أوباما ومعتقل غوانتانامو: هل سيقترن القول بالفعل؟
صبحي حديدي
كان الرئيس الأمريكي المنتخب، باراك أوباما، قد وصف معتقل غوانتانامو بـ ‘الفصل الحزين في التاريخ الأمريكي’، معتبراً أنّ النظام القضائي الأمريكي يمكن أن يستوعب مختلف ملفات المحتجزين في المعتقل، الواقع خارج الولايات المتحدة. ولأنّ طيّ هذا ‘الفصل الحزين’ يقتضي إغلاق المعتقل، ليس أقلّ، وهذا قرار يرقى إلى مستوى الإختبار المبكّر لاقتران أفعال أوباما بأقواله أثناء الحملة الإنتخابية، فإنّ مساعدي الرئيس المنتخب سرّبوا مؤخراً أنهم يعكفون على سلسلة مقترحات: إطلاق سراح البعض، ومثول البعض الآخر أمام محاكم جنائية أمريكية، وإحالة ‘حالات الخطر العالي’ إلى محكمة أمريكية جديدة تتخصص في القضايا الحساسة التي تمسّ الأمن القومي.
والحال، بادىء ذي بدء، أنّ معتقل غوانتانامو ليس محض ‘فصل حزين’، رغم كلّ ما تثيره شروط الاحتجاز من حزن وأسى وتعاسة، بل هو في المقام الأوّل بربرية أمريكية صرفة: قانونية وحقوقية وسياسية وأخلاقية. وفي وضع المعتقل ضمن هذه الخلفية الأعرض، ثمة عبارة ـ مفتاح أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش في تبرير إنشاء هذا المعتقل العسكري، الذي أقامته الإدارة في خليج غوانتانامو يوم 11 كانون الثاني (يناير) 2002، إلى جانب حزمة إجراءات أخرى خارجة عن القانون الدولي والقانون الأمريكي ذاته أيضاً، في سياقات ما أسمته بـ ‘الحرب على الإرهاب’. قال بوش: ‘تذكروا… هؤلاء الأشخاص الموجودون في غوانتانامو هم قتلة، ولا يشاركوننا نفس القِيَم’…
إنها، إذاً، حكاية قيم، فكرية أو سياسية أو ثقافية أو حتى دينية، وليست مسألة قوانين مرعية وقضاء مستقلّ ومحاكم عادلة تنظّم شؤون الجريمة والعقاب. وأيّ انتهاك للحقوق الإنسانية والقانونية للأفراد المعتقلين في غوانتانامو مشروع تماماً في منظار أوّل هو عدم انتماء المحتجز إلى القيم الأمريكية، وأنّ تلك القيم تتمتع ـ في المنظار الأمريكي فقط! ـ بصواب أخلاقي مطلق، وبمنعة قانونية راسخة، فضلاً عن تسلحها بمختلف أنماط السطوة السياسية والعسكرية والإقتصادية… هي، في المجمل، حيثيات عليا تبيح المحظورات لحاملي القيم الأمريكية.
الحيثيات الأخرى، الأبسط في تثبيت الحقيقة ولكن الأفدح في تمثيل المأساة، تقول إنّ المعتقل يحتجز اليوم نحو 270 رجلاً، من قرابة 35 جنسية و17 لغة مختلفة، لم تُوجه تهم بأية جرائم إلا إلى تسعة منهم فقط. بعضهم اعتُقل في أفغانستان، وبعضهم نُقل إلى المعتقل ضمن ‘تكنيك’ الخطف غير الشرعي الذي مارسته وكالة المخابرات المركزية هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها. جميعهم تعرّضوا ويتعرّضون لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي (ليس أقلّها قسوة الحرمان من مقابلة أهلهم وذويهم، أو كتابة وتلقّي الرسائل…)، فضلاً عن الإهانة والتحقير والقهر المتعمد، والتقييد بالسلاسل، وإجبار المعتقل على ارتداء نظارات معتمة. وحين تشرع مجموعة منهم في تنفيذ إضراب عن الطعام، فإنه يتمّ على الفور إخضاعهم لعمليات تغذية قسرية، بواسطة أنابيب بلاستيكية يجري إدخالها إلى المعدة عن طريق فتحة الأنف!
وبالرجوع إلى بعض وقائع اليوميات التي دوّنها المعتقل البحريني جمعة الدوسري، 32 سنة، ونشرتها منظمة العفو الدولية، يؤكد الرجل أنّ القوات الباكستانية كانت قد باعته إلى الأمريكيين لقاء حفنة دولارات، وأنه خضع للإستجواب 600 مرّة، ووُضع في زنزانة إنفرادية من دون سبب، وتعرّض لتهديدات متواصلة بالقتل. كما مورست عليه سلسلة ضغوط نفسية أثناء جلسات التحقيق، بينها إجباره على الإستماع إلى موسيقى غربية صاخبة، وتركه موثوقاً لساعات طويلة في غرفة باردة جداً دون ماء أو طعام، وتعريضه للإذلال بواسطة جندية لا ترتدي سوى ملابس داخلية، ثمّ إجباره على مشاهدة مجلات إباحية.
