سوريا: قوة الإستقرار والشراكة المفقودة في لبنان
رشيد حسن
لا بد من طرح سؤال بريء على المسؤولين السوريين في هذه الظروف الخطرة والحساسة التي تحيط بالبلدين. السؤال هو: ما هي في ظنكم الوسيلة الفضلى لاستعادة لبنان؟ ولا نستخدم تعبير “استعادة” هنا بمعنى إعادة الإخضاع بل بمعنى استعادة ثقة ومودة اللبنانيين وإعادة بناء نفوذ حقيقي إيجابي
لا يقوم على الخوف أو الإذعان بل على التوجه الطوعي والعفوي للساسة والمواطنين نحو سوريا واعترافهم بموقعها الخاص في هذه الشراكة العربية المتوسطية بين شعبين شديدي التشابه والتداخل في العديد من الوجوه؟
نقول مخلصين ان النهج الأنسب لمصالح سوريا هو الاعتراف بالوضع اللبناني الجديد ووضع حد للسياسة الهوجاء الهادفة إلى إعادة الأمور إلى الوراء مهما كان الثمن الذي يتكبده لبنان والذي تتكبده سوريا أيضا، ومأزق الكراهية الحالي له ثمن باهظ سياسي واقتصادي ومعنوي على سوريا (باعتبارها الشريك الأكبر) لا يقل عن ثمنه بالنسبة للبنان. ذلك إن سوريا، وفي غياب معارضة داخلية فاعلة، تساهم مجانا وبسبب السياسات الحالية في خلق أكبر وأعند معارضة لها في لبنان وفي المنطقة حتى أصبح لبنان بالفعل أو قل قواه الاستقلالية “المعارضة السورية” الأقوى والأكثر إيذاءً للنظام في المجالين العربي والدولي وسط الحرب المفتوحة والاستنزاف المتبادل بين الجانبين. أي أن الجرح اللبناني المفتوح والمتمثل في الأزمة السياسية المتمادية منذ صيف العام 2006 –والذي قد يغتبط له البعض في دمشق- هو في الحقيقة جرح سوري يجب أن يُقلق المسؤولين هناك بالدرجة الأولى.
لكن وضع سوريا يمكن بين ليلة وضحاها أن يتغير لبنانيا وعربيا ودوليا لو بادرت بعد تجارب السنتين الأخيرتين وببداهة الواقعية السياسية إلى التسليم أخيرا بالوضع الذي نشأ عن انسحابها ثم انتخابات 2005 الديموقراطية وجعل رهانها على اتفاق -أو على الأقل تعايش- من نوع ما مع الأكثرية الحاكمة بدل السعي المكشوف لإسقاطها وباساليب مخالفة تماما للتقليد السياسي المتبع في لبنان وبين الدول المتجاورة. علما أن إسقاط الحكومة اللبنانية كما هو واضح هو خط أحمر مرسوم عربيا ودوليا كما أنه في الوقت نفسه خط الدفاع الذي قررت قوى البلد الاستقلالية القتال عنده مهما كان الثمن ومهما تكررت المساعي والمحاولات.
إن في إمكان سوريا استعادة موقع أساسي لها في لبنان ليس من طريق إحباط توق اللبنانيين لحكم انفسهم بأنفسهم بل عبر القبول بحتمية التفاهم مع القوى الممثلة لأكثرية المجلس النيابي والتي ستبقى بالتالي وفي ظل انتخاب الرئيس العتيد جزءا أساسيا من الحكومة والدولة، وهذه الأكثرية مستعدة على الأرجح لملاقاة السوريين والانفتاح مجددا على علاقات تعيد لدمشق اعتبارها وتساعد بالتالي على لأم الجرح المعنوي الذي أصيبت به من جراء خروجها من لبنان في نيسان 2005. ودمشق في حاجة -بهدف إعادة اعتبارها- ليس إلى المعارضة اللبنانية المحسوبة عليها أصلا بل إلى تحالف القوى التي عارضت وجودها وما زالت المعارض الأول لسياستها في لبنان، ولأن النجاح الحقيقي يكون في إنتاج “بداية جديدة” في لبنان وبالتالي كسب الخصم ومصالحته إذا لم يكن في الإمكان إلغاؤه، ولا مجال لإلغاء الأكثرية الشعبية الحالية من دون حمام دم أو خلق فوضى عارمة يبدو بوضوح أن لا أحد سيقبل بها أو يتغاضى عنها.
لكن التحول من استراتيجية الإلغاء والتعطيل إلى استراتيجية بديلة تقوم على تجديد التفاهمات مع الدولة اللبنانية -بغض النظر عمّن يكون في سدتها- يحتاج إلى سلوك رجال دولة وإلى شجاعة معنوية وواقعية سياسية تتصف بها عادة الدول الناضجة. وهذه الدول تنظر دوما إلى مصالحها البعيدة ولا تنفق طاقتها في سياسات الغضب والعداءات أو الصداقات الشخصية وهو نهج “أمني” في السياسة استنزف رصيد سوريا في لبنان وفي العالم قبل توفيره الظروف لمناداة الدول القوية علنا بخروجها من البلد.
صحيح أن سوريا أثبتت عبر الأزمة الحالية أن اللبنانيين ما زالوا مختلفين -أو أن من السهل ذر الخلاف بينهم- إن هي رفضت المساعدة بالتالي على اجتماعهم. لكن هذا هو البرهان السلبي فحسب. إذ يمكن تأكيد هذه الحقيقة بالبرهان الإيجابي أيضا أي بتسهيل اتحاد اللبنانيين عبر لعب دور الوسيط النزيه وهو ما سيجعل من سوريا قوة مقبولة من جميع الفرقاء التوّاقين كلهم لعودة المياه إلى مجاريها والبناء على التطبيع الشامل للعلاقات لتأمين الإفادة المشتركة للبلدين من الأزدهار الهائل الذي تشهده المنطقة العربية. وهذا الازدهار غير المسبوق يفوتنا قطاره ونخسر المشاركة في ثماره يوميا بسبب التلهي بمبارزات جاهلية تكاد تذكر بثارات القبائل أو صراعات قبضايات الأحياء في أزقة بيروت أو بشخصيات مسلسل “باب الحارة” السوري الذي يلاقي إقبالا كبيرا من المشاهدين.
إننا من المقتنعين وبسبب ما أظهرته جميع الأزمات اللبنانية التي تبعت نشوء لبنان الكبير ثم الاستقلال أن اللبنانيين ربما غير ناضجين سياسيا بعد للاندماج الوطني الناجز وأن الاستقرار الداخلي في البلد غير ممكن لذلك من دون تفاهمات مع سوريا تضمن السلم الأهلي وعمل الدولة والمؤسسات في المدى الطويل. لكننا نرى طريقا وحيدا لإحياء وتجديد هذا الدور وهو التغلب أولا على “عقدة الانفصال اللبناني” ونقل الاهتمام بدلا من ذلك إلى تحقيق التقارب السياسي من خلال استراتيجية الترابط الاقتصادي بين البلدين في مختلف القطاعات بحيث يكون الهدف في النهاية تحويل سوريا ولبنان إلى سوق اقتصاية واحدة، وذلك من خلال فتح الحدود للتجارة والانتقال الحرّ للبضائع والرساميل والأشخاص (وهو أمر لا يتعارض بالطبع مع حل المشاكل الحدودية)، فضلا عن إقامة الشركات السورية اللبنانية المشتركة أو الشركات السورية الخليجية واللبنانية التي تتولى تنفيذ مشاريع كبرى تحمل الإنماء والرفاه للمواطنين بدلا من أجندة الشقاق العقيم الذي يرهق حاليا كلا البلدين ويضعف مكانتهما واحترامهما بين الدول.
إن محورا اقتصاديا يقوم على شراكة سورية لبنانية شاملة يمكنه أن يحِّول اتجاه قسم كبير من الاستثمارات في اتجاه البلدين بل وأن يخلق مركز ثقل اقتصادي جديد في الشرق الأوسط (يضم إلى سوريا ولبنان مصر والأردن) يكون منفتحا بحكم موقعه الجغرافي على البحيرة المتوسطية وأوروبا ومتصلا بالقارة الآسيوية عبر قناة السويس والداخل العربي. ولقد خطت سوريا خطوات مهمة على طريق الإصلاح الاقتصادي وخصخصة بعض المؤسسات وفتح الابواب أمام المصارف العربية والأجنبية والاستثمار الأجنبي، لكن سوريا لن تستطيع استقطاب التدفقات الاستثمارية الكبيرة والدخول بكل طاقاتها في دورة الازدهار الحالي والمستقبلي قبل ختم الملف اللبناني بصورة إيجابية توحي بحلول استقرار مديد في العلاقات بين البلدين الجارين. إذ أن استمرار الأزمة بمضاعفاتها العربية والدولية يمثل الآن الرادع الأهم لتدفق الرساميل الأجنبية والعربية على سوريا ولبنان.
لكن هذا التحول السياسي يحتاج أولا إلى تحول نفسي و”عاطفي” هو الاقتناع بأن العودة بلبنان إلى الوضع الذي كان سائدا قبل 26 نيسان 2005 هو من رابع المستحيلات وذلك لسبب أساسي هو أن ذلك الوضع لم يكن طبيعيا أصلا ولا قابلا للاستمرار ولولا ذلك لما نزل أكثر من مليون لبناني دون دعوة من أحد أو تعبئة من حزب إلى الشارع ليطالبوا بالتغيير. أن مطالبة سوريا بالاعتراف الصادق بالوضع اللبناني الجديد يشبه إلى حد كبير مطالبة السوريين أنفسهم للمصريين عام 1961 بالإقرار بالوضع الذي تلا انفصال سوريا عن الاتحاد مع مصر، وهذا مع العلم أن الاتحاد بين مصر وسوريا كان طوعيا (وإن عاطفيا ومتسرعا) بينما لم يحدث بين لبنان وسوريا أي اتحاد طوعي أو عاطفي بل كل ما جرى هو استطابة للأمر المؤقت الذي نشأ عن الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 واستدراج متعمد من الدول الكبرى –بهدف إضعاف سوريا- إلى مستنقع السياسة اللبنانية الداخلية وهو انزلاق خلق مع مضي الوقت الظروف الموضوعية للأزمة الحادّة التي يعيشها البلدان الآن.
