انتصارات المحافظين في واشنطن وطهران
باتريك سيل
من هو، سياسياً، في حالةٍ أفضل؟ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أو منافسه العنيد، الرئيس الأميركي جورج بوش الابن؟
ينتمي الرئيسان إلى صقور المحافظين. كلاهما سحق المعارضين في بلده وفرض سلطته. إلا أنهما يواجهان صعوبات كبيرة سياسية واقتصادية واستراتيجية. إلا أنه من بين الاثنين، يبدو أن الرئيس الإيراني هو أكثر نشاطا وحيوية من خصمه الأميركي.
وفي كلّ من طهران وواشنطن، فاز المحافظون المتشددون أخيراً في امتحان قوة مقابل خصومهم الأكثر انفتاحاً. إلا أنه لم يتّضح على الإطلاق أنهم سيحافظون على هذا التقدم لوقت طويل. ففي البلدين، يبدو أن التغيير يخيّم على الأجواء. وإن لم يحصل هذا التغيير على الفور، فعلى الأكيد سيحصل في السنة المقبلة.
في إيران، ساهمت الانتخابات التشريعية التي جرت خلال الشهر الجاري في إحكام قبضة أحمدي نجاد وحلفائه على السلطة موقتاً. وبعد الجولة الثانية من الاقتراع النهائي التي ستجري خلال الشهر المقبل، من المرجح أن يسيطروا على ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان البالغ عددها 290 مقعداً. أما المقاعد المتبقية فستتوزع بين المحافظين المعتدلين، المنتقدين لشعبوية أحمدي نجاد، والإصلاحيين أتباع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي.
لا يعود التمثيل الضعيف نسبيا للإصلاحيين إلى فقدانهم الدعم الشعبي، إنما إلى قيام وزارة الداخلية ومجلس الأوصياء – أي الهيئة الثيوقراطية حارسة النظام – بإقصاء مئات المرشحين الإصلاحيين في تدقيق سبق عملية التصويت، ما استدعى اتهامات من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي بأن الانتخابات لم تكن حرة ولا نزيهة.
إلا أنه في واشنطن، تم تفسير الاستقالة المفاجئة للأميرال وليام فالون، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، بشكلٍ واسع على أنها انتصار للمحافظين الجدد على «الواقعيين» في أروقة السلطة في أميركا. وبالفعل، يعتبر الأمر بمثابة سحق المعارضين، ربما ليس على غرار إيران، إنما بالأهمية نفسها من منظار الخيارات الاستراتيجية.
ويقال إن فالون دعا، بصورة علنية على الملأ إلى حدّ لم يأتِ لصالحه، إلى «التعاطي» مع إيران، بدلاً من سياسة التهديدات الحالية، والعقوبات والتوعّد، وإلى انسحاب القوات الأميركية من العراق بأسرع من نمط الانسحاب الذي كان من الممكن أن يتقبله نائب الرئيس ديك تشيني، وقائد القوات الأميركية في العراق الجنرال دايفيد بيتراوس، كما أنه دعا، بشكلٍ عام، إلى نقل تركيز الاستراتيجية الأميركية بعيدا عن العراق وإيران باتجاه باكستان وأفغانستان، وهما مسرحا نزاع يبدو بنظر فالون انهما يشكلان التهديد الأكبر بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ويبقى الانتظار لرؤية ما إذا كانت انتصارات المحافظين في كلّ من واشنطن وطهران ستصمد أو ستسقط قريباً. فالرئيس بوش فقد مصداقيته، ويظهر بمظهر الرئيس الضعيف الذي ينازع للتمسك بما بقي من سلطة خلال أشهر ولايته الأخيرة. وإذا فاز باراك أوباما بترشيح الحزب الديموقراطي ثم بالرئاسة – فمن المرجح أن تشهد العلاقة الاميركية – الإيرانية تحولاً، بشكل يوافق عليه الأميرال فالون. ومن المرجح أن يتم تطبيع العلاقات على الأقل، وبدء حوار وتبادل سفراء، حتى إن لم يرْقَ هذا التحسّن إلى مستوى «المقايضة الكبرى»، التي أملها بعض المعلّقين.
وبات أحمدي نجاد بدوره، موضع هجوم في الداخل الإيراني. ويعود سبب ذلك بشكل كبير إلى سياساته الاقتصادية المدمرة. وبهدف كسب التأييد الشعبي، قام بوضع يده على عائدات النفط الإيراني من خلال توزيعها بشكلٍ سخي. إلا أن التضخم الذي تعدت نسبته 20 في المئة، إلى جانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسكن إلى مستويات قياسية، ألحق الضرر بالايرانيين الذين يعتبرون في أسفل الهرم الاجتماعي والذين كان يأمل نجاد بمساعدتهم.
ومن المرجح جداً أن تتم محَاسبة نجاد خلال الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة. وينتظر ان ينافسه النقّاد الاقوياء لسياسته، مثل عمدة طهران محمد باقر قاليباف، وكبير المفاوضين السابق في الملف النووي علي لاريجاني (الذي تم انتخابه عن مدينة قم بغالبية ساحقة)، ورئيس البرلمان الإيراني غلام علي حداد عادل – منافسته على الرئاسة، وكذلك الإصلاحي الأول الرئيس السابق محمد خاتمي.
الأزمات الاقتصادية التي تسبب بها أحمدي نجاد سيئة، إلا أنها لا تقارن بالأزمات التي تسبب بها الرئيس الأميركي. فحركة الرئيس بوش مشلولة بفعل أزمة مصرفية وائتمانية أميركية غير معهودة منذ الحرب العالمية الثانية.
