صفحات سورية

آذار دمشق هل يبشر بربيع مستحيل أم بصيف جهنمي؟

null

أحمد منصور

ليس هناك أقسي من أن يتكلّم شعبٌ لغةً ما كانت لغته كما هو الحال عند القبائل والشعوب الإفريقية بصورة عامة وعند أشباه المثقفين بشكلٍ خاص.

كما أنّه ليس أقسي علي دولة عظمي رايتها لغتها الإبداعيّة في العالم عندما تُحيلها الغطرسة الشّيطانيّة المفروضة الي لغة تعميةٍ وتمويه وغموض لتصبح كالعملة النيكليّة أو النحاسيّة الممسوحة.. كذلك ليس أشدّ قساوةً وألماً عندما تغدو لغة البيان والشّعر والإعجاز والدّين والعلم لغة الذين يَلْغون.. لغة الذين ما استحمّوا برمالها العربيّة وما غسلوا وجوههم بأندائها وما تنشّفوا بشموسها وما استقاموا علي الله أكبرها ولبّيك لبّيها وما عرفوا الضّلال في لحنها.. أجَلْ ليس أقسي علي لغة عَرُبَ: لغة الكينونة والصّيرورة من أن تتحوّل الي لغة التأتأة والوقوقة واليعني ـ يعني والنّعيب والنّقيق.

لقد استحالت العربيّة (التي لم تعد عرباء) تتلوّي في ثلاثة ألسنة متراكبة: لسانٍ يُضمر.. ولسانٍ يقول ولسانٍ يفعل.. نقول هذا، لثقتنا مع الأسف أنّ عرب آخر زمان هم العرب الذين توقّفوا في أودية التخلّف وهُوَّاته السياسية واستعزّوا بالاستقالة من الوجود الرّسالي منذ ألف سنة علي الأقل.. استقالت هذه الأمّة الوسط التي توسّطت قلب العالم القديم ونامت علي بحار الرّمال التي تهرب منها حدودها لتعانق الآفاق الهاربة، ثم قامت من علي محيطٍ من النّفط عوّمتها عليه خراطيم الدّول العظمي باصقة إيّاها بشكل كاريكاتيريّ علي التّضاريس الزّما-مكانيّة في القرنين العشرين والواحد والعشرين..

نقول هذا رغم كلّ الإرهاصات النهضويّة التحريريّة التي هرستها أشداق الجاهليّات العائدة وسليلاتها واستسهال الخيانات والعمالات التي لا تزال تعشّش في النفوس فأوصلتنا الي ما أوصلتنا اليه (مثل ما يجري في غزّة.. والضفّة الغربيّة.. وفي لبنان والعراق والصحراء الغربيّة وجنوب السّودان ودارفوره.. ونزوح شباب المغرب ووادي النيل المأساوي الذي تحصده أشداق الحيتان المتوسّطيّة وتقرشه أسماك القرش قبل ملامسة سواحل الألدورادو الأوروبيّة الذّهبيّة التي تموج باللبن والعسل والغزل الي ما لا نستطيع ذكره كلّه وحصره.

لقد كان وَقْع وايعرباه أو وامعتصماه يفجّر غاباتٍ من الرّجال تنهال كالسّيول جارفةً أمامها القامات والألسنة المتطاولة علي الأعراض والكرامات العربيّة.. أمّا اليوم فغزّة تمور بالنيران والدّمار والدّخان والدّماء وبمئات القتلي والجرحي وكأنّ ذلك يجري في كوكبٍ آخر لا يعني لأهل العروبة سوي الهروب والعزوف عن رؤية أمثالهم في اللّحم والدّم والانتماء بل الانكباب علي ما لذّ وطاب.

لقد سبق تأسيس الجامعة العربيّة (او المانعة من جمع العرب) تأسيس جمعيّة الأمم المتحدة كما تلا ذلك مشروع الدّفاع المشترك الذي لم يكن مشتركاً إلاّ علي الورق المُتبادَل بالاضافة الي السّوق العربيّة المشتركة التي ما اشتركت إلاّ بالفراغ المتواصل ذاك أنّ التجارة العربيّة بمعظمها تجري مع الغرب أمّا ما يجري فيما بينها فلا يزيد عن الثمانية الي العشرة في المئة.

