نهاية تاريخ الليبرالية الجديدة ..!!
هيئة تحرير نشرة الآن – العدد 53-54
ماكادت شعوب الأرض تتلمس في الغسق الإمبريالي خيوط ضوء توصلها إلى منفذ نجاة من أزمة الإرتفاع الجنوني لأسعار الطاقة التي ألهبت أسعار السلع الاستهلاكية والنقل والتدفئة … إلى أن دخلت في أزمة الغذاء التي تضع ملايين من شعوب الأرض أمام مصير الموت جوعاً … وأخيرًا حطت الأزمة الرأسمالية الاقتصادية في شكل أزمة الرهن أو الائتمان العقاري والتي سرعان ما تحولت إلى أزمة مالية عالمية . الموضوع الذي يتجاوز أبعاد الأزمة الراهنة ، أنه لايريد أحداً التصديق أن النموذج الإمبريالي والأمريكي خصوصاً ، معرّض للإهتزاز فما البال بسقوطه فكرياً وسياسياً وأخلاقياً وإقتصادياً ؟ وتستنفز الأقلام البورجوازية للتذكير بأزمات الرأسمالية وذلك للتأكيد بأن النظام الرأسمالي يمر بأزمات أووعكات صحية ، لكنه قادر على الخروج منها أكثر عافية وصحة ، ، مع تجنب المرور بالصعود النازي والفاشي وتنويعاتهما ، والحروب الكونية الأولى والثانية ، والحروب الاستعمارية التي لم تنتهي بعد …
ما ينبغي أن نؤكد : الأزمات الاقتصادية الدورية كامنة في قلب القوانين الموضوعية التي تحكم النظام الرأسمالي ، ولم يستطيع التغلب عليها حتى الآن ، وتأخذ أحياناً تعبير “فترات ركود “وهي تذكر دوماً ، أن النظام الرأسمالي محكوم عليه بالموت ،بيد أنه لن يموت بصورة آلية . لذلك مامن أزمة رأسمالية مغلقة المخارج ، إلا بوجود قوى إجتماعية “الطبقة العاملة وحلفائها ،تغلق المأزق التاريخي وتضع النظام الرأسمالي أمام مصيره المحتوم ،إخلاءالسلطة للقوى الثورية. وهذه الأزمة لم يتسبب بها لا الأتحاد السوفياتي ولا حركات التحرر الوطني ولا الاتجاهات المناهضة للعولمة ، الأرض مفتوحة على أطرافها سياسياً وعسكرياً ، قانونياً وإقتصادياً أمام تغول وتوحش الرأسمال دون أي معوقات حقيقية وفاعلة،إن هذه الأزمة هي منتوج آليات الإقتصاد الرأسمالي ذاته ،وهي أشبه بعملية تآكل ذاتي وإن أكدت على شيء فهي تؤكد على تهافت أسس العولمة الليبرلية الجديدة ووصولها إلى سقفها التاريخي :
تراجع في الإنتاج الصناعي ، إرتفاع أسعار الخامات والمواد الاستهلاكية، إنهيار القطاع المالي العالمي ، إتساع الفارق بين حجم الاقتصاد الحقيقي وبين تعبيراته المالية (( تقدرالفوارق بين القيمة الفعلية للقطاعات الإنتاجية وبين الاسهم المالية المعبرة عنها /50/ خمسون ضعفاً )) ارتفاع معدلات البطالة .
ماهي أزمة الرهن العقاري ؟
هي ببساطة ووضوح ، إندفاعة للمؤسسات المالية للاستثمار في حقل العقارات ، بكونه قطعاً آمناً ، من خلال تمويل المصارف بشراء مساكن بفوائد عالية جداً،ودون حاجة المقترض للإظهار راتبه أو دخله ،أو إمكانية تسديد المقترض ، مع تهميش أو إلغاء دور مؤسسات الرقابة المالية والمؤسسات الضامنة لإسترداد القروض. والأسرة التي تسعى لتأمين سكنها “وهو ما يجب أن يكون حقاً من حقوقها” تقبل بفوائد فاحشة على القرض الذي تستلفه من المصرف ، مقابل ذلك يرهن المواطن حاضره ومستقبله لأجل تسديد القرض . وهو ما يذكر بالعقد الذي أبرمه ” فاوست” بطل رائعة غوته مع ممفستو فليس٭ ” ووقعه بدمه . والذي حصل هو عجز المواطن المقترض عن دفع الأقساط وبالتالي عجز المصارف عن استرداد جزءاً من أموالها وأرباحها نقداً، لأن المساكن مازالت تحت ملكية المصارف ،طالما لم يسدد ثمنها كاملاً . فتم استرداد المساكن وطرد سكانها ” مئات ألاف الأمريكيين خارج منازلهم بموجب هذا العقد الشيطاني ” مما أدى إلى فائض في سوق العقارات وبالتالي انخفاض في أسعارها ، نتج عنها إنكماش استثماري وإنخفاض لقيمة الأسهم في الحقل العقاري .
أزمة بطاقات الإقتراض “كريديت كارد”؟
وهي عبارة عن بطاقة ممغنطة تعرضها المصارف على زبائنها ،والتي تفترض أن يكون الزبون قادر على سداد ثمن البطاقة في الموعد المحدد ” يبدأ الزبون “وهو الاسم المصرفي للمواطن” وبالتالي نحن أمام دولة ،أو ،دول لكل الزبائن ” الأحرار ” وبات الزبون ـ المواطن لايعّرف ببطاقة هوية أو رقم وطني . أو بشجرة عائلة . فلايهم إن كان من آل كنيدي أو آل يورك أو من بني هاشم أو بني تغلب، بل التاريخ الإقتراضي أو سجل إستخدام هذه البطاقة “كريديت هيستوري”. وما إن يبدأ الزبون ـ المواطن في إستعمال البطاقة ، أي في إنفاق أموال لايملكها وغير متيقن من أنه قادر على ردها إلى المصرف “لأنه لا يسيطر ولايتحكم بمصير حياته، غير ضامن لاستقرار دخله ،بقائه في عمله، مرض أحد أفراد أسرته ….”
حتى ينزلق في هاوية الاستهلاك ،التسوق ،السفر، الرحلات … ثم الوقوع بين مخالب العجز عن تسديد ثمن البطاقة . وبطاقات الإقتراض بهذا المعنى ، ماهي إلا رفع وهمي للقوة الشرائية والاستهلاكية والترفيهية عند الزبون ـ المواطن ،أي حل رأسمالي لأزمة فائض أنتاج …
تتلازم هذه الأسباب ـ النتائج مع إرتفاع معدلات البطاقة التي وصلت إلى 5/6 ٪ وترصد مراكز البحوث الاجتماعية والنقابات العمالية إفتقاد أكثر من /000 200 / مائتي ألف وظيفة في شهري آب ـ أيلول ، التي تشكل الأساس الحاسم للعجز عن دفع أقساط القروض ؟ كيف يدفع عاطل عن العمل ديونه !! لقد تجاوز القطاع المالي وظيفته الأساسية وموقعه في عملية الإنتاج ، تنشيط عملية الإنتاج والاستهلاك ،إلى عملية إنتاج أرباح من ودائع الزبائن خارج عملية الإنتاج ،أي في المضاربات المالية العالمية” وهو اسم لطيف لسرقة أموال المودعين في مصارف العالم ” وأوصل قاعدة نقد ـ نقد إلى أقصى حدودها التدميرية . ويشغل الدولار الموقع المسيطر على الحركة الاقتصادية والمالية العالمية ،إذ تشكل الإدخارات لدى المصارف المركزية العالمية بالدولار الجزء الأساسي منها ،كما أن 50% من الصفقات العالمية بالدولار ، وكذلك تسعير معظم الخامات والسلع الإستراتيجية بالدولار . ومقاربة العرض والطلب على الدولار تظهر مدى تحكم الإمبريالية الأمريكية بشعوب واقتصاديات دول العالم ، والتي تسمح لها ” قانونياً ” تصدير أزمتها إلى الخارج وحلها كذلك على حساب شعوب الأرض . كيف ؟
الدولار أو عملة العملات والذي يحتكر طباعته المصرف المركزي الأمريكي وبدون مراعاة مصالح الدول الأخرى . فالإحتياطي الفيدرالي يطبع الدولارات تلبية حاجات الحكومة الأمريكية من أجل سد عجز الموازنة وخدمة دينها المتزايد ، وتمويل حروبها التي لم تنته ، ودعم الأنظمة الموالية لها …
وقد نجم عن هذه العملية نمو في المديونية التي تتجاوز اليوم 50خمسون ألف مليار دولار في حين أن حصة الإقتصاد الأمريكي 14 ألف مليار دولار ، ونمو هذا الدين 10% سنوياً. وتقدر حصة الإنتاج الأمريكي 20%من الناتج العالمي ،فيما يصل الاستهلاك الأمريكي 40% من الناتج العالمي ، مما يعني أن الإقتصاد الإمبريالي الأمريكي يعيش على حساب اقتصاديات شعوب العالم .. ” عندما نقول الإنتاج الأمريكي ـ أي الناتج القومي الأمريكي ـ نحصره في جغرافية الولايات المتحدة الأمريكية ـ ولايدخل فيه الاستثمارات والشراكات وتقسيم العمل والرأسمال الأمريكي العابر للحدود القومية في الاتحاد الاوروبي واليابان وكورية الجنوبية …الخ ..
كيف ستعالج الأمبريالية الأمريكية أزمتها ؟
ينطلق منظرُو الليبرالية الجديدة من تفسير الأزمة على أنها أزمة سيولة مالية ، لذلك تصب الجهود على ضخ كميات هائلة من الدولارات لضمان السيولة النقدية ، شراء الديون الهائلة وإعادة هيكلة وجدولة ديون الشركات والمؤسسات المالية ، وتدويل ” من دولة وليس تأميم ” جعل الممتلكات ملك الأمة ” أي إستحواذ الدولة الرأسمالية على حصة كلية أو جزئية من الشركات والمؤسسات التي دخلت في مرحلة الخطر ـ الإفلاس ، كذلك السعي لإلزام دول ومؤسسات وصناديق إئتمان أجنبية بالمشاركة في تقويم المصارف المتعثرة ” عولمة الأزمة ” لكن هناك دول ستغلب مصالحها القومية على المصالح الأمريكية ودول ستنصاع . ولن نستبْعد احتمال شن حروب إمبريالية جديدة ” حروب لصوصية وقطاع طرق ” إذا استعصت مخارج الأزمة وستكون ساحاتها الدول الكولونيالية.
هل هناك عوائق لهذه الحلول ؟
الأزمة الاقتصادية الأمريكية وتداعياتها، إستنزاف الموارد الإقتصادية في موازنات التسلح والحروب التي لن تنتهي ، فالموارد اللازمة للسيطرةعلى الأزمة ستمنع واشنطن عن التفكير بشن حروب جديدة ، ستقع الإمبريالية الأمريكية في مأزق بين ضرورة شن حروب عدوانية جديدة وعدم القدرة الإقتصادية على تمويلها ، وهناك تعثر سيواجه الإدارة الأمريكية في السيطرة على الأزمة في ظل ظهور جديد للقوى العالمية ، بالتلازم مع إرتفاع أهمية إقتصاديات الدول التي راكمت فؤائض مالية وانتهى إليها الجزء الأكبر من الإحتياطات المالية العالمية : الصين ، روسيا الإتحادية و البرازيل والهند …
ما الذي يمكن أن نستنتجّه ؟
يستجدي الليبراليين الجدد الدولة الرأسمالية ” المحايدة طبقياً ، أليست دولة لكل المواطنين – الزبائن والأحرار كذلك “من أجل التدخل لإنقاذ الشركات والمؤسسات ، تعيد للدولة الرأسمالية الدور الذي تفرضه الأزمات ، أي التدخل الواسع للحد من الفوضى وتصحيح الإختلالات ، لإنقاذ الرأسمال الكبير ، وليس لدعم الفئات الوسطى كما عبرت الكنيزية بعد أزمة /29-32 / ، كذلك لكبح حرية السوق المطلقة ، السوق الذي ينظم نفسه بنفسه ،يد السوق الخفية أو يد السوق الخفيفة * ، التي تنظم العرض والطلب ، مما يدل على بداية نهاية الليبرالية الجديدة اقتصادياً ، وبداية نهاية القطبية الواحدة سياسياً ، بالمنظور التاريخي ، أي لا يعني سقوطاً سريعاً لتلك الحقبة المأساوية ، التي يحتاج تحققها الى عوامل غير متوفرة ومنظورة في السياق التاريخي الجاري.