فقد انهار الدولار الذي كان قوياً أمام ناظريه، وهو مهدد بالاستمرار بالانهيار. والاقتصاد الأميركي في حالة ركود، وقد استهلك العراق مليارات لا تحصى – ربما ما يعادل ترليونين أو ثلاثة ترليونات دولار! كما أن الشركة المالية الاميركية الضخمة «بير ستيرنز»، تم بيعها مقابل ثمن زهيد، في حين أن صندوق «كارلايل كابيتال كوربورايشن» المهم قد تمت تصفيته قسراً. إضافة إلى وقوع مؤسسات مالية عريقة أخرى على غرار «ليمان براذرز « في دائرة الخطر. وتشهد «وول ستريت» موجة هلع. وبالتالي فإن الوقت مناسب حاليا للأثرياء والشجعان لانتهاز فرص شراء الأصول بأسعار منخفضة.
ومقابل خلفية المسائل هذه، يبدو أن جهود نائب وزير المالية الأميركي، والمنتمي إلى فريق المحافظين الجدد، ستيوارت ليفي، لتقويض اقتصاد إيران مثيرة للسخرية. فقد فرضت الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على مصرفين كبيرين إيرانيين، «بنك ميلي» و «بنك صادرات»، وخلال الأسبوع الماضي أقدمت على تجميد الأصول الأميركية لمصرف آخر – «بنك المستقبل» في البحرين – والمملوك بنسبة الثلثين من قبل «بنك ميلي» و «بنك صادرات».
وتندرج هذه التدابير العقابية في إطار محاولة خاطئة ترأسها الولايات المتحدة الأميركية لعزل إيران من خلال تقويض علاقاتها مع شركائها الأساسيين في التبادل التجاري في الخليج. إلا أن الأرقام تشير إلى فشل حملة ليفي. والحال ان حجم التبادل التجاري ارتفع بين إيران ودبي إلى ما يزيد عن 11 بليون دولار سنة 2006، مقارنة مع 7.8 بليون دولار سنة 2005، ويعتقد أن التبادل قد ارتفع ليقارب 14 بليوناً سنة 2007. ولقيت محاولات أميركا لحشد العرب «المعتدلين» سياسياً ضدّ إيران – وهي محاولات جاءت في صلب موضوع زيارة نائب الرئيس ديك تشيني إلى المنطقة خلال هذا الأسبوع – مصير العقوبات الاقتصادية نفسه. فالمملكة العربية السعودية ومصر ودول الخليج لا تريد الانضمام إلى حملة الولايات المتحدة السيئة التخطيط ضدّ إيران.
وأخيراً، قام نائب رئيس دولة الامارات العربية المتحدة وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد، بزيارة طهران، في حين أن أحمدي نجاد لقي استقبالاً حاراً وعفوياً أكثر من الاستقبال الذي لقيه الرئيس جورج بوش الابن، خلال الزيارتين الأخيرتين اللتين قام كل منهما بهما أخيراً إلى بغداد. والأمر الأسوأ، من وجهة نظر واشنطن، وبعيدا عن السعي إلى تجنّب الجمهورية الإسلامية، هو أن فكرة إدراج إيران في بعض جوانب الهيكلية الأمنية للمنطقة اصبحت فكرة مقبولة وبدأت تنال الاستحسان من جانب أصحاب القرار في منطقة الخليج.
يكمن السبب الأساسي لتمتّع نجاد بموقعه القوي حالياً في ايران في سياسة الملفّ النووي التي يعتمدها والمثيرة للجدل والعالية المخاطر. فقد نجح حتى الآن في مقاومة محاولات الولايات المتحدة الأميركية لإجباره على وقف نشاط إيران النووي، ولا سيما برنامج تخصيب اليورانيوم، والذي من الممكن أن يؤدي إلى صناعة الأسلحة النووية. إلا أن هذا التصدّي له ثمنه: ثمن اقتصادي بسبب العقوبات الدولية، وثمن استراتيجي بسبب إمكانية هجوم أميركي أو إسرائيلي، ومع ان هذا احتمال ضعيف ربما، إلا انه لا يزال قائماً.
لا أحد يعتقد حقاً بأن إيران قد تستخدم فعليا الأسلحة الذرية، هذا إذا تمكنّت من تصنيعها. ففي النهاية أي لجوء إلى هذه الأسلحة قد يؤدي فورا إلى سحق الدولة الإيرانية. إلا أن حيازة الأسلحة النووية، بدل استخدامها، لها منافع أكيدة من وجهة النظر الإيرانية. فهي لا تؤدّي فقط إلى حماية إيران من اعتداء أميركي و/ أو إسرائيلي، إنما تحدّ أيضاً لأطماع الهيمنة واحتمالات السيطرة لهذين البلدين – وهو السبب الأساسي لاعتبار واشنطن وتل أبيب برنامج إيران النووي تهديداً لهما.
وبطريقة أو بأخرى، يبدو أن إيران أفضل استعداداً من الولايات المتحدة الأميركية للاحتفاظ بنفوذ في منطقة الخليج وممارسته على الأمد الطويل. وفي نهاية الأمر، عندما تعود القوات الأميركية أدراجها، وتختتم فصول المغامرات الاستعمارية الجديدة في العراق وأفغانستان – كما سيحصل عاجلاً أم آجلاً – فإيران ستبقى الجار الذي ينبغي على العرب العيش والتعايش معه، وممارسة الأعمال والتبادل التجاري. فالجغرافيا في نهاية المطاف واقع لا مفرّ منه.
كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الأوسط
الحياة – 21/03/08