هذه الدُّول العربيّة الممتدّة بأصفارها الإثنين والعشرين وبمشاريعها الوحدويّة أو الاتّحاديّة الهزيلة المنافقة.. كلّها تدعو الي القرف والاشمئزاز لأنّ وحدة الأصفار لا تستولد إلاّ أصفاراً وأقزاماً يتعملقون عبر شاشاتهم أمام الخواء الصحراوي والمحيط اللامبالي.

كيف لا؟ وهذه الأنظمة لم تفرّخ إلاّ أشكالاً بشريّةً من البلاستيك الناطق.. فكأنّهم بين فكّي الراديو والتلفزيون عبر أنياب وأضراس زعمائهم الصوتيّة التي لا تكلّ ولا تملّ بل تسلّ وتشلّ الملايين المسطّحة المسلّمة أمرها الي مُلهمي آخر زمان.

إنّ عربيّ اليوم ما زال ـ فكرياً ـ في مرحلة البداوة والقبليّة، فالدّولة إمارة وحيّ قبيلة والشعب قبيلة كبري.

فالعرب لا ينتمون ـ عضويّاً ـ لا الي التاريخ المعاصر ولا الي جغرافيّته. فلئن حَضَرْتَ اجتماعاتهم المتفرّقة والمعشّشة في الصالونات الحميمة او الموصدة فإنّك لا تسمع إلاّ أنّ هذا البلد نهش ذاك البلد، والحرب حرب حدود بينهم وامتداد قبائل وعروش وتيجان وآبار نفط وما لا تستطيع تحديده من متاع هذه الدنيا ومتعاتها. فالعدوّ هو المجاور العربيّ لا الاسرائيلي الذي غدا جاراً بفعل الاغتصاب والاحتلال. ولو تأرشفت فضائحهم المستورة التي يكشف البعض منها بعض الصّحف الغربيّة لكان الكفر العربيّ قد بدأ يعرف طريق الايمان، ولكانت الحقيقة أخذت تتجلّي من ركام الواقع الأسود المرخي بصدره علي الارض اليابسة من الروح والمحبّة والعروة الوثقي.

بالعربي الفصيح ليس هناك أمّة عربيّة في عصرنا بالمعني المتعارف عليه بل هناك أشباح مُشلَّخة مترامية علي محيطٍ من الرّمال تبدأ من عربستان الي ديار بكر فالاسكندرون حتّي الصحراء التي استردّها المغرب… تتجاور في حناياها بحورٌ وبحيرات من النفط والغاز حزَّزتْ أديمها أهواء الغرب وناخت عليها الجمال العربيّة والضباع والثّعالب والكلاب راضيةً مرضيّة مطمئنّة تهدهدها الأيدي الأمريكيّة والغربيّة الأمينة. وما كلّ مؤتمرات القمم أو الرمم سوي عنعنات متداعية عندما يصيبها زلزال يشقشقها فتنتهي بالتّلاقي الافتراقي كفقاعات الصابون ما عدا مؤتمر الخرطوم مؤتمر اللاءات الثلاث أمام هزيمة حزيران 1967 والذي لا نستطيع توقّع مؤتمر آخر علي منواله في الزّمن الظّلامي المستمرّ. كما أننا لا نستطيع إلاّ أن نضع مؤتمر القمّة الإسلامي في نفس السّياق السّلبي التّعيس.

إنّهما كحصانين تَسَمّرا في مكانيهما جنباً الي جنب فأصبحا حمارين لم يعرفا الانطلاق ولا الانعتاق حتّي ولو رفعتهما الرّافعات البرجيّة علي متونها الي أبعد الأبعاد. إنّهما مَضْيَعةٌ للوقت وإهدار للآمال والجهد والأموال.. إذ ما عسانا ننتظر من مؤتمر عندما يُبدأ بتوزيع بيانه النهائيّ قبل الانعقاد بعد أن تكون قد هندسته واستنسخته صديقة العرب أمريكا ممّا دفع مرّة القذافي الي حمله ورميه علي طاولة في مقهي هرباً من المسخرة بين السّقوف والجدران متحدّثاً مع الناس وعارضاً أمامهم في مسرحٍ حيّ مهزلة العرب الطقوسيّة الحديثة علي خصور الأعوام التي طلّقها الأمل. وما هو أضرب وأمسخ من هذه المؤتمرات ليس سوي اللجان التي تتمخّض عنها فهي كالجبال التي لا تلد إلاّ الفئران والصّراصير.