وهكذا، ليس المرء بحاجة إلى أن يسهب في تفصيل أهوال المعتقل، الذي قد تكفي في توصيفه تلك الحقيقة الدامغة التي تقول إنه لا ينتهك اتفاقيات جنيف حول معاملة الأسرى فحسب، بل ينتهك أنظمة السجون المعمول بها في جميع االديمقراطيات، بما في ذلك أنظمة السجون الأمريكية. تكفي، كذلك، هذه الشهادة البليغة التي صدرت عن منظمة العفو الدولية تحت عنوان ‘معتقلو غوانتنامو: 4 سنوات بدون عدل’، والتي تعيد تذكير العالم، والديمقراطيات الغربية أساساً وأوّلاً، بأنّ بني البشر المحتجزين ما يزالون ‘طيّ النسيان القانوني’، والعديد منهم لم يُمنح الحقّ في ‘المثول أمام أية محكمة، أو مقابلة مستشار قانوني، أو تلقي زيارات عائلية’. كما يخضع الكثيرون ‘للحبس في زنازين صغيرة لفترات تصل إلى 24 ساعة في اليوم مع أدنى فرصة لممارسة التمارين الرياضية’، و’غالباً ما يُحتجز المعتقلون في عزلة، طيلة أشهر أحياناً، عقاباً لهم على مخالفة قواعد المعسكر الصارمة’.
وتتابع المنظمة: ‘الأوضاع الفظيعة، وما يتردد عن ممارسة التعذيب، وغيرها من ضروب سوء المعاملة، واعتقال الأشخاص في غوانتانامو مدّة تصل إلى أربع سنوات بدون عدل: هذه انتهاكات لحقوق الإنسان تثير الذعر. ومن شأن خطط الولايات المتحدة لمحاكمة المعتقلين أمام لجنة عسكرية أن تتسبب بمزيد من الظلم. فهذه اللجان ليست مستقلة، وتجيز الأقوال التي تُنتزع تحت وطأة التعذيب أو الإكراه والأدلة المستندة إلى أقاويل’. وبالفعل، شهد العالم نموذجاً على هذا القضاء العسكري، في محاكمة اليمني حمزة البهلول ثمّ الكندي عمر خضر (19 سنة، وكان عمره 15 سنة ساعة اعتقاله). الرائد توم فيلنر، المحامي الذي عيّنه الجيش الأمريكي للدفاع عن البهلول، هو نفسه الذي وصف هذه المحاكمات بأنها ‘صورية’، وأنّ ‘القواعد ليست موضوعة بطريقة تساعد المتهمين’. وأمّا النقيب جون مريام، المكلف بالدفاع عن خضر، فهو محام لم يسبق له تمثيل أيّ متهم أمام أية محكمة. وأخيراً، تمّ إعفاء القاضي العسكري نفسه، بيتر براونباك، بسبب ما أبداه من تفهّم لحقوق خضر القانونية، كما تردّد!
وهكذا فإنّ المعتقل العسكري الأمريكي في خليج غوانتانامو ليس فصلاً حزيناً فقط، كما يصفه أوباما، بل هو محض فصل واحد في المجلّد البربري الضخم الذي لم تتوقف إدارة بوش الحالية عن تدوين فصوله منذ شروعها في ما أسمته ‘الحرب على الإرهاب’. وفي هذا الصدد، جدير بالذكر أنّ جميع المتنافسين على بطاقات ترشيح الحزبين الجمهوري والديمقراطي، باستثناء الجمهوري ميت رومني الذي نادى بمضاعفة مساحة المعتقل، تعهدوا بإغلاق غوانتانامو، وتعددت أسبابهم في ذلك. غير أنّ الوعد أثناء الحملة الإنتخابية (والإنصاف يقتضي التذكير بأنّ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون كانت الأعلى بلاغة في التشديد على الوعد)، شيء مختلف تماماً عن وراثة ‘الحرب على الإرهاب’، واتخاذ القرارات بشأنها من داخل المكتب البيضاوي، في قلب البيت الأبيض.
والثابت أنّ إعلان أوباما العزم على إغلاق المعتقل اكتنفته سلسلة من التصريحات المشوشة، الغائمة في أقلّ تقدير، والتي تلقي بظلال من الشكّ حول المدى الزمني لاقتران أقواله بالأفعال، لكي لا يذهب المرء أبعد في الظنون. ومنذ نيسان (أبريل) الماضي، من منصّة مجلس الشيوخ، أبدى أوباما موافقته على إحالة بعض معتقلي غوانتانامو إلى القضاء العسكري الأمريكي، وليس إلى المحاكم الفدرالية المدنية، الأمر الذي تساجل ضدّه جميع منظمات حقوق الإنسان. صحيح أنه تحدّث، بحرارة في الواقع، عن احتمال براءة الكثيرين من تهمة الإرهاب المنسوبة إليهم في غوانتانامو (بل وضرب مثلاً من خارج المعتقل: المواطن السوري ـ الكندي ماهر عرار، الذي اعتقلته السلطات الأمريكية في مطار نيويورك، وسلّمته إلى الأجهزة السورية، بتواطؤ من الشرطة الكندية، حيث تعرّض للتعذيب والإعتقال طيلة سنة ونيف، واضطرت الحكومة الكندية إلى الإعتذار منه وإعادة الإعتبار إليه بعد الإفراج عنه)؛ إلا أنّ المثول أمام قاض عسكري أمريكي لن يساعد كثيراً في إظهار البراءة، تماماً كما برهنت محاكمة حمزة البهلول وعمر خضر، آنفة الذكر.
