إهتزاز الخريطة الإيديولوجية العالمية
محمد سيد رصاص
كان القرن العشرون فقيراً من حيث مائدته الفلسفية، حيث عاش على ما أنتجه القرنان الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت الإتجاهات الفكرية – السياسية يميناً ويساراً، وحتى الفلسفية، أغصاناً للشجرات الثلاث الكبرى: كانط، هيغل، ماركس.
من هنا، كانت المرافقات الفلسفية للتحولات الإجتماعية – السياسية الكبرى، في القرن العشرين، أضعف من مثيلاتها في القرنين السابقين، وجدنا معها أن متابعاً فلسفياً كفرنسيس فوكويوما لواحد من المفسرين غير الرئيسيين لهيغل مثل ألكسندر كوجيف (بالقياس إلى آخرين في اليسار مثل هربرت ماركوز وجان هيبوليت وفرانسوا شاتليه أوفيلسوف الفاشية الإيطالية جيوفاني جنتيلي). كان هو الذي تولى أساساً التنظير الفلسفي لتحولات 1989 عبر مقولة “نهاية التاريخ” المؤَوّلة ليبرالياً وهي الموجودة في كتاب هيغل “محاضرات في فلسفة التاريخ”.
كان هذا في الصحف ووسائل الإعلام ملائماً لليبرالية الجديدة المنتصرة ولم يكن مهماً بعد ذلك تراجع فوكوياما عن كتابه ذاك، فيما كان العمل الفلسفي الحقيقي قد تم على يد ليو شتراوس (1899-1973) الذي حاول تجاوز تلك الشجرات الثلاث، عبر عمل أصيل ومتميز بالقياس للكثير من النتاجات الفلسفية الأخرى في القرن العشرين، طرح من خلاله أستاذ فلسفة السياسة بجامعة شيكاغو محاولة فلسفية لقلب اتجاه الحداثة الغربية، البادئة مع توما الإكويني ثم ديكارت وعصر الأنوار الفرنسي وصولاً الى كانط وهيغل وماركس، في اتجاه تأسيس رجعة إلى فلسفة أفلاطون في تصور الكون والإنسان والسياسة بعد أن دُشِنت منذ الإكويني فلسفة للعمل والطبيعة مستمدة من أرسطو قطعت مع مُثُل أفلاطون والتصورات المانوية والأفلاطونية المُحدثة التي قدمها القديس أوغسطين والسائدة طوال القرون الوسطى، ليكون اتجاه الحداثة الغربية العام نحو جعل الإنسان محوراً للكون ولجعل الأخير والطبيعة ميدانين امتداديين لفاعلية الإنسان.
هنا، كانت فلسفة شتراوس، التي أسست لاحقاً لإتجاه المحافظين الجدد عبر وثيقتهم التأسيسية المسماة “إعلان مبادىء” (3 حزيران1997) والتي وقع عليها أمثال تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز (وأيضاً فوكوياما)، مبنية على جمع فيلسوف المحافظة القديم إدموند بيرك الناقد لأفكار عصر الأنوار والثورة الفرنسية مع مؤسس الليبرالية جون ستيوارت ميل، بالترافق مع تخطٍ لفلسفات مكيافيللي وهوبز السياسية إلى فلسفة أفلاطون السياسية، ومع عودة إلى الروحانيات الدينية التي كانت في العصر الوسيط.
لذلك، رأينا ذلك التحالف العريض بقيادة المحافظين الجدد في واشنطن والذي جمع بينهم، في العقد الأول من القرن الحادي العشرين مع وصول بوش الإبن الى البيت الأبيض وبين اليمين المسيحي الجديد، مضافاً إلى من انضم إليهم، في أميركا وغيرها من مناطق العالم، من اليسار الماركسي، بطبعاته الستالينية أوالتي كانت عند اليسار الجديد، بعد أن أصبحت الديموقراطية في منظومة “الثورة اليمينية” تشابه مكانة الإشتراكية عقب ثورة 1917، مع تشابه كبير في النزعة التبشيرية وفي النزوع الى تغييرية جذرية تتخطى الحدود القومية والشرعية والمنظمات الدولية نحو قلب وتغيير العالم.
هنا، استطاع المحافظون الجدد قلب الخريطة الإيديولوجية للعالم في مرحلة مابعد عام1989، فيما كانت تسود، حتى في معسكر اليمين، ليبرالية متحررة (رأينا ملامحها في عهدي فرانكلين روزفلت وجون كينيدي) بينما كان الوسط، أويسار الوسط، قوياً مع الإتجاه الإشتراكي الديموقراطي وخاصة في أوروبا مابعد الحرب العالمية الثانية حتى نهاية السبعينات، عندما بدأت توجهات الليبرالية الجديدة، مع طبعتها الإقتصادية المقدمة من قبل ميلتون فريدمان المعادي لتوجهات كينز، تسيطر على إدارات ريغان وتاتشر، ولكن من دون غطاء فلسفي سوى العداء الشرس للشيوعية السوفياتية، التي استطاع ريغان هزيمتها.
قاد هذا الوضع إلى انزياح كثير من الليبراليين التقليديين عن الكينزية، وهو ماحصل مثيل له في معسكر الإشتراكية الديموقراطية مع أسماء بلير وشرودر وجوسبان، فيما أدى استيقاظ الهويات الدينية، والتي رأينا بدء مدّها في العالم غير الغربي منذ الربع الأخير للقرن العشرين، إلى وضع مقابل عند اليمين المسيحي في الغرب الأميركي، بالترافق مع تنظيرات صموئيل هنتنغتون حول “صراع الحضارات وتصادمها”، والتي تعود الى نظرية شبنغلر حول الحضارات كدوائر مغلقة، والتي لاءمت المسيحيين الجدد إيديولوجياً فيما لاءمت المحافظين الجدد سياسياً من دون أن يكون الأمر كذلك أيديولوجياً باعتبار أنهم يرون، مثل الليبراليين والماركسيين، أن العالم دائرة واحدة يمكن تحويلها إلى حضارة واحدة، ثقافياً وسياسياً، عبرالتقنية والإقتصاد، إما سلماً أوبوسائل أخرى.
في المجمل، كان الجو، خلال عقدين فاصلين عن خريف1989، متميزاً بصعود اليمين، فلسفياً وفكرياً وثقافياً وسياسياً وأيضاً في النظرة الى الإقتصاد، في كل أنحاء العالم، مع تراجع حاد لليسار الماركسي، ولكل أنواع اليسار الأخرى، من اشتراكية ديموقراطية، أويسار قومي، كما جرى للنزعات العروبية، أولنزعات يسارية قومية، مثل تلك التي كانت موجودة في حزب المؤتمر الهندي.
الآن، مع وصول عهد بوش الإبن الى خاتمته وهو الذي جمع بين ليو شتراوس وميلتون فريدمان كموجهين إيديولوجيين في الفكر والسياسة والإقتصاد، من الواضح أن الليبرالية الجديدة، بصفتها أيديولوجية الإدارة الأميركية الحالية، قد ارتطمت بالحائط في مجالي السياسة والإقتصاد، عبر محطات الشرق الأوسط وجورجيا ووول ستريت، ماسيترجم حتماً في مجال الإيديولوجيا عبر هزات انعكاسية وارتدادية، بعدما استطاعت واشنطن، عبر انتصاراتها السياسية – العسكرية – الإقتصادية منذ عهد ريغان على السوفيات وصولاً إلى المد الذي عاشه القطب الواحد للعالم بين عامي 1990و 2006 في عملية “إعادة صياغة العالم”، أن تزعزع وتقلب الخريطة الأيديولوجية للعالم، والتي كان يسودها طوال ثلاثة أرباع القرن الماضي امثال كارل ماركس ولينين وإدوارد برنشتين وجون مينارد كينز.
كيف ستتشكل الملامح المقبلة لخريطة العالم الإيديولوجية، على المديين القصير والمتوسط؟