باختصارٍ شديد لم يعد العرب عرب السّاحة بل ساحة بين إيران وأمريكا ساعتها اسرائيل. وفلسطين قضيّة العرب المركزيّة لم تعد مركزيّة والعراق سقط مستعمرة أمريّكية من مستعمرات الهنود الحمر حيث يعيشُ اندثاره واقتلاعه شيئاً فشيئاً.. أمّا العرب ـ بكل مرارة -فإنّهم تركوا التاريخ حتي إشعار آخر. إنّهم بحاجة ماسّة الي سلسلة من المعجزات التي تحاكي معجزات الأنبياء او الآلهة.

في هذه البانوراما الخسوفيّة وفي هذا الظرف القاتل ستشرّع دمشق أبوابها لمؤتمر القمّة العربي. فالسّعوديّة ومصر ـ توأماها في المثلث المعتاد المتساوي حيث تشكل سوريّة أحد أضلاعه ـ ليستا علي ما يرام بعلاقاتهما معها بسبب لبنان بشكلٍ خاص. كما أنّ علاقاتها مع الأردن لم تكن يوماً كما ينبغي إلا ما ندر.. ناهيك عن علاقاتها مع فتح والبعض من المنظّمات الفلسطينيّة، ومع العراق ولبنان منذ بداية القرن الواحد والعشرين علي الأقلّ. بينما نري علاقاتها مع ايران تتميّز بالاستراتيجيّة، أمّا مع تركيا فهي في تحسّن يراوح مكانه.

لقد انطربت دمشق النّظام بطبيعة الحال لاختيارها عاصمة ثقافية للسّنة الجارية، لكنها في أواخر الشهر الحالي ستكون كعبة العرب وهذا ما سيشكّل قفزةً نوعيّة لها بنظرها.

لا شكّ أن نظامها يعوّل علي هذا الحدث لكسر عزلتها وللتأهّب للعب دورٍ قويّ مركزيّ بالنسبة للمرحلة المعاصرة والقادمة مرحلة الابن الذي ديدنه خلافة الأب بفاعليّة الافعال التي لم تعثر علي بوصلتها الموصلة بعد. فالامريكيون بالذّات ما اعتادوا إلاّ استحصال ما استطاعوا دون أيّ مقابلٍ من جهتهم. لا شكّ أن الظروف تغيّرت ولكنّ دمشق أمّ التجارة والسياسة منذ آلاف السنين ما اعتادت العطاء دون مقابل فعلّ الأخوّة العربيّة المفقودة تُوجد لها بعض عناصر الوجود المواجه أمام المحور الاسرائيلي الأمريكيّ الفولاذي فيعود التّوازن الي شيءً منه.

وهذا يجب ألاّ يُنسينا أنّ السياسة الخارجيّة لأيّ بلدٍ يحدّدها وضعها الدّاخلي. فهل الوضع الدّاخلي في سوريّا سليم؟

هل هناك ديمقراطية حقيقية ومشاركة شعبيّة جماهيريّة كما في خمسينات القرن الماضي؟ هل دمشق ما زالت بيت العرب المشترك بالفعل كي يفتح النّظام أبوابه للجميع كما يجسّد ذلك الدستور العربيّ السّوريّ أم أنّ هناك تأشيرات متعدّدة غير مرئية علي الارض يستلزم الحصول عليها ما لا يدخل في عالم الحسبان والتحسّب كي يطأ العربيّ أديم الفيحاء بأمان؟ ناهيك عن المطبّات الأمنيّة التي يعجز عن معرفتها كلّ من له انتماء قويّ أصيل فيبسمل ويحمدل ما أمكنه الصّبر، أضف الي ذلك: هل اللغة الخشبيّة لحزب المليوني عضو (مع عدم تناسي الجبهة التقدّمية الحليفة العريقة) هي اللغة المطلوبة والناطقة بعروبة دمشق ومركزيّة دمشق؟

لقد كان المواطن السّوري في الخمسينات سفيراً لبلده في بلده متعلّقاً بها الي حدّ العشق فهو لا يريد مغادرتها، بل يتلهّف الي المشاركة ببنائها واستحضار تاريخها من جديد. كما كان الشعب السّوري عائلة كبري بالفعل (رغم التفاوت الطبقي) فيها التّضامن الانساني والمادي في الشارع والمصنع والمدرسة والجامعة..

