السياسة بأيدِ ناعمة
مرح البقاعي
عادت الأضواء، التي لم تنجح مساعي إقصاءها أصلا، لتختطف ابتسامة تلك المرأة الجاذبة، وتهديها للملايين من المشاهدين الذين تسمّروا اليوم خلف شاشاتهم التلفزيونية ليشهدوا الحوارات المتواصلة، وطوال يوم 12 نوفمبر، على قناة سي إن إن الأميركية، مع المرشحة السابقة لمنصب نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية وحاكمة ولاية آلاسكا سارة بيلين؛ وقد أجرى الحوارات علمان من أعلام صحافة اليسار الديمقراطي الأميركي لاري كينغ وولف بليتزر.
ها هي سارة بيلين تتجلى، للمرة الأولى، إثر التعتيم القصري الذي مورس عليها خلال جولات الانتخابات الرئاسية الأميركية العسيرة ، لتكون لأول مرة قرينة نفسها، وتتحدث بصوتها عن صوتها، وترسم بذكاء حاد خطوط موقعها على الخارطة السياسية الأميركية بدءا بمنصبها التنفيذي كحاكمة لولاية آلاسكا منذ العام 2006، مرورا برؤاها السياسية كمرشحة سابقة لكرسي نائب رئيس الولايات المتحدة، ووصولا إلى طموحاتها في تمثيل دور قيادي في الحزب الجمهوري في المستقبل القريب، وربما الترشح لرئاسة الولايات المتحدة في انتخابات دورة العام 2012.
وبعيدا عن بروتوكولات الجولات الانتخابية وتعاليم المستشارين السياسيين الصارمة وإملاءاتهم، وكذا حملة التعتيم المتعمّد الذي تعرضت له بيلين، ومن صميم معسكر الجمهوريين الانتخابي التي تمثّله، من طرف بعض المتشددين الذين أرادوا لها أن تكون مجرد بطانة حريرية لعباءة ماكين السميكة الوبر، وصورة “أنثوية” تلميعية في البطاقة الرئاسية الجمهورية لاستمالة أصوات الناخبات الأميركيات بعد تعثّر المرشحة الديمقراطية هيلاي كلينتون في الوصول إلى المرحلة الأخيرة من ترشيح حزبها على المقعد الرئاسي الأميركي أمام الفورة السياسية التي أحدثها باراك أوباما في عقول وقلوب الديمقراطيين وغير الديمقراطيين.
بدت اليوم الحاكمة سارة بيلين في ألق سياسي بليغ تحاور محدثيها في محاور متعددة تنتقل بها من شؤون وشجون المال والأزمة الاقتصادية القابضة، إلى قضايا الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، وكذا ترشيد السوق، ومشاريع تأمين الطاقة البديلة للاستهلاك الأميركي بدلا من الاعتماد على البترول المستورد والتبعية المقلقة لتقلبات طقس منظمة أوبيك ومزاجيتها النفطية. بدت المرأة التي استشرفتُ منها حماسا سياسيا عميما وإدراكا مبسطا وعفويا للحظة السياسية على دقتها وتعقيدها في منذ إطلالتها الأولى على الجمهور، بدت حاضرة البديهة، عميقة الاستجابة والإجابة على حنكة محاوريها في محاولتهم استدراجها إلى حافات السياسة ومطباتها الوعرة، وذلك بعيدا كل البعد عن الإشاعات المغرضة التي أثيرت حولها خلال الحملة الانتخابية الشرسة التي أدارها المعسكران الانتخابيان المتنافسان على المكتب البيضاوي، والتي تعمّدت المساس بكفاءاتها السياسية والمعرفية، وقدراتها القيادية وفطنتها الإعلامية، ونزاهة تجربتها الإدارية كحاكمة لولاية آلاسكا.