البشرية أمام مرحلة إنتقالية !!
إن وعياً إجتماعياً نقديًا بدأ يتجسد ميدانياً في مناطق من العالم حركات وتحالفات معادية للعولمة الإمبريالية والعمل على تحسين موقع بلدانها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وزيادة حصة شعوبها بالرفاهية والازدهار : فنزويلا ، بوليفيا ، نيكاراغوا …ويأخذ في مناطق أخرى شكل الحد من توسع الهيمنة الإمبريالية الأمريكية وتوسع أحلافها العسكرية ” روسيا الاتحادية ” ..ويأخذ في مناطق أخرى شكل تململ ورغبة في تحسين موقعها مع الإمبريالية الأمريكية (فرنسا- المانيا) … ووضع قيود أمام العولمة الأمريكية . يمكن أن ينفتح هذا الإحتمال التاريخي أمام ضرورة عالم متعدد الأقطاب،
يتأسس على الحد من العدوانية الأمريكية في مصادرة موارد وأسواق ومدخرات شعوب الأرض وبالتالي تحقيق شكل من ديمقراطية نسبية في العلاقات الدولية .
الأزمة والوضع العربي !!
الإقتصاديات العربية برمتها هي إقتصاديات تابعة ومتخلفة ، ماانفكت تعتمد على تصدير الخامات الطبيعية ” النفط الغاز ” والمنتجات الزراعية والحيوانية وكذلك صناعة تحويلية بسيطة ولم تخرج عن كونها سوقاً للبضائع .. وساحة ضعيفة المقاومة أمام تصدير أزمات الإمبريالية .لذلك القطاعات المالية المرتبطة بأسواق الأوراق المالية والعملات ستتأثر مثلها مثل الاقتصاد الأمريكي ، وكل القطاعات التي أعدت سلعها للتصدير ستتأثر كذلك ، ربما الناجي الوحيد هو القطاع الذي أرسى قواعده على متطلبات السوق الوطنية وحاجات شعبه..
في سورية مثلاً :
سيشهد الإقتصاد تأثراً من ضعف التدفق الاستثماري ، وإنخفاض من عائدات العمال والمغتربين ، إرتباك في قطاعات الإنتاج التصديري بسبب الإنخفاض على الطلب … وهو الذي شهد تأثرأً حاداً في إرتفاع أسعار الطاقة ، والأزمة الغذائية ..ليس كشفاً كوبرنيكياً أن نقول إن إحتمال خروج الإمبريالية من أزمتها ممكن جداً ولكن ماينبغي تأكيده بأنها ستحل أزمتها على حساب عموم الشغيلة في بلادها وعلى حساب العمال والشعوب المضطهدة في أربع أطراف الأرض . وستخرج السيولة المالية من صناديق التقاعد والضمان الصحي والإجتماعي لا لتوظفها في التنمية البشرية والبيئة وضمان الأمن الغذائي والخدمات الاجتماعية “التعليم ـ الصحة ” بل في التعويض على قطاع الطرق واللصوص وقراصنة الثروة العامة ” التأميم مقلوباً ” وعلى العسكرة والحروب ودعم الدول العميلة و مراكز التجسس ” الأبحاث ” ومؤسسات التثقيف الديمقراطي ” عبر نشر عِرض الديمقراطية ” …
لذلك لابد أن نؤكد إن الاشتراكية حل واقعي وضروري وأمل لابديل عنه لحل حاسم ونهائي لأزمات الرأسمالية الدورية ولتحقيق حلم الشغيلة والشعوب المضطهدة في العدالة والحرية .
* ممفستو فليس : الشيطان أو ما يرمز إليه
* في ثقافتنا العربية ، اليد الخفيفة هي تعبير مجازي للإشارة إلى يد اللصوص
خاص – صفحات سورية –
حزب العمل الشيوعي في سورية