صفحات ثقافية

الـلغة وحدها الحقيقة: الوسيلة غير المحدودة (مقتطفات)

null
لا شيء، لا شيء بالنسبة اليّ غير اللغة. انها المسألة الوحيدة، أو بالحري، الحقيقة الوحيدة. كلّ شيء يوجد فيها، كل شيء معطى. أنا أحيا في لغتي، هي التي تصنعني. الكلمات هي إنجازات، وليست أدوات. في الواقع، ليس عندي همّ الاتصال. لا أرغب في استخدام فضلات غريبة معطاة لي، للتبادل مع الآخرين. هذا الاتصال معيارٌ زائف، وهمي ومغروز في حياتي. ماذا يمكن أن اقول للآخرين؟ ما عندي لأقوله لهم؟ ولماذا أقول لهم شيئاً؟ كل ذلك ليس سوى تضليل. لكنني في الحقيقة أقوم بذلك. استخدمه. اغترف من مجال مبعثر متعدد الاشكال، آلي. فأنا أعيش مصالح المجتمع. ولكن منذ اللحظة التي تصبح فيها الكلمة ملكي، تابعة، محل شك، وتنافر ورابطة قاموسية، اراني منغرزاً في جسدي الحقيقي. كمثل كل الأوهام، إن الوهم الذي ترعاه اللغة، يتجاوز ذاته، يصبح طبيعة هروبي، قوة صعودي، وربما حتى تزهدي.
طبعاً لا انسى ولا في اي وقت القواعد الثابتة، الاولية، التي تجعل من الكلمات مدلولات تبادلية، وهكذا ظاهرياً أظل على علاقة مع الخارج، واشاركه. لكن هذا السانتاكس، وهذا المنطق يستوجبان نصيبهما من النسيان، فاذا لم استطع قطّ ان اكون صافياً، اذا لم استطع قط ان اتكلم لغة صافية، تعرض تماماً ميزة اختباري الوحيدة، أكون في اي حال، في ما بعد الصفاء. ثمة لا اخلاقية مدهشة للغة التي تربطك، التي تهمَل وتجعلك تبلغ متعة الاستقلال. ثمة لا اخلاقية لكل ما هو فردي في جملتي، واخلاقي عند المجموعات. وعلى كل، لا يمكن هذا الامر ان يشكل مناقشة: هذا  هو وضعي الاجتماعي الحقيقي، ولا أستطيع شيئاً تجاهه، حتى لو شئت. فأنا على هذا النحو، كنته، وسأكونه، فمن غير المجدي، بدافع همّ الموضوعية، او ذلك الخبث الطبيعي الذي يُدعى البصيرة، التي تريدك ان ترى الزوايا المختلفة لشيء واحد، ان احاول التهرّب. لا يصح اللعب مع الذات، لا يصح الهروب من الذات. كمثل الزمان، والفضاء، هذه البداهة هي أبعد من كلّ حكم. الحرية ليست هدف اللغة. فهل انا حرّ في ان اكون انا؟
انا لست وحدي. اعرف الف مرة  اني لست وحدي. انا لا اوجد فيزيائياً، فكرياً، اذا تكلمنا بصورة اخلاقية، إلا لأن ملايين من الكائنات توجد، ووجدت حولي، عدا تلك التي سوف تأتي. وذلك ليس مجرد تخيّل، إنه فلذة من الحقيقة. أنا مدين لها كلها بكل شيء، بكل شيء على الاطلاق: اسمي، عنواني، انفي، جلدي، لون شعري، حياتي وافكاري السرية جدّ السرية، وأحلامي، وحتى مكان وساعة موتي. الناس عند ولادتي أعدّوا مصيري. إنهم هم، – وهذه “الهم” ليست كلمة مبهمة، تعسّفاً سوسيولوجياً مقدّراً لتمويه العدم او المصادفة – انهم هم الذين صنعوني، انهم فيّ، واضحون، يُلمَسون، يُسمَعون حاضرون او حاضرون في غيابهم، لهم وجوه، كلمات، اعمال، كتابات، اعرفهم بدون معرفة بهم، وهل تمكن معرفة الجموع؟ على الاقل استطيع التأكيد اني اعرف منهم ثلاثة او اربعة، و بدهيا عشرين. الآخرون، ربما لم ارهم قطّ، وعمري كلّه لن يكفي لأحصيهم، لكني على يقين – وأيضاً على بيّنة – انهم يوجدون.
