة 285:
«من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاية ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال الموقت».
المادة 286:
-1 «يستحق العقوبة نفسها من نقل في سورية في الأحوال عينها أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة.
-2 إذا كان الفاعل يحسب هذه الأنباء صحيحة فعقوبته الحبس ثلاثة أشهر على الأقل».
استناداً إلى هاتين المادتين، صدر حكم محكمة الجنايات الأولى في دمشق على اثني عشر مواطناً من القياديين المنتخبين في المجلس الوطني لإعلان دمشق المنعقد في 1- 12- 2007، الذي أصدر بياناً ختامياً يعكس الرؤية المشتركة لـ163 عضواً من تيارات قومية ويسارية وإسلامية وليبرالية، يوجز فيه اقتراحه لمستقبل سورية، وملامح تحولها إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، بشكلٍ سلمي متدرّج وآمن.
ولا جدوى فيما يبدو من مناقشة الحكم وطريقة استنباط أن المذكورين يستحقون السجن لمدة عامين ونصف، ولا المنطق الذي توصل بواسطته إلى طريقة إضعاف الشعور القومي، ولا كيف يتحوّل الرأي والرؤية إلى أنباء كاذبة. المفهوم الأكثر عمقاً في العقلية الاستبدادية والأمنية هي «زمن الحرب أو عند توقّع نشوبها».
كانت الأوضاع السائدة بيننا وبين إسرائيل منذ عام 1948 حتى الثامن من مارس 1963هي نفسها بعدها، فما ينظم العلاقة مع العدو هو اتفاق الهدنة، وما يحكم العقل العربي آنذاك ميل جارف لكَنس إسرائيل واستعادة فلسطين كلها، وانتظار للثأر على أحرّ من الجمر. لكن حالة الطوارئ لم تُفرض آنذاك، ولم تكن الأحكام العرفية سائدة في العلاقة بين الحكومة والمواطنين.
بعد ذلك ساد «زمن الحرب»، أو الابتزاز الذي يحاول أهل السلطان والغلبة أن يمارسوه على المغلوبين حتى يبرّروا ويستديموا غلبتهم، وصار المعارض للسلطة «خائناً» وعميلاً يقوم «بدعاية ترمي إلى إضعاف الشعور القومي»، وإن قال «آه» أو تكلّم بحريّة -محدودة- يكون قد «قام بنشر أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة». بل إنه لا يُعامل على أنه يحسب ما يقوله «أنباء صحيحة» فلا يحكم بالحبس «ثلاثة أشهر على الأقل»، بل بسنوات مديدة!
لا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون زمن الحرب المقصود مديداً أو دائماً، ومن الواضح وضوح الشمس أننا لسنا في أتون حرب. في الوقت نفسه أيضاً، لا يُمكن أن يكون المقصود من «عند توقّع نشوبها» دوام الحال، فذلك ينطبق عندئذ على أيّ دولة، حتى لو اختلفت الدرجات. «عند» ظرف زمان يقع الفعل فيه، محدود ومحدد غير مبهم. المثال الذي يذكره النحاة عن ظرف الزمان المبهم هو «الدهر»، وليست «عند» هذه معادِلة للدهر ولا هي الاستمرار والدوام.
لقد انعقد المجلس الوطني المذكور بعد أخذ «الظروف» المحيطة بعين الاعتبار، ومن ذلك أنه جاء «عند» مشاركة سورية في مؤتمر آنابوليس وتوارد أخبار عقد مفاوضات غير مباشرة في وقت قريب. فلم يكن الزمن آنذاك زمن حرب، ولم يكن وقتاً لتوقع نشوبها. قبل ذلك، ينبغي القول إن حالة الحرب أو مقدماتها حالة موصوفة ومعروفة وتقتضي إعلاناً قانونياً لها يأخذه الناس بعين الاعتبار. وإذا كان النظام يرى نفسه في حالة حرب مستمرة «في كلّ اتّجاه» فشيء آخر، لا بدّ من أن يعلنه رسمياً، حتى يعرف الناس ذلك ويلتزموا الحذر والملاجئ.
فما ينتج عندنا- كما هو الأمر- أوضاع متوتّرة دائماً، وصلاحيّات واحتكار وانفراد لا يمكن أن تنتج عنه سياسات صحيحة إلاّ فيما ندر، ومن دون قاعدة كافية لإنجاحها وتعميم فائدتها.
في الحالة التي نتحدّث عنها مسألة أخرى جوهرية، هي خطر فساد القضاء الداهم، فهو يتعرّض عندئذٍٍٍ للضغوط التي تنال من هيبته واستقلاليته، وتفعل فعل المال في الإفساد، بل هي أخطر منه، وسبب مباشر لنشر استعماله. ما يحدث عند تدخّل السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية أو تعميم الحزبية الرسمية أو تقييده بالقرارات والتشريعات ترهيب للقضاء وترغيب، وفتح لباب الخروج من القيم والحدود. وبذلك يكون مصدر ما يُسمى بفساد القضاء من خارجه، لا من داخله.
وحتى لو كنا نهدف إلى أن نكون جاهزين لاحتمالات الحرب القريبة أو البعيدة، فإننا لا نستطيع ذلك عبر إدخال المجتمع في حالة حرب مستمرة. لا تستطيع ذلك حتى الأمم الأقوى والأكبر والأكثر إمكاناتٍ سياسيةً واقتصادية واجتماعية وعسكرية. فالقضاء المستقل وحريّة الرأي والتعبير والمشاركة السياسية ووحدة السلطة والمعارضة وطنياً، أمانٌ للواقع والمستقبل.
* كاتب سوري