في الرأسمالية والأزمة الديموقراطية: الحلّ عالميّ معولم
ياسين الحاج صالح
لم يكن التوازن يوما فضيلة للرأسمالية التي تحفزها دينامية غير مسبوقة. لقد أطلق التقاء طموح «السيطرة على الطبيعة» مع نازع الربح والكسب دينامية انتهاك وتجاوز وتوسع وتعدٍ واختراق، أثمرت ثورات تقنية مدهشة وتوسعا استعماريا هائلا.
وبفعل طابعها الاندفاعي الأصيل كانت الدينامية التوسعية للرأسمالية في طورها التنافسي تفضي إلى أزمات فيض إنتاج دورية (كل نحو عقد) لم تشرع بالتغلب عليها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلا بالتوسع الخارجي والداخلي، أي بالامبريالية في الخارج وبرفع أجور العمال في الداخل، وبدء نشوء ظاهرة الارستقراطية العمالية التي شكا منها ماركس أواخر أيامه مر الشكوى. ولم تتمكن البلدان الرأسمالية المركزية من الخروج من أزمة 1929 إلا بالنازية في ألمانيا، وتدخل الدولة الواسع في الولايات المتحدة في ما عرف بالنيوديل الروزفلتي، الذي حذت حذوه بلدان غرب أوروبا الأخرى.
مثل ذلك يحصل اليوم في البلدان المركزية، وإن رجّحنا أن يرتبط نجاح العلاج الدولاني بتطبيقه عالميا هذه المرة، بحكم العولمة. الشيء الواضح أن الرأسمالية تحتاج إلى من ينقذها من ذاتها ويصحح جنوحها الغريزي للإفراط وتوليد الأزمات. فهي لا تحوز آليات تصحيح ذاتية لتجاوزاتها وأعطابها. وما تحوزه المجتمعات الغربية من آليات تصحيح لم يتولد عن الرأسمالية، بل بالأحرى عن ضبطها اجتماعيا وسياسيا وموازنتها بقوى خارجها. يسعنا القول إن المجتمعات الغربية متوازنة لأن الرأسمالية إحدى ساقيها، فيما الساق الثانية أنظمة سياسية واجتماعية وقانونية توازنها وتضمن السيطرة الاجتماعية عليها. لعله لذلك في كل مرة تراخت الضوابط المؤسسية والسياسية والاجتماعية انفلتت هذه من عقالها وسرعان ما تسببت بأزمة كبيرة. والأزمة الراهنة مثال: فقد تولدت عن نزع الضوابط على التداولات المالية، إن في صلتها بالاقتصاد الحقيقي، أو في تجوالها العالمي سعيا وراء الربح الأعلى.
كان الشرط التوازني وجد تعبيرا في الأدب السوسيولوجي الغربي في الستينات والسبعينات، حين جرى الكلام على توازنات دينامية تسم اجتماعها السياسي ونموها الاقتصادي. وفي الفترة نفسها ظهرت نظرية الدينامية الاجتماعية التي تستخلص من انفتاح فرص الترقي الاجتماعي أمام أعداد أكبر في المجتمعات المتقدمة امحاء الحدود الصلبة بين الطبقات وتراجع الصراع الطبقي. تبدو النظرية هذه موجهة ضد التحليلات الماركسية التي كانت مقبولة على نطلق واسع حينها والتي يشغل الصراع الطبقي موقعا مركزيا فيها. غير أنها تعكس نجاحات حقيقية لدولة الرعاية التي مارست ضربا من التمييز الإيجابي لصالح الشرائح الأضعف، وهو ما عززته طفرة التعليم العالي في الستينات لتتيح لعدد كبير من الموهوبين فرص ترق اجتماعي غير مسبوقة.
وفي العقود الثلاثة التالية للحرب العالمية الثانية أيضا صار يجري الكلام على عقد اجتماعي اشتراكي ديموقراطي في البلدان المعنية يضمن التوازن بين التوسع الاقتصادي الرأسمالي والتوازن الاجتماعي والسياسي. والملاحظ أن الديموقراطية كاسم عام لآليات التصحيح ظلت خارج العلاقة الرأسمالية نفسها، وهي علاقة سيطرة طبقية لمصلحة الرأسماليين. لقد تركت هذه لحاكمية السوق، ولم يكن النيوليبراليون وحدهم من يعتبر عدم التدخل فيها شرطا للازدهار وللديموقراطية ذاتها. وحده ماركس والشيوعيون من بعده تطلعوا إلى دمقرطة العلاقة بين «العمل المأجور والرأسمال»، فيما يكاد التحفظ على هذا التداخل يكون ثابتا حضاريا غربيا. وقد طورت الشيوعية السوفياتية من تجارب ما يفترض أنها آليات تصحيح للعلاقة الرأسمالية، لكنها بدل أن تحرر قوى الإنتاج كما وعدت، لجمتها، وأثمرت في الوقت نفسه نظم طغيان سياسي محدثة (شمولية). وهو ما يترك السؤال عن إمكانية تغيير جوهري في العلاقة الرأسمالية غير مجاب عنه.