ما يزيد المخاوف، لكي لا يتحدّث المرء ثانية عن الظنون، أنّ كبار مستشاري أوباما في شؤون الأمن القومي ـ وفي عدادها ملفات مثل معتقل غوانتانامو والقضاء العسكري الأمريكي خارج الولايات المتحدة، خصوصاً، وحكاية ‘الحرب على الإرهاب’ عموماً ـ لا يُعرف عنهم حنان الحمائم بل حدّة الصقور الكاسرة: أنتوني ليك، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة بيل كلنتون، والمهندس الفعلي وراء غزو هاييتي؛ وزبغنيو بريجنسكي، الغنيّ عن التعريف، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة جيمي كارتر، ومهندس ‘صناعة الجهاد’ و’الأفغان العرب’ وسواهما من مسمّيات توريط السوفييت في أفغانستان؛ وأخيراً، سارة سيوال، كاتبة المقدّمة النارية لتقرير الجنرال دافيد بترايوس حول أوسع حملة تطهير عسكرية شنّتها الولايات المتحدة في العراق منذ الإحتلال، وفيها تؤكد: ‘إذا كان هنالك مَنْ يستطيع إنقاذ العراق، فإنه حتماً الجنرال بترايوس’!
وقد لا يكون من المسموح به للمرء، سيما حين يتصل الأمر برئيس القوّة الأعظم… وأوّل أفرو ـ أمريكي يتولى هذا المنصب الإستثنائي، أن يتناسى نظرية متكاملة حول الطرائق المثلى لقيادة العالم، سبق أن أعلنها أوباما على الملأ. ‘هنالك خمسة طرق لكي تعود أمريكا إلى قيادة العالم، حين أكون أنا الرئيس’، قال الرجل في خطاب أمام ‘مجلس شيكاغو للشؤون العالمية’، في نيسان (أبريل) 2007. وسنكتفي باقتباس الطريقة الثانية، التي تعنينا في هذا المقام: ‘بناء أوّل نظام عسكري حقّ في القرن الحادي والعشرين، وإظهار الحكمة في كيفية نشره’، حيث ‘سيبقى في وضعية الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار’، وحيث ‘لا ينبغي لأيّ رئيس أن يتردد في استخدام القوّة ـ حتى من جانب واحد، إذا اقتضت الضرورة ـ لحماية أنفسنا والدفاع عن مصالحنا الحيوية’.
وفي تبرير صاعق لعمليات ‘عاصفة الصحراء’ وحرب تدمير البنية التحتية المدنية للعراق وردّه إلى القرون الوسطى، تابع أوباما: ‘أمّا حين نستخدم القوّة في مواقف غير تلك التي تخصّ الدفاع عن النفس، فإنّ علينا بذل كلّ جهد لضمان دعم صريح ومشاركة من الآخرين، على غرار ما تمكّن الرئيس جورج هربرت بوش من تأمينه في تحمّل العبء والشراكة، قبيل شنّ عملية عاصفة الصحراء’. وفي ‘مواجهة الدول العاصية’، على الولايات المتحدة أن تستخدم ‘الترسانة القصوى من القوّة الأمريكية’، فضلاً عن ‘الدبلوماسية الفعالة والتحالفات المسلّحة’.
هل يرجّع هذا الخطاب صدى ما، راهناً أو سابقاً، سمعناه مراراً وتكراراً من جورج بوش… الابن، وليس الأب؟ هنا فقرة أخرى من خطاب أوباما، تمهيدية وتسبق استعراض المقترحات الخمسة: ‘إنني أرفض الفكرة القائلة بأنّ اللحظة الأمريكية قد انطوت. وأنفر من المشككين الساخرين الذين يزعمون أنّ هذا القرن الجديد لن يكون أمريكياً بدوره ونحن، بحسب كلمات الرئيس فرانكلين روزفلت، نقود العالم في محاربة الشرور الوشيكة وتوطيد الخير الأقصى. نعم، ما أزال مؤمناً بأنّ أمريكا هي أمل الأرض الأخير، والأفضل’!
وهكذا، إذْ يتوجب منح فضيلة الشكّ إلى أوباما، وأنه سوف يقرن القول بالفعل في اختبار إغلاق معتقل غوانتانامو ورفض خيار المحاكم العسكرية الأمريكية، فإنّ المؤشرات المتوفرة لا تقوم، حتى إشعار آخر مختلف، إلا بتأكيد المقولة العتيقة الصائبة: كلام ليل الحملات، يمحوه نهار اتخاذ القرار.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –