صفحات ثقافية

ليل ستوكهولم الأبيـض!

null
خليل النعيمي
‘ قال ما تريد؟ قلتُ أريد ألاّ أُريد قال أعطيناك’ أبو يزيد البسطامي
قبل أكثر من عشرين عاماً حاولتُ الوصول إليها ولم أقدر. كنتُ أحلم بشيء آخر غير الذي أراه الآن. وكنت أريد ما لم أعد أُريده.
كنت قادماً من ‘دمشق’، عابراً في ‘مدريد’. كانت الأرض ضيّقة، وكنتُ أحسُّني محاصراً مثل ‘جَرْبوع’ في فيافي ‘الجزيرة’.
كنتُ أريد أن أذهب إلى أبعد نقطة في الكون. وكان ذلك ‘الذهاب’ بحد ذاته حلماً يكاد يكون مستحيلاً. لكن ‘المحاصَر’ لا يبحث إلا عن المستحيل. خبّأْتُ ذلك كل هذه السنين لأكشفه الآن. أكشفه وأنا في المدينة التي حلمتُ بها، ذات يوم. كنتُ أراها ‘فتاة’ طويلة بيضاء، ليِّنةّ المسالك، لا تَرْفُض ولا تُرْفَض. وكنتُ أرى الغيم فوقها زمردياًّ. ومطرها يشبه الندى في الحَماد.
لم أكن أهتَمُّ بمصدر هذا التصوّر، ولا من أين جاء. كنت على يقين من ‘مطابقته للواقع’. لواقع أعرف أنه بعيد عني. ولأنه كان كذلك فحقيقته لا ريب فيها. تقدمت بطلب للعبور إليها. وبعد أيام جاءني الجواب بالرفض. تصوروا خيبتي العميقة. يومها عدتُ ماشياً شوارع مدريد الجميلة وكأنني أمشي حافياً على الشوك. على شوك الجزيرة القاسي وقد جفَّفَتْه رياح الخريف.
اليوم، أجيئها مشاركاً في ‘المؤتمر الأوربي للجراحة’. وأجد الأمور على صورة أخرى. وأصير أحب الرفض الأول الذي جعلني أسلك الطريق الذي لم أخطط له. وأكاد أقتنع أن ثمة أشياء، أشياء صغيرة لا نحسب لها حساباً، تجعلنا نصل، في النهاية، إلى مصائرنا التي لم نكن نحلم بها. ونحن، في الحقيقة، لا نحب الوصول إلى غيرها.
لماذا؟ لأن المصائر التي نحلم بها في البدء لا قيمة لها، غالباً. ولأن معارفنا في مرحلة أولى ليست إلا رغوة الحياة الفارغة، مثل زبد بحر لا نعرف كيف نعوم فيه، بعد. ولربما كانت بعض خيبات الحياة التراجيدية تأتي من هذا الإنطلاق الخاطيء. الإنطلاق من ‘النقطة المزيّفة’ في الحياة : نقطة الحلم عندما يكون الكائن على حافة الإنهيار.
الآن أنا فيها
أمشي وحيداً مثل طير غريب في غابة. لا تعجبني الأبنية الحديثة، ولا الوجوه الشاحبة. أبحث عن شيء آخر. أريد ريحاً أخرى توصلني إلى الحلم القديم. أعرف أن ذلك محال، لكن مع الحيلة قد يغدو المُحال قابلاً للاستيعاب. أمشي. لا شيء يوقفني قبل أن يُنْهِكني السَيْر. أخيراً، أصل المدينة القديمة. هأنذا في فضائي. فيها أقف وأقيم. أقف. تطلع الشمس لدقائق من وراء الغيم الكثيف. أشرب نورها الباهت بمتعة مثل طاس لَبَن طازج في قَيْظ بادية الشام. مع النور البازغ تنتشر الروعة الأخَّاذة على بساط الماء المتدفِّق بهدوء، أمامي. وعلى الفور، تملؤني الرغبة في أن أمحو ما قلته، قبل قليل، بشأن هذه المدينة. التسرّع من شيمة اللؤماء، وقد تسرَّعْتُ كثيراً عندما أبديتُ رأياً عاماً لا يعتمد على مَلََكَة نقدية. وإنْ كان يمكن له أن يكون صحيحاً، أيضاً.
