باراك أوباما: مَن يتنفّس الصعداء؟
موفق نيربية
من الممتع في أيام الحدث البارز أن يستمع الإنسان أكثر من أن يقول، لكن أمثالنا من الذين يملأ أفواههم الماء والحصى، لا يصبرون حتى على متعة الفرجة والإنصات والتأمّل المتاحة.
فرغم الانسجام المتبقّي مع الأفكار حول المؤسسة الأميركية الجبّارة وهيمنة مراكز القوة الاقتصادية والبحثية والسياسية، التي تدفع إلى الاستنتاج المتكرر بأنه لا فرق بين المرشّحين، هنالك فرق. حتى تشومسكي «المتطرّف» دعا إلى اانتخاب أحد المرشّحَين، إذ يقارن بين أرقام نموّ الفروق في الثروة أو تغيّر أوضاع الفقراء والطبقة الوسطى في عهود الديمقراطيين والجمهوريين.
يقول آباؤنا: لا خير يأتي ممّن لا خير فيه لأهله… والديمقراطيون -عموماً- أكثر خيراً لشعبهم، إذا انطلقنا من مسائل الحرية والضمان الاجتماعي والتعليم والصحة والموقف من المهمّشين والأقليات الثقافة والبيئة، وفقراء العالم، وفي ذلك كلّه هنالك فرق، ليس كما نريده، لكنه موجود. نعارض غالباً السياسة الخارجية الأميركية هنا وهناك، وأيضاً بعض سياسات أوباما الخارجية، فلطالما كان الموقف من القضية الفلسطينية معياراً تتساوى من خلاله الإدارات الأميركية منذ روزفلت وترومان حتى كلينتون وجورج بوش، وأوباما. وهو معيار يهمّنا قبل غيره، لكنَّ مفهوم الثنائية قد جعل أدولف هتلر أجمل في عيون آبائنا، فلا بدّ أن قواعد الحساب البسيطة لا تنطبق هنا. مثل ذلك الخطأ، يرتكبه اليوم من يتنفّسون الصعداء برحيل جورج بوش ونائبه تشيني. لا ينافسهم في هذا إلاّ أولئك الذين كانوا يعتمدون على حماقة إدارة بوش وتطرّفها واستعدادها للنزول إلى «الشارع»، ضد الذين يصادف أحياناً أنهم خصومنا أيضاً. تلك السياسة تجرّ إلى التطرّف والخسارة، ولا تأتي منها المكاسب -داخلياً- إلاّ على مستوى ما يشفي الغليل ويعزّز الشماتة ويدعم روح الثأر، ونحن قاعدون. في مشاريع الولايات المتحدة جوانب متعدّدة، منها ذلك الذي اعتاد بعضنا أن يسمّيه «المشروع الصهيوني الأميركي» الذي تتجلّى فيه وحدة المصالح الأميركية الإسرائيلية، والتحالف الاستراتيجي بينهما مهما تعدّدت الإدارات والحكومات، والتناقض بينه وبين مصلحتنا في حلّ المسألة الفلسطينية حلاً عادلاً ونهوض شعوب المنطقة. منذ البداية كان للمشروع فرعان: إسرائيل والنفط. وربّما أصبح النفط أكثر تأثيراً -بقليل- في الأعوام الأخيرة، بعد أن كانت إسرائيل وأمنها ودورها هي العامل الفاعل الظاهر سابقاً. ذلك المشروع تغلب عليه صفة الأمن والتأمين والضمان، أو عنصر الهيمنة كما يمكن تسميته أيضاً.
كما هو المشروع شامل متصّل، يمكن فصله سياسياً أحياناً، فالتركيز على النفط والاستراتيجيا أكثر من إسرائيل في مشروع الهيمنة ليس سيئاً لنا من بعض الوجوه، والتركيز على الجانب القسريّ البرّانيّ في مشروع «نشر» الديمقراطية أكثر من ديمقراطية المشروع سيئّ في أغلب الوجوه. في ظلّ هيمنة مشروع الهيمنة، كان الاستقرار أميرَ المفاهيم في السياسة الخارجية الأميركية، وكانت حكومات المنطقة مسترخية ومطلقة اليدِ في سياساتها الداخلية، وطال الوضع حتى أصبحت مزرعة تنمية التطرّف تعجّ بها وتفيض إلى خارجها، إلى من كان سبباً في نموّها أو بعض سبب، في برجيه التوأمين وعقر داره.
فما كان للصدمة إلاّ أن تبعث على تغيير الاستراتيجية وخوض المواجهة، متأثّرةً بعقلية الثأر، على يدِ إدارة رعناء لا ترتقي إلى مستوى متطلبات الواقع الجديد وترتكب الخطأ تلو الخطأ. ثم جاءت تلك الإدارة بخطة ملتبسة رغم وعودها، أُطلق عليها اسم «مشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط المُوسّع». فهي تحمل في بعض مضامينها تلبية لمطالب العاتبين على عنف لهاث أميركا وراء مصالحها ودوسها على القيم المؤسسة لدولتها، لكنها بقيت محاصرة بمشروع الهيمنة وعنف السياسات على الأرض وغباء الإدارة التي تقود العالم. لم يستطع أن يسعفها في ذلك تبنّي مجموعة الثماني ولا الاتحاد الأوروبي للمشروع الذي كان يمكن أن يكون له وجه آخر في ظروف وشروط أخرى لا تهمل الشرعية الدولية وشرائعها وجدل الداخل والخارج.
وتوحّدت مواقف بعض الأنظمة والنخب، لأنها لا ترضى بديلاً عن المشروع الأول المعتاد «الواقعي»، لمصلحتها في استدامة هيمنتها، ولكرهها للتغيير والتحديث. ولا ترى في المشروع الثاني إلاّ غطاءً للأول يثبت يومياً أنه كذلك، وفي الديمقراطية غطاءٌ للهيمنة ومستورداً إمبريالياً يعتدي على الخصوصية ويفرض التبعية.
يتنفّس هؤلاء الصعداء برحيل إدارة بوش ومجيء أوباما، ويحسبون أن أيام الصفاء قد عادت. لكن الحقيقة شيء آخر، ولا ترفع حملة أوباما شعاراً إلاّ «التغيير»، وذلك- مع العودة للاعتدال والمنهجية وحتى الاهتمام بالشأن الداخلي أكثر- شيء يبعث على الاطمئنان. وفي خطاب انتصاره قال أوباما إن سياسته سوف تنتقل من التركيز على القوة إلى القيم… أو شيئاً من ذلك القبيل.
* كاتب سوري