عن محنة القراءة في العالم العربي
خالد غزال
لم يخرج العرب حتى اليوم من اسار النظرة النرجسية الى ماضيهم والى ذواتهم الراهنة، فلا يزال التغني بالحضارة العربية التي سادت في القرون الوسطى يشكل الزاد الرئيسي في مقارعة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الذي عرفته المجتمعات غير العربية، ولا يزال سائدا ايضا المنطق القائل ان العرب يملكون ما يكفيهم من المعارف وبما لا يجعلهم بحاجة الى علوم الغرب. ينجم عن هذه النرجسية انبعاث لنزعات عصبوية تعبر عن نفسها بانعزال الهوية العربية على نفسها واتخاذ موقع المدافع عن خصوصياتها في وجه الزحف القادم من الحضارات الغربية. تقدم التقارير الدورية الصادرة عن مؤسسات دولية وعربية صورة قاتمة عن الواقع الثقافي العربي وعن مستوى التخلف الذي يقيم فيه وحجم التأخر عن حضارات ومجتمعات كان له سبق التقدم عليها لعقود خلت. مما يطرح اسئلة راهنة حول موقع الحضارة العربية المتواصلة وما اذا كان هناك حقا من وجود لها؟.
لا ينطلق التشكيك من فراغ، بل يستند الى واقعتين معبرتين تحدثت عنهما وسائل الاعلام مؤخرا، الاول ما صدر في «التقرير الاول للتنمية الثقافية» الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي»، والثاني ما جاء في اعمال الندوة الفكرية التي اقيمت خلال الملتقى الفكري المصاحب لمعرض الشارقة الدولي بعنوان :»المتغيرات الحافزة لترجمة الثقافة والابداع الاماراتي الى اللغات الاجنبية».
يشير تقرير مؤسسة الفكرالعربي عن التنمية الثقافية الى ان معدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز 22 في المئة، بينما يصل في كوريا الجنوبية الى 91 في المئة، واستراليا 72 في المئة واسرائيل 58 في المئة. في ميدان التعليم الجامعي، هناك استاذ جامعي لكل 24 طالبا في العالم العربي، بينما في اليابان استاذ لكل 8 طلاب، وفي اميركا استاذ لكل 13 طالبا. اما في مجال حركة التأليف والنشر فيشير التقرير الى ان عدد الكتب المنشورة عام 2007 في مجمل العالم العربي بلغ 27809 كتب، حيث تمثل الكتب الخاصة بالعلوم والمعارف نسبة 15 في المئة، والكتب المنشورة في الادب والاديان والانسانيات الى 65 في المئة . ويضيف التقرير الى ان كتابا واحدا يصدر لكل 12000 مواطن عربي مقابل كتاب لكل 500 انكليزي وكتاب لكل 900 الماني. يخلص التقرير الى استنتاج حول معدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4 في المئة من معدل القراءة في انكلترا.
اما تقرير ندوة «الشارقة» فيقدم صورة مخيفة عن حال الترجمة في العالم العربي راهنا فيشير الى ان اسرائيل تترجم سنويا ما مجموعه 15000 كتاب الى اللغة العبرية (وهي الموصوفة بانها لغة ميتة) مقابل عالم عربي لا يترجم اكثر من 330 كتابا سنويا، وذلك وفقا لاخر احصاء صادر عن تقرير للامم المتحدة. ويضيف التقرير ان ما يستخدمه العرب من ورق سنويا يكاد يساوي ما تستخدمه دار نشر فرنسية واحدة. اما بالنسبة الى طبيعة الكتب المترجمة الى اللغة العربية، فان معظمها ينصب على الاداب وليس على العلوم، فيما يتركز اهتمام اليابانيين على ترجمة الكتب العلمية.
وفي السياق نفسه يشار الى ما اوردته بعض الصحف العربية نقلا عن تقرير تناول موضوع القراءة في العالم العربي :»ان الجفاء لا يزال في اوجه ما بين المواطن العربي والكتاب، فالدراسات الدولية الاخيرة حول معدلات القراءة في العالم اوضحت ان معدل قراءة المواطن العربي سنويا هو ربع صفحة، في الوقت الذي تبين فيه ان معدل قراءة الاميركي 11 كتابا والبريطاني 7 كتب في العام».
كان الهدف من ايراد هذه الارقام المخيفة حول واقع القراءة والترجمة في العالم العربي تسليط الضوء على الواقع الحضاري العربي. قد لا يكون مقبولا الحديث عن «صراع حضارات» كما جرى له التظير من قبل برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون، لأن الواقع ان الحضارات تتكامل وتتلاقح وتؤثر بعضها في بعض، فيما الحديث المزعوم عن الصراعات في ما بينها انما هو في حقيقته صراع وتصادم اصوليات تحويها كل حضارة مهما كان انتماؤها واتجاهاتها. لكن هذه الحقيقة لا تنفي وجود حضارات متقدمة وحضارات تراوح مكانها وحضارات سائرة على طريق الاندثار لعجزها عن مواكبة العصر. في هذا الحقل يمكن مناقشة الحضارة العربية في مرحلتها الراهنة ومقارنة مع ما كانت عليه في عصورها الذهبية.
وعندما نتحدث عن حضارة عربية كان لها تألقها وتأثيرها على الغرب وتقدمه، فانما نشير الى تلك المرحلة التي ازدهرت فيها الترجمات العربية من الهندية والفارسية واليونانية، وانصبت على ميادين العلوم والرياضيات والفلك والفلسفة وعلوم الطبيعة وغيرها، مما لا تزال المكتبة العربية تزخر وتفتخر به، وهو زاد يعترف الغرب بدوره الهام في نهضته. قياسا الى الحاضر، لا يخطئ النظر في رؤية الانحدار العلمي والثقافي في العالم العربي وتراجعه عن المقومات التي كانت وراء نهضته في العصور الوسطى، وعلى الاخص منها انكفاء الاهتمام بالعلم والثقافة. قد تكون اسباب سياسية عديدة تكمن وراء هذا التخلف، وهي اسباب حقيقية تتصل بدرجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لكن ذلك لا يلغي ان العالم العربي، من وجهة التقدم الحضاري، لا يزال يقبع في اسفل السلم.
واذا كان العالم العربي مستنفرا في هويته الحضارية في وجه ما يسميه «منظرو التخلف» غزوا ثقافيا غربيا، فان اول شروط حماية الهوية وتطوير قيمها وتوفير مقومات الدفاع عنها تبدأ في استنهاض المستوى الثقافي بكل ما يعنيه من انتاج فكري وترجمات وتعلم من الحضارات الاخرى والتفاعل معها، بما يستتبعه ذلك من الانغماس في القراءة واستيعاب ماتقدمه الثقافات وما ترفعه من وعي ومعرفة لدى المواطن.
يصعب على العالم العربي الخروج من قوقعته الراهنة والانفتاح على المجتمعات والحضارات الاخرى اذا ما ظل مستوى الامية فيه يسير في خط تصاعدي، او ان تظل ثقافة الغيبيات واللاعقلانية سائدة على العقول ومسيطرة على مناهج التعليم. يحتاج العرب الى التفكير مليا في المكان الذي يقيمون فيه والذي هو مكان يتموضع حاليا خارج التاريخ.
الحياة