هي ذي الحال، انهم هم الذين صنعوني. وانا مدين لهم بكلّ شيء. وبالطريقة نفسها التي صاغوني بها، اصوغ. فأنا أب، وكذلك أخ، صديق، خالق وهدام في الوقت عينه، وقاتل ايضاً، من يعرف؟ فذلك لا يعني ان نغوص في عالم ضيّق، حيث المؤثرات لا تحصى، حيث كل تفصيل، كل ثانية تمر هي مهمة، وتترك اثرها. يعني اذاً ان نتألم. يمكننا ان نمجّد هذا الألم، ويمكننا ان نلعنه، وعندما نقاتل، فكل الاسلحة صالحة. لكن ما يجب ان نشعر به بشدة، وبشغف، هو ما في كلّ حياة انسانية من مأسوي. اود ان اقول ما في كل فلذة جسد، كل حركة، كل إحساس، وكلمة، من مأساة ممكنة. المأساة الحقيقية، الوحيدة، وفي قلبها فكرة القدر لتوجهها وتجعلها متصلّبة، قدرنا  ان نكون احياء، على الارض، خارجين من العدم، مرميين في خواء الوجود الوحشي والمتهوّس.
أن نحيا، فريسة ونسراً، أي المأساة حتى في أوهى أعضائنا، لا المأـساة في آرائنا، بل في العمل. مأساة حقيقية بعيدة الأثر، موجعة، ولدت معنا الى الأبد، كحالة وطبيعة لنا، وسوف نستديمها معنا.
إن قدر التكييف الذي يرفع نصبك، الذي يجعّد وجهك، يصنع منك ما أنت بالذات. فهل من الضروري حقاً البحث في مكان آخر؟ أليس ذلك بدهيا ايضاً، في كل منا؟ أليس جلياً بشكل مضحك، ان ثمة حولنا، في الحشود، في الطبيعة، في البشر والحيوانات، عددا لا يحصى من الآلهة الصغار المكوّنين لنا؟ وأننا صنعنا على مثالهم، مرايا سريعة التأثر؟
لنقول عن شخص انه متحضر، نقول غالباً انه مثقف. لماذا؟ ما  هي هذه الثقافة؟ غالباً، وعلى الاغلب، يعني ذلك أن هذا الشخص يتقن اليونانية او اللاتينية، وانه قادر على القاء اشعار  عن ظهر قلب، ويعرف اسماء الرسامين الهولنديين، والموسيقيين الألمان. الثقافة إذ ذاك تستخدم في عالم تجوز فيه التفاهة. هذه الثقافة ليست سوى الوجه الآخر للجهل. إن المثقف بالنسبة الى هذا الأمر، هو أمي بالنسبة الى آخر. ولأن الثقافة نسبية، فهي ظاهرة لا نهائية، لا يمكنها ابدا ان تبلغ الكمال. فمن هو اذاً، ذلك الانسان المثقف الذي نحب ان نتخذه نموذجا؟
في معظم الاحيان ايضاً نقصر مفهوم الثقافة على واقع الفنون لا غير. لماذا نحصر الثقافة هنا؟ في هذه الحياة، كلّ شيء مهم. وبدلاً من القول عن انسان ما، إنه مثقف، كنت أودّ لو يقال: هذا إنسان. وهو يغريني أن اسأل:
كم أحب هذا الانسان من النساء؟ هل يفضل الشقر أم السمر؟ ماذا يأكل في وجبة الظهيرة؟ ما الامراض التي اصيب بها؟ هل  هو  عرضة للزكام، للربو، للدمل، للامساك؟ ما لون شعره؟ جلده؟ كيف يمشي؟ هل يستحم او يأخذ دوشاً؟ اي صحف يقرأ؟ هل ينام بسهولة؟ هل يحلم؟ هل يحب تناول اللبن؟ من هي أمه؟ في اي منزل، اي حي، اي غرفة يقيم؟ هل يحب ان يكون له مسند، مخدة، الاثنان معا، او لا هذه ولا ذاك؟ هل يدخن؟ كيف يتكلم؟ ما هي ميوله؟ اذا ما أهين، كيف يتصرف؟ هل يحب الشمس؟ البحر؟ هل يتكلم وحده؟ ما هي عيوبه؟ رغباته؟ آراؤه السياسية؟ هل يحب السفر؟ اذا ما دق بابه فجأة بائع بضاعة، ماذا يفعل؟ في المقهى، في المطعم، ماذا يطلب؟ هل يحب السينما؟ كيف يلبس؟ ما الاسماء التي اعطاها لابنائه؟ ما هو طوله؟ وزنه؟ ضغطه؟ فئة دمه؟ كيف يمشط شعره؟ كم يستغرق وقتاً في الاستحمام صباحاً؟ هل يحب أن يتمرأى؟ كيف يكتب رسائله؟ من هم جيرانه؟ اصدقاؤه؟ كل ذلك اهم من “الثقافة” المزعومة. ان المواضيع اليومية، التصرفات، وجوه الآخرين، تؤثر فينا اكثر من القراءات او المتاحف. اننا نقرأ شكسبير مرة في حياتنا، عندما نقرأه. بينما نشاهد عمود موريس “Morris” كل يوم على طرف الرصيف! (عنصر من عناصر الهندسة الفرنسية، سمّي كذلك نسبة الى مخترعه غبريال موريس وهو عبارة عن عمود اسطواني يدور على نفسه وتُلصق عليه اعلانات الافلام والعروض).
الثقافة ليست شيئاً، الانسان هو كل شيء. في حقيقته المتناقضة، في حقيقته المتعددة الاشكال والمتقلبة. واولئك الذين يعتبرون انفسهم مثقفين، لانهم يعرفون الميثولوجيا اليونانية، وعلم النبات، او الشعر البرتغالي، وقد عميت بصائرهم. وبتجاهلهم مجال الثقافة اللامتناهي، فانهم يجهلون ما يحملون من عظيم حقا في حناياهم واعني به: الحياة.
ان تلك الاسماء الغريبة العجيبة التي يقذفون بها في احاديثهم، تغيظني. هل يعتقدون بأنهم يؤثرون فيَّ حقا، باستشهاداتهم، واحالاتهم على الفلاسفة الما قبل سقراط؟ ان غناهم المزعوم ليس سوى فاقة تتقنع. ان للحقيقة ثمناً آخر. ان نعرف ما يضم انسان ما، من شقاء، من ضعف، من تفاهة، هي ذي الثقافة الحقيقية. فأن تكون قرأت، تعلمت، ليس مهماً، الفن كيان بورجوازي يُحترم، سمة الانسان المثقف، المتحضر، انسان المجتمع، “الانسان الشريف”: كل ذلك دجل، لعب اجتماعي، نفوذية، سخافة. فأن تكون حياً هو الامر الخطير. أُعنى به عناية خاصة. لا ارغب في التقنيع، في وضع الحبكات السردية، إنْ نقم بهذه الرحلة، فيجب ألا يكون ذلك كـ”سائح” يمر على عجل، بحيث لا يحتفظ بغير الضروري، هذا الضروري الهزيل، الذي يشع بالقليل من المصاريف، اذا ما تحدثنا عن “اليابان” او عن “اسطورة مصارعة الثيران عند همنغواي”. إن التفاصيل الحياتية هي اكثر سحراً”.
طبعاً،  لا يمكن اهمال إنتاج العقول البشرية. ان قراءة شكسبير، والنظر الى اعمال ميزوغوشي امر مهم ايضاَ. لكن على من يقرأ شكسبير او يرى اعمال ميزوغوشي، ان يقوم بذلك  بكل جوارحه، لا اتباعاً للسنوبية الثقافية. ليقم بذلك مع علمه انه اذا قرأ شكسبير، فسوف لا يقرأ بلزاك، جويس او فولكنر. – واذا شاهد اعمال ميزوغوشي، فسوف لا يشاهد آينشتاين، دونسكوي، رينوار، ويلز. ليعلم انه يضحي بآلاف الامور الاخرى؛ وليكن واعياً بكل تواضع، أنه لن يعرف سوى نُتفة تافهة بخسة، من النفس الانسانية، وبصورة ناقصة.
الثقافة ليست غاية. الثقافة غذاء، بين أغذية أخرى، غنىً طيّع لا وجود له الاّ عبر الانسان. وعلى الانسان أن يستخدم الثقافة، ليكوّن ذاته لا لينساها. وفي الاخص، عليه ألاّ يغرب عن باله أبداً، أن ثمة أهم من الفن والفلسفة، هو العالم الذي يعيش فيه. عالم واضح، بارع، لامتناهٍ ايضاً. كل ثانية فيه تمنحه شيئاً ما، تحوّله، تصنعه، حيث لزاوية طاولة من الحقيقة أكثر من تاريخ حضارة، حيث للشارع بهيجانه، بوجوهه المألوفة، العدائية، ومسلسلات مآسيه الصغيرة السريعة والمضحكة، أسرار وتأثيرات أكثر ألف مرة من الفن الذي يمكنه التعبير عنها.
العلم لا حدود له. كل انسان يعلم شيئاً، إنما يقوم بعمل علمي. ذاك الذي يعرف قوانين الكون، وايضاً ذاك الذي يعرف غرفته تماماً. وفي الحقيقة، ليس كذلك هو  امتلاك المعرفة، ولا طبيعة المعرفة، بل هو السلوك، روح العلم.
شخصياً، يميل قلبي نحو الشكل، وعقلي نحو التنوّع. وإن تكن لديّ مشاعر، ورغبات، فنحو المتوازن، الموقّع، والمحدّد. إن الكادرات والهندسات مصدر إلهام لي. لكن عقلي وبصيرتي هما في الزحام، في الفوضى، في غابة الحياة الكثيفة المبهمة، حيث نحيا.
ربما أشد ما يؤلم الانسان ألاّ يستطيع أن يكون في الشكل بدون أن ينتمي الى التنوّع، وألاّ يستطيع أن يلجأ الى التجمّع بدون التحسّر على الانظمة.
ومع ذلك، في الحقيقة، فإن هاتين الحالتين، هذين المفهومين للعالم، ليسا ربما متناقضين. فهذان الموقفان، الصنوان، المتحدان، اللذان يشكلان دعامة واحدة، يمثلان حدود العقل البشري ومداه. والذكاء الانساني العالم بكل شيء ولا يعرف شيئاً، غير المتساوي، الرتيب، المعتدل والثائر، إنما يُختصر في وجوده. وهذا الوجود، مهما كانت أشكاله التي يتخذها، مهما كانت الأوجه، والطرائق، هو في اتحاد مع المادة.
لكن ذلك ربما، ليس نتيجة جدلية ما. إنه الالهام. إلهامي، الذي أنتظره. أعرف أنه سيأتي في يوم او آخر. لست مستعجلاً. ولكن عندما تولد فيّ وتتشكّل هذه الدعامة، فأي فرح، فرح لا يوصف، مجبول بكثير من الآلام والمتع معاً، سيتصاعد راسخاً لا يتزعزع، ويقذف بي الى الاعلى، ويقدمني الى ذاتي الى الابد.
الكتابة
أن تكتب، يجب أكيداً أن يُجدي ذلك شيئاً. ولكن ماذا؟ إن تلك العلامات الصغيرة المنمقة التي تتقدّم وحدها، تقريباً وحدها، التي تغطي الصفحة البيضاء، التي تنقش المساحات المسطحة، التي ترسم تقدُّم الفكر. إنها تُشذّب. تُطابق. ترسم كاريكاتورات. أحبها كثيراً، هذه الكثرة من الحلقات والمنقطات. فيها يعيش شيء مني. حتى وإن ينقصها الكمال، حتى وإن لم تبلّغ شيئاً في الحقيقة، أحسها تجذب نحوي قوة الحقيقة. في صحبتها، يتحوّل كل شيء الى قصص، كل شيء يمضي الى غايته. لا أعرف متى ستتوقف. وسيّان عندي، أن تكون حكاياتها صحيحة أو زائفة. ليس من أجل ذلك أصغي اليها. إنها تسحرني، وبكل سرور أدع ايقاع خطاها يخدعني، وأتخلّى عن كل أمل في أن أفهمها يوماً.
إن يكن من جدوى للكتابة، فيجب أن يكون: لتأدية شهادة. أن تسجّل ذكرياتك، أن تضع في هدوء، بدون أن يبدو ذلك عليك، عنقود بيوضها التي سوف تختمر. لا لتشرح شيئاً، لأنه لا شيء ربما ليُشرح؛ ولكن لتعرض في شكل مواز. إن الكاتب هو صانع أمثال. عالمه لا يولد من وهم الحقيقة، ولكن من حقيقة التخيّل. هكذا يتقدّم، أعمى بأبهة، في طريقة غير منتظمة، بانخداع، بأكاذيب، بمحاباة جدّ دقيقة. وما يُبدعه لم يُبدع للأبد. يجب أن يحظى بفرح الاشياء البائدة وألمها. يجب أن يحظى بطاقة اللاكمال. ويجب أن يكون طيباً سماعه. طيباً ومؤثراً كمغامرة متخيلة. وإن يضع معالم، فليست بمعالم الحياة الانسانية. إنه، كمعادلة جبرية، يحوّل العالم الى رموز على صلة بنظام ما مترابط. والمسألة التي يطرحها هي دائماً ثابتة. الكتابة هي الشكل الكامل للزمان. كانت هناك بداية، ستكون نهاية. كانت هناك دلالة، سيكون مدلول. إنها مهزلة لغة، طفلية، دقيقة، سريعة التأثّر. إنها عالم مستخلص، رسم ناجز، ارادة عنيدة، تقدّم أبدي لأعداد كبيرة من العلامات الصغيرة السرية تنضم وتتكاثر على الصفحة البيضاء. ماذا هناك؟ ما الذي رُسم؟ هل هو أنا؟ هل استعطتُ أخيراً أن أُدخل العالم في نسق؟ هل استطعتُ أن ألزمه مربعاً صغيراً واحداً من المادة البيضاء؟ لا، لا، يجب ألا نخدع في هذا الشأن: أنا لم أقم الاّ بسرد أساطير عن البشر.
إن الاشكال التي تأخذها الكتابة، والانماط التي تتبنّاها ليست مهمة كثيراً. أمر واحد يهمني هو: فعل الكتابة. إن بنيات الانماط ضعيفة. تنفجر بسهولة. على أن القراء والنقاد تغرهم هذه الانماط: إنهم لا يريدون أن يحكموا على أفراد، بل على أعمال. على أعمال! هل لذلك وجود؟
طبعاً توجد الانماط الادبية، ولكن لا أهمية لها. إنها ليست سوى ذرائع. فليس إن أردنا أن نكتب رواية نبدع عملاً فنياً. وليس إن يدع أحدهم كتابه “قصائد” يكن شاعراً. وإنما في ممارسة الكتابة، الكتابة من أجل الذات ومن أجل الآخرين، بدون أي غرض آخر سوى أن يكون ذاته، يبلغ المرء أعتاب الفن.
