هدايا عربية!
الياس خوري
الخبر الذي نشرته ‘القدس العربي’، بتاريخ 8-11-2008، عن المزاد العلني الذي سيقام في تل ابيب من اجل بيع الهدايا العربية لقادة الموساد الاسرائيلي، لم يستوقف احداً. كتب زهير اندراوس الحكاية من الناصرة، وفيها ما فيها من تفاصيل المهانة المستمرة. لكن يبدو ان لا احد يبالي، او ان هناك مشكلة كبرى اسمها القيم الاخلاقية.
لقد انتهت الاخلاق في السياسة العربية، ولم يعد احد يستحي. مئير دوغان، رئيس الموساد الاسرائيلي، يفخر بالسيوف العربية المرصعة والمذهبة، التي اهداه اياها زعماء العرب. يعرض السيوف في مكتبه بالقرب من تل ابيب، ولا يبالي.
والسيد دوغان يمتلك كل الحق في ان يحتقر من ارسل اليه الهدايا، التي ستباع في المزاد العلني التي تنظمه الحكومة الاسرائيلية، بعد ايام في تل ابيب. لماذا عليه ان يبالي، طالما لا كرامة ولا اخلاق في الجانب العربي.
ساعات اردنية وقطرية، سيجار كوهيبا، الكوبي الفاخر تلقاه اولمرت، آلة موسيقية ثمينة تلقاها شارون، ساعات مرصّعة ثمينة، والى آخره…
الفلسطينيون يموتون بالرصاص والقمع، تهدم بيوتهم، وتقتلع اشجار الزيتون من حقولهم، بينما يتفنن القادة العرب، من الدول المعتدلة والممانعة، في اغداق الهدايا على الزعماء الاسرائيليين، وفي الانبطاح امام القتلة!
لا ادري لماذا؟ الا يعرفون ان الهدايا التي تُرسل الى المسؤولين الاسرائيليين، تعتبر ملكا للدولة، وان مصيرها المزاد العلني، الذي سيغرقهم في العار؟ ام انهم يعتقدون انهم يمارسون تقاليدهم في شراء الناس؟ وتزين لهم سذاجتهم ان هذا ممكن في كل حين؟ ام انهم يشترون رضى القاتل الاسرائيلي بالهدايا، بينما يتغرغرون بالكلام عن المقاومة والحقوق المشروعة؟
شكرا للسيد دوغان، لا لأنه يقود جهاز الاستخبارات الاسرائيلي الذي لم يتوقف منذ تأسيسه عن ارتكاب الجرائم، بل لأنه يحتقر هذه الفئة من السياسيين العرب، التي لا تستأهل سوى الاحتقار.
لكن هناك مسألة حيرتني، واتمنى ان اجد لها جواباً، ما هي الآلة الموسيقية التي اهديت للجنرال شارون، ومن اهداها له؟
موسيقى وشارون؟ هذا يذكرني بواقعة مروعة حدثت خلال مذبحة شاتيلا وصبرا، وروتها بيان نويهض الحوت في كتابها الرائع عن وقائع المذبحة. فقد امر القتلة ضحاياهم بالرقص، وهم يقودونهم الى المدينة الرياضية، حيث نفذ الفصل الاخير من المذبحة. مشهد يذكّر بفظائع معسكرات الاعتقال النازية، ويشير الى نفسية مريضة تحكمت بالقتلة، وعلى رأسهم المسؤول الأول عن المذبحة. هل اراد الزعيم العربي ان يطرب امام رقصة الضحايا؟ ام انه اراد ان يعلن انه مجرد جاهل وسفيه؟
يقول اللبنانيون الذين خبروا فظاظة شارون السفّاح، انه كان يحب الطعام كثيرا. وانه كان يأكل في احد افخم المطاعم البيروتية. كان المطعم يحمل اسما فرنسيا، هو ‘او فيو كارتييه’، اي ‘في الحي القديم’. المطعم لم يعد موجودا اليوم، وهدم المبنى الذي كان يحتله. كان طعام شاون المفضل هو اللحم، لكنه كان لا يشعر بالشبع في هذا المطعم الفرنسي الممتاز. يقال، والله اعلم، ان الجنرال كان عند خروجه من المطعم، يمر بأقرب مطعم لبيع الشاورما، يأكل سندويشين على عجل، قبل ان ينصرف الى تنظيم المذابح في لبنان.
كان اجدى بالزعيم العربي ان يهدي شارون سيخاً من الشاورما، بدلا من الآلة الموسيقية. لكن ماذا نفعل بمزيج الجهل والضِعة؟
المسألة تتعلق بغياب الرأي العام في بلادنا المنكوبة بالتلفزيونات الفضائية، التي لن تجرؤ محطة واحدة منها على نقل الخبر بالصوت والصورة. فالفضائيات العربية، صارت منابر اعلانية لا اعلامية، مهتمها ستر العورات لا كشف الحقائق.
اسرائيل تحتفل بهدايا العرب، في الوقت الذي يحتفل فيه الفسطينيون بانقساماتهم. الشرطة الاسرائيلية تطرد امرأة وزوجها المقعد من منزلهما في الشيخ جرّاح في القدس العربية، بينما يفرط الحوار الفلسطيني في القاهرة.
والسؤال هو على ماذا يراهن من قرر فرط الحوار؟
اغلب الظن انه يراهن على محور الممانعة الذي يمتد من طهران الى دمشق مرورا بالدوحة. لكن كيف سيبررون الساعات القطرية المعروضة في المزاد الى جانب الساعات الأردنية؟ ام ان شهوة السلطة تعمي العين والعقل؟ ام ماذا؟
الانقسام الفلسطيني والتفكك والحصار، هي الهدية الكبرى المعروضة، ليس في مزاد تل ابيب، بل في مزاد التاريخ. لكن مشكلتها ان لا احد سوف يشتري. الساعات والسيوف سوف تباع بعد ايام، وسوف يشتريها اثرياء من اليهود، اما الانقسام الفلسطيني فلن يشتريه احد. الممولون من الجانبين يضحكون عليكم، يدفعون كي يستشري الانقسام، ثم سوف يتركونكم الى الانحلال.
كفى.
اذا كان الرأي العام العربي عاجزا عن ايقاف فضيحة المزاد العلني في تل ابيب، ومحاسبة زعمائه، فان على الرأي العام الفلسطيني ان يتحرك اليوم لا غدا. مزاد بيع القضية وتحطيمها يصنعه الانقسام وشهوة السلطة والحمق.
كفى.
القدس العربي