صحيح أن الانسحاب (العسكري) المتعجِّل كان نكسة مؤلمة للنظام في سوريا (كما كان الانفصال نكسة مؤلمة للرئيس الراحل عبد الناصر) لكن الدرس الأهم لانهيار الوحدة المصرية السورية كان أن الوحدة لا تتم بقرار سياسي من فوق بل عبر عملية طويلة النفس من تراكم المصالح وتشابك المصير وفي مناخ من الحرية والديموقراطية، علما أن مناخات الحرية والتقاليد البرلمانية السياسية في سوريا قضي عليها عمليا في تلك الفترة القصيرة لـ “الوحدة” بسبب الثقافة الديكتاتورية للطبقة العسكرية المصرية وإدارتها الكارثية لبلد لم تكن تعرف عنه إلا القليل. بالطبع لا نقارن هنا بين الحالين والتجربتين لكن لا يوجد في المقابل وحتى الآن أي دليل على أن الفشل اللبناني تم تقويمه بأمانه بغية تحديد أسبابه واستخراج العبر الصحيحة منه بينما تشير الأدبيات المعلنة إلى أن الحل الأسهل كان كالعادة إلقاء الفشل مرة أخرى –وفق التفسير العربي أو ربما القومجي الدارج والممل- على “المؤامرة“!
حتى موضوع المحكمة الدولية الذي يعزو إليه البعض موقف سوريا العدائي من الحكومة اللبنانية يزداد تعقيدا في وجه دمشق بسبب ذلك العداء لأن الحرب الشعواء على الحكومة وقاعدتها السياسية تستفز وتغضب الدول الغربية (كما شهدنا في رد فعل الرئيس الفرنسي ساركوزي) والتي تُعتَبر الراعية الأهم للمحكمة وفي الوقت نفسه الداعم الأول للوضع اللبناني الجديد والمساهم الأساسي في قوات “اليونيفيل” المتمركزة على الحدود مع إسرائيل. نقول ذلك ولا يدور في خلدنا بالطبع أن اللبنانيين في وارد مقايضة المحكمة بإخلاء سبيل الحل اللبناني الداخلي لكن في معرض الإيحاء بأن ضغط المحكمة كان سيكون “أخف” كما أن النظرة الدولية إليها كانت ستتبدل في حدتها وتوقيتاتها لو أن سوريا توصلت إلى تفاهم مع لبنان وسعت بالمعنى نفسه لتهدئة خلافاتها مع السياسيين المطاردين في أنحائه والمهددين، وهذا مع العلم ان العديد من هؤلاء يمكن أن يتحولوا من أخصام أشداء إلى أصدقاء في ما لو تبدل أسلوب التعاطي مع البلد وقياداته.
نختم بالقول إن سوريا تكون قوة فعلية ومعترف بها عندما تكون قوة “محايدة” وإيجابية للاستقرار وليس في لعب دور الخصم القادر على التعطيل والإيذاء أو شل البلد، وهذا–كما يعرف الجميع- شأن هين على دولة بحجمها ومواردها ونسيج علاقاتها اللبنانية والعربية. كما إن لبنان بدوره لا يعيش في طمأنينة عندما يكون في صراع مع عمقه ومحيطه السوريين، ومن دون ترابط صحي مع ذلك العمق. لكن تحقيق هذا الترابط يحتاج لكي يصبح حقيقة واقعة إلى استراتيجية بديلة خلاقة وطموحة فعلا تتجاوز سياسات رد الفعل “العقابي” القصيرة النظر وتفك الارتباط بخلافات اللبنانيين وزواريب السياسة المحلية. عنوان تلك الاستراتيجية يجب أن يكون أولا الخروج من الماضي وترميم علاقات حسن الجوار وثانيا التركيز في المقابل على تفعيل وتمتين الرابطة السياسية من خلال تمتين المصالح الاقتصادية على غرار المثال الأوروبي أو المثال الفرنسي-البلجيكي أو المثال السعودي في المحيط الخليجي الأوسع. إنه الواقع الجديد للعالم الرحب ونموذج التقدم عبر التعاون والتكامل وَشْبك المصالح المشتركة وهو نموذج تحتاجه سوريا بدرجة الحدة نفسها التي يحتاجها لبنان.