تنامي قوة دول الجوار العربي
محمد سيّد رصاص
أزاحت الولايات المتحدة، عبر غزوي أفغانستان (2001) والعراق (2003)، نظامين، كانا خصمين رئيسيين لإيران، دخلا في حروب ومشاكل ومواجهات كثيرة معها، وقد خرجت طهران من خلال ذلك إلى حالة من القوة غير مسبوقة بتاريخها الحديث، حيث قاد يوم 9 نيسان2003، الذي شهد سقوط بغداد بيد الأميركيين، إلى عهد من القوة الإيرانية الإقليمية التي امتدت من كابول إلى بيروت، وإلى نهاية عهد من الضعف الإيراني بدأ في يوم 8 آب 1988 لما خرجت إيران مهزومة من حربها مع العراق، ومن يراقب حركة التاريخ الفارسي يلاحظ أن عيون حاكمي بلاد فارس كانت دائماً تصوب نظرها غرباً، ابتداء من قورش، مروراً بالساسانيين، وصولاً إلى الصفويين.
كان حضور الولايات المتحدة العسكري المباشر لقلب المنطقة مؤدياً إلى ذلك إيرانياً، لدرجة وصلت فيها الأمور إلى حدود دفعت طهران لمحاولة تثمير قوتها الجديدة عبر انتقالها لحالة المجابهة مع واشنطن من خلال استئناف برنامج التخصيب النووي (منذ آب 2005)، الذي تريد مقايضته بقدراتها «على حل كثير من المشاكل، مثل العراق ولبنان، أو أسعار النفط»، كما صرح نائب الرئيس الإيراني رضا آغا زادة في شهر تموز الماضي إثر اجتماعه بالدكتور البرادعي بفيينا، للوصول إلى اعتراف الولايات المتحدة بها كـ«قوة اقليمية عظمى» وفقاً لتصريح الجنرال رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري الإيراني في عام 2007. بالمقابل، فإن محاولة واشنطن مجابهة واحتواء القوة الإيرانية المتصاعدة، على كامل اقليم منطقة الشرق الأوسط، قد أدت منذ خريف عام 2007 إلى تعويم اقليمي للدور التركي برضا أميركي لمجابهة وموازنة الامتدادات الإيرانية، وهو ما انعكس، كآثار له، في اضعاف قوة الحضور الكردي في العملية السياسية العراقية عبر الطي العملي لصفحتي (الفيدرالية) و(كركوك)، وأيضاً في أدوار اقليمية بارزة بدأت أنقرة بإدارة ملفاتها.
هنا، إذا كانت مشاكل واضطرابات منطقة (الهلال الخصيب) العربي قد أدت إلى قوة متنامية لكل من فارس وآسيا الصغرى، تماماً كما حصل في الأعوام القليلة السابقة لمعركة «جالديران» (1514) التي حصلت بين الصفويين والعثمانيين ليبدأ بالسقوط على إثرها هذا «الهلال» بيد السلطان العثماني سليم الأول بعد عامين من انتصاره في تلك المعركة، فإن مشاكل السودان والقرن الإفريقي، والاتجاه الأميركي إلى تهميش دور مصر الإقليمي منذ المعاهدة المصرية الإسرائيلية (آذار1979)، قد أديا إلى تقوية دول الجوار العربي هناك: حصل هذا أولاً منذ أوائل التسعينات لما تولت دول «منظمة الإيغاد» (أوغندا كينيا إثيوبيا إريتريا) ملف أزمة حنوب السودان بغطاء أميركي مع استبعاد مصر، إلى أن تم وضع إطار لحلها عبر اتفاقيتي «مشاكوس» (2002)و «نيفاشا» (2005)، حيث مالت فيهما التوازنات لصالح الجنوبيين، بالتزامن مع بروز قوي لدور أوغندي في أزمتي رواندا وبوروندي (1993 1994)، ليتم عبرهما إضعاف الدور الفرنسي التقليدي في هذين البلدين من خلال إزاحة قبيلة الهوتو ذات الأكثرية السكانية فيهما عن الحكم وهي الموالية تاريخياً لباريس. ثانياً، فإن هناك إبراز لدور تشاد في أزمة دارفور، حيث أخذت نجامينا مع المنظمات الدارفورية المسلحة دور هانوي مع الفيتكونغ، وأيضاً برعاية أميركية، مستغلة الروابط القبلية التي تربط الرئيس التشادي بالدارفوريين من خلال قبيلة الزغاوة، فيما تم افشال أميركي لدور عربي في أزمة دارفور لما حاولت ليبيا، بالتعاون مع نيجريا، ونجحت في عقد «اتفاقية أبوجا» (أيار2006) بين الخرطوم وفصيل رئيسي من المتمردين (حركة تحرير السودان)، لتقوم واشنطن ونجامينا بتحريض المنشقين على ذلك الفصيل (عبد الواحد نور و«حركة العدل والمساواة» المنافسة) بعدم التوقيع على تلك الاتفاقية، ما جعلها عملياً حبراً على ورق. ثالثاُ، فإن مشكلة الصومال، بعد تولي «المحاكم الإسلامية» السيطرة على مقاديشو في حزيران 2006، قد دفعت الولايات المتحدة لإعطاء الضوء الأخضر لإثيوبيا لتقوم بغزو الصومال في الأسبوع الأخير من ذلك العام، فيما كانت أزمة القرن الإفريقي، الناشبة في عامي 1977- 1978 بما تضمنته من حرب صومالية إثيوبية بسبب إقليم أوغادين وحرب في إريتريا التي استعمرتها إثيوبيا وما تداخل في تلك المنطقة آنذاك من صراعات بين موسكو وواشنطن بعد انقلاب شباط 1977 الذي جاء بحكم عسكري إثيوبي اتجه للتحالف مع السوفيات، مؤدية إلى دور عربي كبير في تلك الأزمة برعاية غربية، أخذته القاهرة والخرطوم والرياض، فيما لا يوجد شيء من ذلك الآن.
في بداية الألفية الثالثة، يقف العرب أمام مشاكل المشرق العربي عاجزين عن القيام بأي دور مؤثر وفاعل، تاركين ذلك للجوار الإقليمي في الشرق والشمال، وأيضاً للغرب الأميركي الذي أتى بجنوده إلى قلب عاصمة بلاد الرافدين، التي كانت في زمن العباسيين تقوم بدور نيويورك الآن، فيما تقف مصر بدون دور أو قوة في قضايا وأزمات السودان والقرن الإفريقي، وما يمكن أن يولده تقرير مسارات محددة فيهما من التأثير الشديد على أمن مصر المستقبلي، إضافة إلى أن الرعاية الأميركية لتقوية دول الجوار العربي التي تأتي منها ينابيع النيل، مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا، سيؤدي إلى أوضاع كان يخشى منها كل حاكم مصري عبر تاريخ أرض الكنانة الطويل.
في زمن الأحادية القطبية، نظرت الولايات بعين القلق إلى قومية، هي الروسية، كانت هي زعيمة الطرف المنافس في زمن ثنائية يالطا، وكذلك فعلت حيال أخرى كانت صاعدة القوة والفورة وأرادت الهيمنة على البلقان، هي القومية الصربية: في «منطقة الأزمات»، الممتدة بين بيشاور والصحراء الغربية، لم تنظر واشنطن بقلق إلى قومية وحاولت ضربها وتهميشها، سوى العربية، خلال مرحلة ما بعد انتهاء الثنائية القطبية في عام1989: لماذا؟………
المستقبل