في الأخطار الخارجية والداخلية
موفق نيربية
في بلادنا، كان المؤمنون بالقومية السورية حين يقولون «وطننا»، يعنون ما كان يُسمّى بسورية الطبيعية التي تضمّ لبنان وفلسطين والأردن وسورية، والعراق أحياناً، وربّما قبرص. والمؤمنون بالقومية العربية يعنون العالم الممتدّ من المحيط إلى الخليج. والفقراء الذين نشأوا في أيام الاستعمار الفرنسي، يعنون سورية الحالية، كما هي وكما أنجبها التوافق الانكليزي – الفرنسي على أيدي «سايكس وبيكو»، في أعقاب الحرب الكونية الأولى ونهاية الإمبراطورية العثمانية.
ومازال السيّدان المذكوران موضع غضب واستنكار كلما ذُكرا، رغم أن هنالك قبولاً واسعاً لهذا الوطن الذي عزّزت وحدته حقبةٌ طويلة من الاستقرار على أيدٍ من حديد، وهذا تكرار لمختبر الشعوب التي سبقتنا كثيراً في بلورة الدولة القومية أو الوطنية.
هذا لا يعني انتهاء حساسية القوميين أو الوطنيين الذين مازالوا يحلمون بأمة ووطن ودولة أكبر، من كلمة الوطن أو «وطننا» حين ترد في أيّ سياق، وهذا حق مشروع وحلم لا يُمكن نفيه اعتباطاً، وليس مفيداً فعل ذلك أيضاً.
عملياً، أصبحت سورية وطناً، يتعلّق به السوريون، ويرونه يواجه الأخطار أكثر من أي وقت مضى، ويختلفون بشأن هذه الأخطار، منهم من يراها خارجية، ومنهم من يراها داخلية، ومنهم من يراها من الوجهين، يختلفون أيضاً على تحديدها، وعلى أسبابها، والرأي الظاهر أن الأغلبية تقول بالرأي الثالث.
الأخطار الخارجية هي ما يتعلق بتهديد الاستقلال الوطني، من طريق الولايات المتحدة او إسرائيل أو غيرهما، وما يتعلّق أيضاً بالوقوع في إسار مشاريع الهيمنة التي لا تحسب للشعوب والدول الضعيفة حساباً، في سياق انجرافها مع أهدافها الخاصة، سواء كانت هذه المشاريع من الجهة الأميركية أم الإيرانية أم غيرهما.
ولا مصلحة في تكرار كلّ خطر مع كلّ أذان، لأن هنالك من لا يريد الإساءة إلى قوة المثال الأميركي في التقدّم والحرية والديموقراطية، إذ يهدف إلى مواجهة الهيمنة والأنانية وانعدام التوازن والعدالة في السياسة الإقليمية، وهنالك من لا يريد الإساءة إلى المثال الإيراني في إرادة الاستقلال والبحث عن الهوية ما بين القومية والمذهب والاضطهاد التاريخي، إذ يهدف إلى مواجهة الهيمنة والأنانية أيضاً، إضافة إلى الخلل القائم والمحتمل في الصدام المذهبي الذي يمكن أن يشعل المنطقة والعالم.
الأخطار الداخلية هي ما يتعلّق باحتمالات إضعاف أو تفكّك اللحمة الوطنية، على أساس اجتماعي أو اقتصادي أو قومي أو ما شئت. ولا يضمن هذه اللحمة إلاّ الدولة القوية العادلة والقانون الحاكم ومفهوم المواطنة والحرية والمساواة.
ولا مصلحة أيضاً في ترديد هذه الأخطار مع كلّ أذان، لأنها من النوع الذي يستدعيه تكرارها، رغم إلحاحها وضرورة معالجتها بصراحة وشجاعة وروح عملية، ووطنية أولاً.
كيف تصبح هذا الأخطار داهمةً؟ بأيدينا، فإن كانت السلطة – الدولة لا تستقوي بشعبها، ولا يستقوي شعبها بحريته، ويمارس سيادته؛ وإذا احتكرت السلطة الرأي والتعبير والتنظيم، وحاصرت سيادة القانون بقوة الاستثناء وأجهزته المتغلّبة، وكانت مسؤولة عن أزمته المعاشية المتفاقمة، وتركت للفساد أن يزدهر على حساب الاقتصاد والناس والدولة، فهي سبب تفاقم الأخطار بكلّ أنواعها.
قيل إن المستعمر الغاشم لا يستطيع أن يدخل بلداً إلاّ إذا كان هذا البلد «قابلاً للاستعمار»، وعند البحث عن السبب في الحالة التابعة: هل هو التخلّف الذي لا جدوى بوجوده، حتى في ظلال الحرية والتحرر، أم هو الاستعمار والاستكبار والامبريالية وكلّ شيء آخر؟! في المحكمة الدولية هو الاستعمار بالطبع، وفي المحكمة الوطنية هو «نحن».
ولا يمكن للبعيد أن يتصوّر مُعادل هذا الهذر في السجن والقمع والتخوين والمزيد من ضياع الوقت على الوطن الذي يتكلمون باسمه ويعتقلون ويقطعون الأرزاق ويشرّدون!
قال بعض السوريين إنهم يريدون العمل سلمياً، ليحققوا (بشكل متدرج، وبطريقة آمنة تؤدي «في سياقها ونتائجها» إلى تحصين البلاد من كلّ ما يمكن أن يهز وحدتها الوطنية، بل بطريقة تعزز هذه الوحدة منذ الآن)، تغييراً في أوضاعهم «يكون كفيلاً بالحفاظ على السيادة الوطنية، وحماية البلاد وسلامتها، واستعادة الجولان من الاحتلال الإسرائيلي، ونحن إذ ندرك أن عملية التغيير هذه تهدف أيضاً إلى الحفاظ على الاستقلال الوطني وحمايته، فإنها تحصّن البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأميركية والتدخّل العسكري الخارجي، وتقف حاجزاً مانعاً أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسات الحصار الاقتصادي، وما تفرزه من تأثير على حياة المواطنين ومن توترات وانقسامات خطيرة»… قالوا ذلك، فجاء القمع والملاحقة واتّهامهم في وطنيتهم، تلك مهزلة لا يُخشى من نتائجها إلاّ على من يقوم بأدائها، وتلك أيضاً مهزلة في المستوى العربي، وليست محلية فحسب.
* كاتب سوري