إنسوا ما قلتُ، وتعالوا معي
نمشِ المدينة، معاً
المدينة القديمة آية في الجَمال. تكشفها لي، على غير انتظار، أشعة ‘الشمس الصغيرة’ التي تبدو وكأنها مسروقة، أو لكأنها ولدت للتو، من أمها: ‘الشمس الأصلية’ التي كانت تحرقني في الحَماد. تحت شعاعها الأبيض اللطيف الذي يكاد أن يكون بارداً، أقف.
في الفضاء الساحر المملوء بالماء، بين التَشَيُّدات العملاقة ذات الأحجار الحُمْر العريضة، والفساحة اللامتناهية التي تكاد تجعلك تنسى مَنْ أنت، أقف. وهنا بالتأكيد، في إمكانية النسيان، هذه، المتَضَمَّنَة في النوء، تكمن خطورتها العظمى. مدينة أحسها تمتصُّ رحيق الكائن، ولا تُبْقي له، ومنه، سوى الثفالات. ومع ذلك لا بد لنا، في ظرف كهذا، من مواجهة العالم حتى ولو كان ينوي افتراسنا. لأن الإحتراز منه هو الموت المحقق الذي لا عاقبة له. إمشِ!
فجأة تتبدل الأحوال. الشمس التي حسبتها مستقرة، كانت سريعة العطب. يكفي قليل من الغيم ليخفيها، ليزيح أشعتها البيض، ليدفنها بلا مبالاة كما يدفن الكائن ذاته الرَثَّة. من أين جاء هذا الغيم البهيم؟ وإلى أين أتوجّه الآن؟ الظلال التي غمرت المدينة بردائها العملاق جعلَتْ كل الأماكن متساوية. وهو ما يدمّر متعة المسافر، ويجعل السَفَر ترابيّاً.
أظل واقفاً، استطلع الأنحاء. أحدّق في الخلاء المائي المبثوث حولي. بشر قليل يمشي عَجِلاً وبلا اكتراث. لكأنه لا يستطيع أن يخفف من سرعته التي بدتْ لي عُصابية. أتملّى الوجوه بنوع من التحفُّز والإنقضاض، ولا أرى سوى اللامبالاة. لقد حددوا، مسبقاً، ما يعنيهم وما لا يعنيهم، والباقي ليس أكثر من عبور طريق. مَنْ أنتَ حتى تثير انتباه العائدين إلى مخابئهم في آخر النهار؟
نسيت الشارع الجميل الذي قادتْني الصدفة إليه. كان اسمه: ‘ستورانيجاتنْ’. بلى! هذه هي ‘ستوكهولم’ التي كنت أتصورها، تقريباً. ولا ينقصها إلا شيء واحد : البشر الذين كنت أتخيّلهم يملأونها. أما هذه الحَفْنَة من الناس المتسارعين فلا تشكل، في عرفي، غابة، ولا تغري الذات باندماجها فيها. أظل واقفاً بهدوء.
أمشي
عند تقاطع ‘ستورا نيجاتِنْ’ و ‘شونْغلد غرانْدْ’ أجلس في مقهى ‘كلادْكاكانْ’. أقعد بعد ساعات من المشي والنظر والإنخطاف. أحس بنفسي تمتليء مثل بئر يفور الماء في أعماقه. لم أكن أعتقد أن ‘ستوكهولم’ ستكون بمثل هذا البهاء. بهاء يزيده الصمتُ والتوَحُّد جمالاً. لأن الصمت الذي هو ‘سكون اللسان’ يجعل العقل يتحرك، ويتيح له الوقت الكافي لكي يعمل بشكل مضاعف.
هنا، لستُ مضطراً للاستماع إلى أحد لا يعنيني كلامه شيئاً. ولستُ مُجْبَراً على التكلُّم مع أحد، وبخاصة عندما أكون مدفوعاً لافتعال ذلك. ليس بي حاجة لأن أُسرع، ولا لأن أُبطيء. أنا في توازني. وهو ما يجعلني أحس بجمال المدينة، وأعطيها الوقت الذي يستحقُّه هذا الجمال. والجَمال، دائماً، يتطلّبُ منكَ الوقت الضروري لتأمُّله واستيعابه. فالعلاقة مع الأمكنة، مثلها مع الكائنات، تحتاج إلى التوازن العميق لا إلى الإتِّزان الكاذب. وهي تنضج بالتأمُّل البطيء، وليس بالإتصال المتسرّع.
في ‘ستوكهولم’ السماء قريبة من الأرض تكاد أن تلامسها فوق رأسي. وهو ما لا يسمح، كما أتصوّر، بطغيان الأفكار المجردة. واقفاً في خلاء المدينة، أستعيد الأفكار الساخنة التي كانت تغلي في رأسي، صغيراً. كان القمر يُلاقي الشمس بعيداً. والفضاء الشاسع لا يحوي سوى الشوك والعاقول. وكنت أقطع الأرض حافياً كالغراب اليتيم. ماذا كان بإمكاني أن أفعل، آنذاك، غير أن أملأ رأسي بالغُبار، بغبار الأفكار التي تتوالد كالديدان؟
في ساحة ‘سلوسْبَلانْ’، أقف طويلاً. أقف مأخوذاً بعظمة المرفأ وما يحيط به من هياكل وأفانين. مرفأ على المحيط الأطلسي بالقرب من القطب الشمالي للأرض. تعبره الريح الهائجة بهدوء وكأنها لا تريد أن تزعجه أكثرمن ذلك، أكثر مما فعلتْ منذ قرون. الضوء يبدو صافياً مع أنه معتم وضئيل. والنظر لا يسرح بعيداً بسبب خُمول النور الذي يكاد يعجز عن أن يجعل الأفق مرئياً. والناس يتسارعون مقتحمين الريح الباردة وكأنهم يسبحون فيها. وأنا أقف وحيداً، متمَلِّياً بلا ارتباك كل شيء.
أمامي، تماماً، فوق ماء المحيط، يَتَرَبَّعُ تمثال الفارس المهيب الذي يشير بيده القوية نحو الغرب. لكأن مركز الكون هناك. ‘ كارل الرابع عشر، يوهان’ هو اسمه. وتحت الاسم مرقوم : أبو ‘أوسكار الأول’! ولكن، مَنْ هو أوسكار، هذا، إنْ لَمْ يكن ابن المخيّّلة الغائب؟
تعاقب الضوء والظل، أو لعبة الشمس مع الغمام، تجعل المدينة تبدو غريبة الأطوار. وتصير تحس بوضوح أن أمزجة الناس، هنا، تتغيَّر على الدوام. عندما تشرق الشمس يبتسمون قليلاً، وعندما تختفي يتَلَبَّسهم العبوس. وأظل محتفظاً بمزاجي وأنا أعد الُخطى صاعداً هابطاً مثل حمار الحَوّاج الصَّـبور.
أصعد الهضبة العظمى المقابلة لجزيرة المدينة القديمة. فستوكهولم مجموعة من الجُزُر، والفضاءات المائية، والهضاب. إنها مدائن تتجاور مثل الأكَمات دون أن تمس أحداها الأخرى إلا عبر الماء. في كل واحدة منها يقوم جزء من المدينة التي تتمَحْوَر حول أجران الماء العملاقة المنبثقة من المحيط الأطلسي. في مقهى ‘بلادْ دورينْ’ أجلس بعد أن أعيَتْني الظلال. ظلال الشمس التي تجهَّمَتْ فجأة. بتأثير سُجُف الغيم الكثيفة يصبح المشي مرهقاً، وترتخي النفس، ولا تعود العَيْن ترى ما كانت تراه. وهذا المقهى الجميل الذي آواني يقع في أول الهضبة التي تطل، مثل الهضاب الأخرى، مباشرة على المحيط (وهي تقابل هضبة المدينة القديمة التي جئت منها ماشياً). أجلس وأدوخ.
الفضاء تكتسحه الغيوم، فيغدو المشهد أبْكَم. العالم يمشي بلا توقف. يمشي صامتاً، دون ضجيج أو عدائية. لكأن الناس، هنا، يخشون على الطبيعة من الضجيج. تحسُّهم يتحاشون، إلى أقصى حد، الَلَجَّة والعياط. لكأن الصوت اللامجدي صدمة تضر، ولا تنفع أبداً. ويحضرني على الفور: ‘أروع أنواع الكلام الصمت’. وأسرح في تأملاتي متسائلاً: مَنْ قال هذا؟ دون أن أهتم بمَنْ قاله، فعلاً. وما يدهشني أكثر هو انعدام القسوة في حركاتهم، أيضاً. لكأنهم يطبقون قاعدة: ‘خَفِّف الوَطْء…’ التي ابتدعناها (المعري) وتنَكَّرْنا لها من بعد.