ومن أشرس ما تعرضت له سارة بيلين كامرأة أولا، وأم تاليا، هو تلك الانتقادات المغرضة التي تسللت إلى عقر دارها والزوايا شديدة الخصوصية من علاقاتها مع أفراد عائلتها، بدءا من مساءلتها عن حمل ابنتها غير الشرعي وهي السيدة المحافظة التي لم تستطع حماية ابنتها المراهقة من الوقوع في مشكلة الحمل خارج الزواج، مرورا بالتهم الذي وجهت إليها باستخدام نفوذها كحاكمة لآلاسكا للانتقام من طليق شقيقتها والعمل على طرده من عمله، وصولا إلى محاكمة قدرتها كأم لخمسة أبناء وبنات على إدارة منصب شديد الحساسية كمنصب ناب رئيس الولايات المتحدة. وأنا لا أجد في هذا الأخير إلا افتراء وانتهاكا تعرضت له بيلين لمجرد كونها امرأة تترشح إلى “منصب تنفيذي”، فهل سبق أن سئل مرشح “رجل” لنفس المنصب، وله عدد من الأولاد، عن قدرته في إدارة عمله بما لا يتنافي مع مسؤوليته كأب؟!
هذا التمييز الذي تعرضت له بيلين قد يكون مبرَرا عندما يأتي من طرف الخصم السياسي المنافس على المنصب نفسه، لكن أن يتطور داخل المعسكر الذي تنتمي إليه بيلين، والذي تحارب تحت لوائه وبسلاحه، فهذا والله لمن الكبائر! فقبل أن تضع الحملة أوزارها بدأ توجيه أصابع الاتهام إلى بيلين، ومن داخل المعسكر الجمهوري، بأنها كانت السبب المباشر لخسارة السيناتور ماكين، وتاليا الحزب الجمهوري، لكرسي البيت الأبيض.
أمس قام تلفزيون فوكس ـ اليميني بامتيازـ بزيارة إلى منزل سارة بيلين في آلاسكا، وأجرت معها الإعلامية المخضرمة غريتا فان حوارا ذا شجون بث على حلقتين ليومين متتاليين. ومن اللافت أن كافة الإعلاميين الذين حاوروا بيلين في اليومين الأخيرين قالوا على الملأ أنهم لم يتوصلوا إلى الحوار معها أثناء الانتخابات ـ رغهم إلحاحهم على لقائها ـ بسبب الحصار الذي كان مضروبا عليها من قبل مستشاري ومدراء الحملة الانتخابية للحزب الجمهوري، والذين كانوا يريدون تحويل الأضواء عن الحاكمة بيلين بأي ثمن، والسبب في رأيهم يعود إلى كونها لا تقبل توجيهات المستشارين وترفض أن تتلقى تدريباتهم قبل ظهورها العلني في الإعلام أو المناسبات الخطابية العامة، أي باختصار (رغبتها أن تكون صورة نفسها لا “دمية” الحزب المتحركة منه وبه).
أميركا الفرص والخيارات الكبرى لم تبدُ لي مهيّأة لتنصّب “امرأة” على الكرسي التنفيذي الأعلى لدولتها العظمى ولا على نيابته، بينما قررت بإجماع منقطع النظير، في الرابع من هذا الشهر، أن تمنحه إلى رجل”أسود”، ولأول مرة في تاريخها منذ تحرير السود. فهل التمييز ضد المرأة هو آخر أعراض التفرقة العنصرية التي مازالت تنخر المخ البشري مهما ارتقى في سلم المعرفة والحضارة؟ وهل تنجح أميركا في السنوات الأربع القادمة أن تتحرر من عقدة الفصل العنصري على أساس الانتماء “الجنسي” كما نجحت في حسم أمرها على أساس “العرقي” منه، وانتخبت أوباما الأسود سيدا للبيت الأبيض؟
كل الإشارات تنبئ أن سارة بيلين، وبذكائها السياسي الغرائزي، ستخرج من التجربة العسيرة بزاد أغنى وشعبية أوسع وتصميم أكبر على خوض المعركة الانتخابية مجددا في العام 2012 ، ولكن مباشرة إلى سدة الرئاسة، وليس النيابة، هذه المرة، بعد أن يدخل الحزب الجمهوري في عملية إسعافية باتت ملحّة من أجل إعادة إنتاج خلاياه الضامرة، والدفع باتجاه التحديث والوسطية في صفوفه بعيدا عن مغالاة أصحاب اليمين المتطرف منه، الذي بات يأكل أول ما يأكل أبناء جلدته السياسية.