مع الثمانينات أخذ العقد الاجتماعي الذي تمثّل في دولة الرعاية يتفكك. كانت تغيرات أساسية في نمط التراكم الرأسمالي تجري باتجاه ما يسميه ديفيد هارفي التراكم المرن، المتسم بتصدر قطاع الخدمات الحديث (تمويل ومعلومات واتصالات بخاصة) على قطاع الإنتاج الصناعي التقليدي، وتشكل ما سيسمى لاحقا مجتمع المعلومات… وتواكبها تغيرات سياسية وإيديولوجية تمثلت في «الثورتين» الريغانية والتاتشرية وصعود الإيديولوجية الليبرالية المحدثة التي تعود إلى الإيمان الدوغمائي بحرية السوق وفضائله المُغنية عن تدخل الدولة («الحكومة ليست حل المشكلة، بل المشكلة» حسب ريغان). ودفع السعي الرأسمالي إلى مجابهة انخفاض معدل الربح إلى تصدير صناعات تقليدية لبلدان متدنية الأجور قوانينها البيئية متراخية ككوريا الجنوبية في السبعينات والصين وبلدان أميركا اللاتينية في الثمانينات، ما أضعف القوة التفاوضية لنقابات العمال في الغرب التي تعرضت للتفكيك بوسائل متنوعة على يدي ريغان وتاتشر. هكذا أخذ منطق العلاقة الرأسمالية يسود المجتمع ويوجه السياسات الحكومية ذاتها بدل أن يسيطر المنطق الديموقراطي على العلاقة الرأسمالية. وعلى هذا النحو حررت الرأسمالية نفسها من آليات التصحيح الخارجية (أي السياسية والاجتماعية) بعدما قاومت بنجاح آليات التصحيح الداخلي التي أظهرت فشلا مدويا في التجارب الشيوعية. ومنذ الثمانينات لم نعد نقرأ عن توازنات دينامية. والحصيلة التي لم تتأخر هي الأزمة العالمية الراهنة التي نشك في أن تستجيب للعلاج التقليدي المتمثل في تدخل إسعافي وواسع من قبل الدولة.
قد يبدو أن الرأسماليات المركزية طورت آلياتها التصحيحية، السياسية والاجتماعية، في نوع من التطعيم ضد العدوى الشيوعية التي تمتعت بجاذبية عالية في البلدان الغربية حتى سبعينات القرن العشرين، وأن انهيار التوازنات الدولية بين «النظامين الاجتماعيين» هو ما أفضى إلى ترنح التوازنات الداخلية الغربية وتفكك العقد الاجتماعي الاشتراكي الديموقراطي. لكن نميل بالأحرى إلى أن الدينامية الرأسمالية حققت في السبعينات وما بعدها قفزات في التراكم والتكنولوجيا وتنظيم العمل، ذات طاقة توسعية متجددة هي التي سميت منذ عقدين بالعولمة. الاتحاد السوفياتي لم يعد يجاري بفعل جمود بناه الاقتصادية والسياسية والفكرية، والرأسماليون القادرون على تحريك أموالهم وأعمالهم بسهولة هم من سيحوزون ميزة نسبية كبيرة قياسا إلى الدولة القومية الأقل حركية وإلى الطبقات الوسطى والدنيا الأدنى مرونة أيضا.
بصيغة ماركسية، قد يمكن تمثيل الشرط الحالي بأنه تناقض بين الطابع العالمي للعمليات الرأسمالية والسيطرة الطبقية عليها والتنظيم القومي للعالم. بعبارة أخرى، تنتقل التناقضات التي كان رصدها ماركس في الإنتاج الرأسمالي في القرن التاسع عشر من الإطار القومي إلى الإطار العالمي، مع بقاء العالم مجزأ سياسيا إلى دول قومية «سيدة». وإنما لذلك نتشكك في نجوع أية سياسات كينزية جديدة لمعالجة الأزمة الراهنة إن لم تطبق على نطاق عالمي.
خاص – صفحات سورية –