‘ستوكهولم’ مدينة البارات والمقاهي، وكنتُ أتصوّر أنها ‘باريس’. أينما ذهبت تجد مقهى أو باراً. وفي أي شارع مشيت تجد الإنْس نفسه. الناس ينتشرون في زواياها بمتعة أدهشتني. لكأن المقهى جزء من حياتهم الداخلية، وليس عَرَضاً عابراً. لا يأتون إليها ليَتَمَظْهروا، وإنما ليعيشوا. يقضون فترة من يومهم في ضفاف المقهى والمشْرَب والمطعم مُتمَتِّعين، وكأنه طقس لا يمكن التخلّي عنه. ذلك يبدو صريحاً في تصرفاتهم المريحة، وفي الفترات الطويلة التي يقضونها سعداء في هذه الأمكنة. لايبدو عليهم أنهم يهربون من بؤس حياتهم إليها، وإنما يؤمّونها فرحين. هكذا تظهر لي الأمور. ولا أحسب أن المظهر أقلّ تعبيراً عن حال الكائن من المَخْبَر.
في ضوء العصر الصغير، أقف على الجسر المنحني، ناظراً في فضاء الماء حولي. الماء الذي تكاد ستوكهولم أن تغطس فيه. أستدير حول محور الرؤية التي يخطفها البريق المتلأليء في الحضيض، وقد بدأت بُزوغات الشمس تضحك لي، وأنا أردد: مدينة مُخيفة الجمال، ستوكهولم!
تحتي أصابع المحيط المائية تُشَتِّت اليابسة. وفي البعيد غيوم وظلال. في الأفق الذي يكاد يكون لا مرئيّاً تتراجف أشعة النور وهي تحاول أن تعبر الغمام. أبراج الحصون القديمة تعلو المدينة بأطرافها الحادة كالأِبَر العملاقة متجهة نحو السماء. حفيف الريح الهادئة هو الذي يحمل النور ليوزّعه على الأنحاء. ستوكهولم مدينة تثير الذهول، وتظل عصيّة على الفهم حتى بعد أن قضيت يوماً كاملاً فيها. وما لا نفهمه رأساً، لن نفهمه ولو منحناه وقتاً طويلاً من عُمرنا. ولكن، لا بأس من العناد والمحاولة.
صعدتُ الهضاب قبل ساعات، وأنحدر الآن. في الإنحدار يبدو الضوء أكثر إشراقاً. لكأن الغمام الذي احتجزه لأمد طويل، حرَّره للتوّ، فأشرق وجه الأرض. ولَكَمْ يبدو ذلك سعيداً. أتذكَّر اشراقات ‘الجزيرة’ الخانقة من شدة النور. حيث الشمس الساطعة، التي كنا نحتمي بالظلال الكثيفة منها، تظل تجلدنا بسياط أشعتها اللاهبة، طيلة اليوم. والآن، في ستوكهولم، أجدني أبحث عن فتات من ضوئها، عن نَثْرَة من نورها خدع الغيم فتحرر. أتصوّر أن المحيط الأطلسي هو الذي يسرق الشمس من هذه المدينة التي لا مثيل لها. وهو الذي يرسل غيومه الكثيفة إلى الأعالي لتختطفها، وتخفيها. وبسبب ذلك تقضي المدينة يومها كاملاًِ في البحث عن نقطة ضوء، ولا تحظى إلا بحثالة نور يصلها مُنْهَكاً بعد أن تعب من التعارك مع الغيم. المدن بالنسبة للبشر كالثياب، يبنونها ليعيشوا فيها. ويحلمون بها لكي تطابق أحلامهم، لا لكي يضيعوا في ثناياها. ستوكهولم تحقق هذه القاعدة بامتياز. فهي تبدو رصينة، شديدة الاعتداد بذاتها، مرعبة في ثباتها الظاهري، وفي رسوخها الذي لا يهتز، تماماً، كما يبدو على كائناتها. وإنْ كان ‘ما يبدو’ لا يطابق الحقيقة، دائماً.
الناس هنا عَمَليّون كالحجارة. لا ترى على وجوههم أهواء تحركهم، ولا عاطفة ترتسم بجموح. لا يدفعهم نَهَمٌ نحو الأشياء ولا الحياة. يتحركون وفق هدف يومي محدد بدقة، وضروري الإنجاز. ينظرون حولهم، إليك وإلى العابرين وحتى إلى الماء، بحيادية تثير الخوف. وأعيد التساؤل: أتكون هذه هي العتبة التي وصل إليها تطوّر الحياة البورجوازية المتخمة بالسلعة؟ (لا أظن أنني أجدْتُ السؤال). ذلك هو، ربما، ما يجعل الشرقيّ يعيش هنا بكآبة، وكأنه مدفون حيّاً.
النساء هنا تجاوزن عَتَبَة الإغراء، ولا غواية لديهن. لكأنهن أصبحن خارج دائرة ‘الجنس المكبوت’ الذي يُضفي على العربيات، مثلاً، سحرهن، وحسّيَّتهن، وبخاصة عندما يُظْهِرْنَ شغفهنَّ به. ولكن، ما يجعل هذه المدينة منسجمة في أصالتها هي نساؤها. نساؤها اللواتي يبدين كتيمات على النظر، وإلى حد ما، ‘غامضات’ الأحاسيس، على الأقل بالنسبة للمراقب العابر، مثلي. لكأن حياة الإكتفاء الرتيبة عقَّمَتْ رغباتهنَّ. ولكن مَنْ يدري؟ وما همني بالذي يدري وأنا أرى الأمر على هذه الشاكلة؟
تشرق الشمس طويلاً في يومها الثاني. على الجسر الصغير أقف ناظراً باتجاه الشمس، لاحقاً ضوءها الهارب في الغروب، متمتعاً بروعة هذه المدينة ذات الأهاضيب الآسرة، والبطاح المائية التي لا تتكرر، ولا تُكَرِّر مرائيها.
للماء دور كبير في الجَمال المُبَلَّل الذي يحيط بي. الماء يهطل من ذُرى الأشجار العملاقة. والجدران لها منافذ للماء النازل بهدوء. والماء هنا جداول وأنهار وأبحار. كل شيء في ستوكهولم ماء. وأتصوّر أن الحُب والجنس هما كذلك. وهو ما يجعلني أُعيد النظر للحظات بمقولتي التي سبقَتْ. وأكاد أشعر بالخسارة الفادحة لأنني لا أستطيع أن أتأكّد من مشاعري بشكل ‘علمي’. ومع ذلك، لا بد لي من أن أقول إن هذه المدينة الشديدة الروعة لا مثيل لها على وجه الأرض.
سحَرَتْنا ‘باريس’ و’لندن’ و’مدريد’ و’فيينا’، وغيرها من مدن أوربا المتوسطية لقربها منا، (فقط !). الكسل العربي ‘الجديد’ معروف، وهو ما يجعلنا حيارى ومحلِّيين على عكس قدمائنا المغرمين بالأسفار. والمَـثَـل السُكونيّ : ‘القريب يريحكَ، حتى ولو لم يسرك’، هو الآخر، متداول عندنا، ومعتَقَد به. وقد يكون هذا المفهوم الراكد أحد العوائق المعرفية التي أحبطَتْ العقل العربي الحديث، وحالَتْ، ذات يوم، بينه وبين ‘مغامرة العقل الثانية’ التي كانت فاتحة العصور الحديثة. لنَمْشِ، الآن.
هذا اليوم، بعد أن تمتعتُ برؤية القصور الجليلة الرابضة في الجزر الصغيرة المعزولة، مع أنها في قلب ستوكهولم، سأمشي شارع ‘ فاسْتِرْ لانْغاتِنْ’، إلى آخره. وهو شارع آخر جميل ومُواز للشارع الذي مشيته البارحة. فضاؤه مملوء بالبشر والعابرين. تُقاطعه ‘شُوَيْرعات’ صغيرة ضيقة وشديدة الجمال. الناس الذين يمرون به سيبدون لي من كوكب آخر. لماذا؟ لأن لأن للجَمال سلطة. وجمال هذا الشارع الذي يختلف عن أي شارع جميل آخر له بُعْد سحري.
الأصفر والآجري والأحمر هي الألوان التي تسود فضاء ستوكهولم. ويعلو فوقها الأخضر العشبي في كثير من الأحيان. وبخاصة، في ألوان المسلاّت العملاقة التي ترتفع شاهقاً فوق الحصون القديمة، والكنائس، والقصور. الأخضر الغامق لون ذُرى الأشجار العالية، ولون وجه الماء الغاطس في الحضيض.
في ساحة ‘ستورْ تورْغِتْ’ أرى الجَمال متجَسِّداً في الأرض. أراه قاعداً، وماشياً، وساكناً. ألوان وهياكل وقوامات. مقاه صغيرة، وبشر هاديء يجلس بلا صوت. يتحركون بطقوسية شديدة الدلالة والامتثال. لكأنهم يعلّمون القادم من بعيد كيف يجلس وكيف يسير. وأحس أن ذلك فوق طاقة الإحتمال. وأهمُّ أن أصرخ ! ولكن، مَنْ سيسمع صوتي؟ أنا الآخر، أجلس مثلهم بلا ضجة. وأكف مؤقتاً عن الكتابة، فهذا أفضل ما أستطيع فعله. ومثلهم، أمعن النظر في الخلاء. الخلاء المملوء بأثقال وأفكار.
بعد أن أترك الساحة، تقودني قدماي إلى ساحة أصغر، فيها أقدم محل للحلويات في ستوكهولم. بُنيَ، كما هو مكتوب على واجهته : عام 1785. وأسمه: ‘سونْدْبرْج كونْديتوري’. في ساحته الحجرية الهادئة، أجلس متأمّلاً المظاهر الإنسانية المتعاقبة التي تملأ النفس بالغبطة والرضى. وأحس باختلاف البشر وتماررهم بنعومة وصمت، وكأنني في غابة ندية. لكل منهم أموره وغاياته وهم مع ذلك يتفاهمون. بلى! ‘كل كائن عبقريّ بطريقته الخاصة’، أُتمتِم قاعداً قبل أن أقوم.
في اليوم التالي سأعود إلى الساحة الجميلة التي اكتشفتها البارحة، ساحة ‘ميدْبورْجارْ بلاتْسينْ’، حيث المقاهي تتراصف في الفناء الفسيح، وتظل مملوءة بالجالسين، والعابرين. فيها سأجلس هذا المساء متأملاً ضوء الغروب المكسوف من خِفَّته. ضوء شمس يلتهمها الغمام الصاعد من أعماق المحيط. لكن هذا الإجحاف بحقها لن يمنعها من أن تُغافل الغيم، وتلقي ببعض أشعتها علينا، فيبدأ الناس يبتسمون. وأظل أنا متجهِّماً للحظات قبل أن تنفرج أساريري.
من مقهى إلى مقهى سأتابع المشي والجلوس، باحثاً عن الشمس التي، مثل ‘ثعلب زفزاف’ تظهر وتختفي. لكأنها تُلاعِب البشر، وهي في الحقيقة في صراع مستمر مع الغيم. وعندما تنجح، وتطل من الثغرات الكونية العظمى، تبدو السماء بفعل نورها زرقاء فاحمة مثل أسماك المحيطة الهاربة إلى الأعماق. شمس تكشف عن نفسها دقائق، وتَسْتَتِرُ ساعات. ولكن، ما همّ والناس كلهم ، مثلي، ينتظرونها بلا مَلَل.
ليل ستوكهولم أبيض
ليل مغسول، لا سواد فيه. ليل فَجْريّ، بلا ظلمة. منذ أن تختفي الشمس (فهي هنا لا تغيب)، يبدأ الفجر. وعند تظهر يكون النهار مكتملاً. ليس ثمة غسق، ولا شفق. ولكي تنام عليك أن تصطنع الظلام. الظلام الذي تستطيع أن تحيط نفسك به، علَّك تغمض عينيك.
لم أكن أتصور أن الكائن قد يكون مضطراً لفعل ذلك. وأن الحاجة إلى الظلام الحقيقي أساسية كالحاجة إلى النور. وأنني هنا سأخانق النوء الذي ابتلع الظلام : ظلام الليل البهيم الذي كان المتنبّي يمشي فيه، وكأنه منه في قمر منير.
أيام قليلة قضيتها هنا وسئمت. صرتُ أحنُّ إلى العودة. سئمت هذا المشهد اليومي المتكرر والمتشابه بقسوة، وكأنني في صالة عرض حياتي موحَّد، لا يجوز لليوم فيه أن يختلف عن البارحة.
بلى! أفضِّل ‘ كالْكوتا’ وبؤسها العميق، ولكن المتعدد الوجوه والزوايا. اختلافه المستمر يجعلك تعيش وكأنك في مسرح كوني عملاق. بؤس لا يمكن لك الإحاطة ببنوده. يفرش لك على القاع مئات السمات والمشاهد والكائنات. وليس لك أن تختار لأن ذلك كله يأتي إليك، عفواً، بلا قناع، أو تحفُّظ، أو خوف.
وفي النهاية، ليس البؤس، وحده، لا إنسانيّاً، الإكتفاء كذلك. وبخاصة عندما يُقارِب درجة الكَمال.
‘كاتب من سورية يقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى