مزيد من الجهد لتأصيل الاختلاف
وسام سعادة
أفلحت الصيغة المؤتمرية لحركة الاستقلال اللبناني الثاني لجهة دعوتها الى تشخيص «المعوقات الثقافية» الحائلة دون استرجاع الدولة اللبنانية سيادتها الوطنية. أفلحت أيضاً لجهة التركيز المحوري على التطوّر غير المسبوق الذي اتخذته ظاهرة الانعزال الثقافي المدجّج بالسلاح، أو ظاهرة المجتمع المدني ـ الأصولي المسلّح والمسند بالارتباطات الإقليمية والتفاهمات الداخلية الحسّاسة. جرى تبيان التعارض المتعاظم بين هذه الظاهرة وبين الشروط الكيانية الأولى لقيام الدولة اللبنانية.
مع ذلك، يبقى الكثير الكثير أمام الحركة الاستقلالية لأجل تأصيل هذه النظرة «الثقافوية»، ولأجل البناء على هذه النظرة، كسبيل لتجاوز الطور «السجالي» من الجدل السياسي إلى طور «فكري» من جهة، و«برنامجي» من جهة أخرى.
فعلى الحركة الاستقلالية أن تقرّ بالمعوقات الثقافية الكابحة أو الهادرة لطاقاتها هي، وبالانعكاسات الخطابية المستمرّة لهذه المعوقات الذاتية، وهي انعكاسات ما زالت توفر شبكة أمان حامية لظاهرة الانعزال الثقافي المدجّج بالسلاح في معسكر الخصم، بشكل يساعد إما على «تطبيع» كل تعامل مع هذه الظاهرة، أو كل اقتراب منها، وإما على تبادل «حملات الاستنزاف» معها، دون أفق برنامجي تراكم على أساسه الحصيلة الكلية لحملات الاستنزاف المتبادل.
فلأجل القبض على هذا الأفق البرنامجي، يجدر بأهل الحركة الاستقلالية الخروج من منطق التماثل الضدي مع الخصم الداخلي، أي منطق الردّ على المكابرة بالمكابرة، ومنطق الزعم بأن الممانعة للمشاريع الاستعمارية والعدوانية ليس ينهض بها الطرف الآخر كما ينبغي، أو ليس يفسح الطرف الآخر المجال للجميع بغية الانخراط في هذه الممانعة.
ما زال كثير من المنخرطين في مسيرة الاستقلال الثاني يتصوّرون أنه من الممكن الردّ على عروبة «بليدة» أو «مغامرة» بأخرى «مجّددة» توثباً وانفتاحاً، والردّ على «الممانعة» بأخرى «واقعية» و«ملطّفة»، تحاكي مثلاً النموذج المصري التالي لاغتيال أنور السادات: إذ جنحت الثقافة في مصر بعد هذا الاغتيال الى عدم استهداف موجبات الصلح مع إسرائيل، بل على العكس تبريرها، باسم جدلية الحرب والسلم، كما لو أن السلم هو نتيجة لانتصار لا لهزيمة، وفي المقابل شجعت هذه الثقافة كل الاتجاهات اللاسامية الفجّة. فهل مطلوب أن تنهض ثقافة 14 آذار هي الأخرى، كنسخة لبنانية من هذا الفصام؟
الخشية من انقياد بعض الاستقلاليين أو السياديين وراء تصنيع محلي سريع لروايتهم هم عن نظرية المؤامرة، جازمين بأنه ثمة «مؤامرة سورية ـ إسرائيلية» مشتركة تستهدف لبنان، وبأن ثمّة «مؤامرة فارسية ـ صهيونية» مشتركة تستهدف العرب. فبدلاً من استجماع كل الدروس الفكرية على خط نقد المكابرة على الهزيمة ونقد العروبة القومية ونقد الممانعة، يريد البعض أن ينتج نسخة «استقلالية» و«ملبننة» من المكابرة على الهزيمة، ومن التمسّك بالعروبة القومية، ومن إشهار سيف الممانعة، ومن النفحات اللاسامية.
ليس يعني ذلك أنه على الاستقلاليين اللبنانيين الذين ينبغي أن يعملوا بصورة استراتيجية على «فطم» العلاقات بين لبنان وسوريا، أن يتغاضوا عن التقاطعات الاقليمية الغريبة العجيبة، الا أنها تقاطعات ليس يمكن استيعابها، لا نظرياً ولا عملياً، بموجب النسخة «السيادية» من «نظرية المؤامرة». كما ليس يعني ذلك أنه على الاستقلاليين اللبنانيين عدم التعبير عن مشاعر غضبهم واستيائهم جراء رؤية أي مشهد تفوح منه رائحة ظلم أو اضطهاد في أي مكان من المنطقة أو من العالم، وإنّما المطلوب أن لا تكون الوسائط الأخلاقية والثقافية المنتهجة للشخوص الى هذا المشهد على صورة تلك الوسائط التي تروجها الثقافة الغيبية اللاهية عن الحياة الأخرى. فلا حياة لثقافة تقصر «حب الحياة» على باب دون سواه من الأبواب، وتوالي ثقافة «تمجيد الموت» عند أول منعطف. ان بناء ثقافة حب هذه الحياة الدنيا لم يزل في أمر اليوم. وإذا كان ثمة ثقافة لا تحب «هذه الحياة الدنيا» فليس يعني ذلك أن الثقافة الأخرى تحبها بما فيه الكفاية.
هذا ينقلنا إلى السؤال عن موقع المثقفين ودورهم من ضمن الحركة الاستقلالية، وما هي مهامهم. هل يتماهون مع سياسيي هذه الحركة، ويسوّغون المعوقات الثقافية لها، مع المكابرة عليها، أم يتحولون إلى «فقهاء» يفتون في ما هو «محلّل» لها، وما هو «محرّم» عليها، على قاعدة الاحتكام للمأثور «الحكمي» الذي يفترضون أنهم حماته؟
ليس هذا، ولا ذاك. دور المثقفين في المشروع الاستقلالي هو تنظيم الصراع الثقافي مع أخصام هذا المشروع، وفهم جدلية العلاقة بين المستويين الثقافي والسياسي من الصراع. ومن أراد تنظيم الصراع الثقافي عليه الخروج بشكل جذري ومثابر من منطق التماثل الضدي مع الخصم، للقول بشكل واضح ومسند بالحجج والشواهد، بأنّ النظرة مختلفة تماماً ليس فقط بالنسبة إلى طريقة خوض الصراعات في هذه المنطقة، بل ان النظرة مختلفة تماماً بالنسبة إلى هذه الصراعات نفسها.
يتمثل دور المثقفين في المشروع الاستقلالي، ان كان لهم حقيقة من دور، في تحرير هذا المشروع بشكل منهجي، من عناصر «الممانعة الثقافية»، وهي عناصر صحيح أنها لم تعد مترابطة بقوة المنظومة في خطاب الاستقلاليين، إلا أنها ما زالت أكثر من مجرّد رواسب من الماضي وذكريات متسلّلة من الزمن الآخر.