فتنة تخمد
ساطع نور الدين
هل خمدت الفتنة المذهبية التي أدمت العراق على مدى السنوات الثلاث الماضية، وألهبت مشاعر السنة والشيعة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، أم أنها مجرد استراحة محاربين، تتراجع معها أرقام القتلى والجرحى والمهجرين، وتتقدم فرص طي تلك الصفحة المشؤومة من التاريخ العراقي والعربي والإسلامي… ولو على زغل، وعلى تسليم بأن الاحتلال الأميركي شأن تفصيلي عابر؟
أخبار العراق تشير الى أن ثمة انعطافة في طريقة تفكير السنة والشيعة، وسبل تعايشهما وتقاسمهما السلطة، وذلك نتيجة ظاهرة مهمة او استنتاج حاسم توصل اليه أتباع المذهبين الكبيرين، وهو أن الفتنة بلغت ذروتها، وبدأت مسارها الانحداري الطبيعي، ولم يعد بإمكان احد منهما ان يمضي قدماً في ذلك الوهم الجنوني الذي راودهما في مستهل المواجهات، والتي اتخذت شكل السعي المحموم الى تصفية الآخر وإزالته من الوجود تماماً.
كما يبدو حتى الآن، فقد تخلى السنة والشيعة على حد سواء عن ذلك الهدف الدموي، وباتوا يفتقدون إلى ذوي الرؤوس الحامية الذين بلغ بهم الأمر في بعض المراحل حد تنفيذ اكثر من عشر عمليات انتحارية في اليوم الواحد، كانت تحصد عشرات القتلى والجرحى، وكانت تحير حتى المحتلين الأميركيين في بحثهم عن جذور ذلك العنف الذي لم يكن يتوقعه احد من شعب يفترض انه يخضع لاحتلال اجنبي، وما زال العالم كله ينتظر ظهور مقاومته الوطنية…
تراجعت الفتنة فقط لأنه لم يعد لها جمهور متحمس، وخطاب مؤثر، وربما أيضاً قيادة دينية وسياسية فاعلة، وظهرت علامات الرغبة السنية والشيعية بالهدنة والمصالحة، التي تعترف ضمناً بوجود أغلبية واضحة تحكم وتفاوض وتساوم، وأقلية تشارك وتعارض وتتحفظ، لكنها لم تعد تجد في العنف ملاذاً، أو مبرراً لتعديل موازين القوى الداخلية، او الخارجية.
لكن التاريخ يؤكد أن الفتنة لا تموت، يمكن أن تهدأ لبعض الوقت، لكنه سرعان ما تستفيق مع أول شرارة دينية او سياسية، وهذا درس الحاضر الهندي والباكستاني والأفغاني الذي يسجل في يومياته أرقاماً متفاوتة من الضحايا السنة والشيعة لمواجهات يمكن أن تبدأ بعراك بين أولاد أو بخلاف بين مشايخ في خطب الجمعة التي تقتصر على تفسير منامات الأسلاف…
لم يصبح العراق واحة سلام ووئام بين سنته وشيعته. ما زال الدم يسيل بغزارة، وبدافع مذهبي لا جدال فيه. المعدل أقل من الماضي بما لا يقاس. وهو يعبر عن تعب المجتمع العراقي من العنف، وتوقه إلى السياسة التي يتولاها مذهب استعاد للتو إحساسه بهويته ومسؤوليته الوطنية، ومذهب استرد للتو عقلانيته ورغبته في طلب الشراكة الوطنية.
السجال حول المعاهدة الأمنية مع الاحتلال الأميركي، ساهم الى حد بعيد في إخماد الفتنة، وفي تبرئة أتباع المذهبين من تهم الخيانة العظمى، لكن احداً لا يستطيع أن يعود بالسنة والشيعة الى سيرتهم الاولى… التي مضى عليها اكثر من ١٤ قرناً، بنجاح منقطع النظير.
السفير