يكفي أن نتذكّر أواسط الخمسيمات وحرب السويس 1956 والوحدة عام 1958 كيف كانت الجماهير تتفجّر أنهاراً بشريّة طيلة شهر شباط (فبراير) شهر الوحدة من الفجر الي النّجر. كما يجدر أن نعود الي اجمل أيّام لسوريّة الديموقراطية أيام لم تكن تتجرّأ المخابرات علي التحشّر بالطّلاب والعمال والفلاحين والمثقفين في تظاهراتهم إذ ليس أخطر علي المواطن السّوري العربيّ الأبيّ إلاّ أن يركبه الخوف فلا يعود الأسد أسداً ولا الفارس فارساً إذ كيف كان بالامكان أن يسدّ الآفاق ربع مليون فارس يعربيّ بين الأندلس والصّين لو كان ركبهم الخوف؟

فالخائفون لا يمكن أن يكونوا أحراراً كي يحرّروا ويكونوا من الفاتحين صنّاع الأمّة. سورية العظيمة بحاجة طارئة الي اطلاق قوّاتها الدّاخلية والخارجيّة الهائلة واعادة النظر في كل شيء خنقه الصّدأ وأن تكون الوطن الثاني لكل مواطن عربي حيثما كان. لا ينقص سوريّة الرجال والكفاءات لايجاد الحلول للمسائل المستعصية إنما النّقص في عدم ملء المراكز برجالها المناسبين المسؤولين الكثر وليس هناك أسوأ من تعيين المقرّبين والموالين لمفاصل سوريّة التي لا ترحم. وهل علي دمشق أمّ التّجارة والسياسة أن تصبح مختبراً لرجال الصُّدَف والأقدار المقدّرة وأصحاب المطامع المنطمرة التي تنتظر فرص تحقيقها عن طريق الرجال المنتظرين الذين أوصلوهم الي الحكم بالاضافة الي تصفية حساباتهم المزمنة مع الآخرين؟

إنّ أمام دمشق فرصة العودة الي دمشق واعادة سوريّة الي سورية العظيمة كي تعود بدورها الي العرب، وما ذلك إلاّ باتّخاذ المبادرات الرائدة كخلق المعجزة الممكنة بانتخاب رئيس جمهوريّة للبنان قبل انعقاد المؤتمر، وهذا لا يكلّفها سوي خطشة قلم وإشارة صوت (ولندع اللغة الخشبيّة الي النجّارين وصانعي التّوابيت وحفّاري القبور لا الي صُنّاع الأمّة ومستنهضيها).. فما تبلغه سوريّة بأدمغتها أبعد بكثير مما تبلغه ببساطيرها وأسياطها وتقارير عيونها. فالمطلوب من النظام السّوري ليس سوي القليل الذي يعتبره النظام كثيراً بحسب رؤيته. فالشعب السّوري العظيم سرعان ما ينسي كل شيء عندما تطلق يده وارادته نحوالتاريخ فيهبك كل ما لديه من أشياء، ولكنّ ذلك لا يدركه إلاّ رجال الدول الذين يحلمون بأن تُحْفر وتُنْقر اسماؤهم وسيماءاتهم في أعتاب ومعالم دمشق العائدة الي التاريخ من جديد. فهل يفتح جيراننا الأكارم أذهانهم وذاكرتهم؟

إنّ مؤتمر دمشق هو شطّ العرب الذي يبحث فيه عن نفسه عن الأجوبة الملحّة للاسئلة الاكثر إلحاحاً.. وإلاّ فلن يرفق الجحيم المتربّص الذي لن تكفّ أنياب تنانه النيرانيّة عن خرق وحرق الاخضر واليابس والأيبس في المنطقة فهل نحن ـ يا تري ـ لكلّ ذلك مدركون؟

كاتب من لبنان

21/03/2008

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى