الأزمنة التاريخية واختبار التعددية
د. طيب تيزيني
جاء الحوار الفكري المعمق، الذي دار بين باحثين ألمان وآخرين منتمين إلى بلدان مختلفة في مدينة إرلانفن الألمانية (ذات الهوية الجِهويّة الفرانكية)، بنتائج أو بنتيجة مرموقة واحدة على الأقل؛ نبني الحوار الذي أثرناه أمام أولئك بعد تقديم مداخلة موسعة في إطار أعمال تجمع أكاديمي يُعقد هناك منذ حين.
كان السؤال التالي مدخلاً للمداخلة، وذلك هو: هل ما زالت مسألة تعددية الأزمنة التاريخية موضع اهتمام من قِبل المؤرخين والباحثين في الدراسات المنهجية التاريخية، خصوصاً بعد ظهور مَنْ أعلن عن نشوء تاريخ وحضارة ضمن أفق أو بداية جديدة، تجبّ ما سبق الحدث الكبير الممثل بـ “النظام العالمي الجديد”؟ ويكفي هنا أن نشير إلى هنتجنتون في “صراع الحضارات” وإلى فوكوياما في “نهاية التاريخ وبداية التاريخ الجديد الحقيقي” بمثابتهما مثاليْن معاصرين بارزين على ما نحن بصدده.
لقد انطلقت أصوات جديدة يعلن أصحابها أن عصور التشتت التاريخي دخلت مرحلة استنفادها مع بداية التيار العالمي الجديد، الداعي إلى الإقرار- أخيراً دون مكابرة- بحالة جديدة في العالم تحمل على عاتقها توحيد العالم، على الأقل، وفق التصور التالي: لم يُنف وربما كذلك لن تبقى تعددية الأزمنة التاريخية، ولكنها ستجد حالة جديدة ثابتة ومستديمة تتمثل في هيمنة عصر جديد يهيمن عالمياً، ولا يستفرد العالم. أما الهيمنة هذه، فتقوم على أن هذا العصر هو الذي يمنح شرعية تواريخ شعوب العالم، من الآن فصاعداً من طرف، وأنه يقدم أيديولوجياً ضبط هذه التواريخ من طرف آخر، فهو بمنظوماته المنهجية والفكرية والسياسيولوجية، يضع استراتيجية النظر للتواريخ المذكورة راهناً ومستقبلاً، ويصل في ذلك إلى تحديد وضبط حتى الاختلافات والخلافات القائمة بينه وبينها، بل هو الذي يقدم القواعد المناسبة لوضع ذلك في الإطار العمومي الصحيح كما يراه هو.
وقد جرت مداولات ومناقشات لتلك الأفكار التي ظهرت في مداخلات بعض المشاركين، وكان النموذج العربي قد احتل موقعاً ملحوظاً فيها. وكان مفيداً أن أتيْنا على مرحلة ما قبل التدخل الاستعماري الحديث في العالم العربي. ذلك لأن الإقرار بمقولة “النهضة العربية الحديثة” يغدو ممكناً انطلاقاً من أن التاريخ العربي الحديث لم يكن بعدُ قد وجد نفسه أمام الجدار الاستعماري العازل عن التدفق التاريخي. لقد تمكنت تلك النهضة من استغلال اللحظات الأخيرة في التاريخ العربي “المفتوح”، فقدمت نفسها وأفصحت عن بعض احتمالاتها وآفاقها، قبل أن تتبلور عملية إحكام القبضة عليها، ووضعها أمام طريق يكاد يكون مسدوداً كلياً.
وإذا كان الأمر لم ينته إلى “الطريق المسدود” أمام التاريخ العربي، فلأن المشروع العربي أتى سابقاً عليه… هذا ما يراه ويوافق عليه حتى مشككون في هذا المشروع، بدرجة أو بأخرى. ولكن ما كان ممكناً ومحتملاً، لم يعد كذلك في عصر لاحق هو الذي نعيشه تحت راية “النظام العالمي الجديد”. وهنا تأتي الظروف الجديدة “القاهرة” لتبتلع تلك الشذرات “النهضوية” العربية الحديثة المتبقية، وتطرح أسئلة جديدة يأتي في مقدمتها السؤال التالي: هل ثمة من يشكك في اهتزاز تلك “الشذرات” في الواقع كما في الوعي العربي المعاصر، معبِّراً عنه ومُجسِّداً في مثل الحقول التالية: تآكل “الدولة” العربية، واختراق منظومة القيم الأخلاقية والسياسية من قِبل ما لا يُحصى من حملات التشهير بالعروبة والتضامن العربي والأمن القومي والوطني، وبمفاهيم التقدم والحرية والكرامة والعدالة، وبضرورة وأهمية الحفاظ على العائلة المتماسكة والشبيبة المِعطاء الملتزمة بقضايا شعوبها، وبالمرأة المكافحة ضد تحويلها إلى مسوّق للسوق العولمية الكونية ومسوِّق فيها، وغير ذلك كثير.
نعم، يمكن الإقرار باهتزاز ذلك كله، وبازدياد الحظر عليه، لكنْ، ألا نلاحظ إرهاصات أولية أولى لتفكك النظام العالمي الجديد، في أزمته المالية خصوصاً، بحيث نرى – على الأقل – آفاقا تاريخية جديدة تظهر كذلك عربياً؟!
جريدة الاتحاد