أكثر فأكثر حالياً، نتجه الى تعبير واحد في الفن، كأنه بعض اقتراب من الشعور الانساني. الحبكة السردية تغامر بنفسها في العلم، والعلم يسترجع الاساطير. قبل كل تمييز شكلي، إن المغامرة أن نكون نحيا ما نبغي التعبير عنه.
لكن مسألة “النمط” هي ايضاً أهم مما يبدو، لأنه بالنسبة الى كثيرين، توجد سنوبية نمطية، كسنوبية أزياء الثياب. نعلن أننا نحب الرواية (وفي الرواية نفضّل “نمطاً” واحداً هو البوليسي، الخ)، أو أننا لا نتأثر الا بالشعر. فاذا حملت قصيدة ما على غلافها كلمة “قصة” او “حكاية”، فلن تلقى الترحيب نفسه لدى المطلعين. او في الاخص، إن اصدر ناقد حكماً قاطعاً على كتاب، مؤكداً أنه لا يملك مقومات “رواية جيدة”(…)
ما يجب أن تفعله لتكتشف سر الكتابة، هو الكتابة حتى أقصى طاقتك. وأن تفكر، وتحدد هذا التفكير بعلامات، بلا توقف، حتى تستسلم للنوم، أو يُغمى عليك، او تموت. إنها التجربة الوحيدة المقنعة. بعد ذلك، ليس لك سوى الصمت.
ما يهم، أكيداً، ليس أن يكون لك مذهب. ماذا تفيد المذاهب؟ هنا، كل له مذهبه. يصوغه وهو يشيخ، بشكل طبيعي؛ إنه درعه، قوقعته. إنه ليس تفهماً للعالم، بل طريقة في الدفاع عن الذات وعدم الفهم. إن لكل من الهمجي، والانسان الاجتماعي، والشاعر، والطبيب، والمومس، مذهبه. طبعاً: هم بالغون، ولهم تجاربهم، وقد بنوا تاريخهم. لقد أوقفوا مسيرهم نحو الآخرين ونحو العالم، وتبنّوا أحاسيسهم. ليس ذلك بالامر البعيد الأثر، ليس ضرورة داخلية. إنه في الاكثر من أجل الغلبة لا الاقناع. إنه ما نسميه صنعة، المال، العائلة، الاخلاق. إنه ليس سوى طريقة للحصول على لقب، على اسم شخصي، على عنوان، على مهنة، على وصف.
لا حاجة الى مواجهة مجرى الحياة بكامله. المجموعات لا تقول شيئاً؛ ما يهم هو التفصيل. إن ثانية واحدة في حياة ما، لكنها جدّ غنية بالماضي والمستقبل، تقول ما يكفي عن الكينونة.
وإن مبتغاي أن أجد في كل انسان، نبضاً، حركة دقيقة ومرنة، تهبه الى الزمن، الى العالم. إذذاك أتحد به، وأصغي اليه، وأراقبه وأزوره. لذا، لا أريد أن أشغل نفسي بأفكاره. البنية التي أبحث عنها، هي التعبير عن حقيقته. إن هيكلاً عظمياً ليس كافياً. كل له لحنه، نغمه الموسيقي اللذان لا نسمعهما لكننا نستطيع التعرف اليهما. وكي أحاول إدراكهما، أمنحهما آلتي الموسيقية. الفلسفة لا تهمني، إن لم تكن صلاة الى حد ما.
أن تكتب لترسم الخريطة، لتؤسس. أن تكتب لتضع البيان الطوبوغرافي لهذه القطعة من العالم، لهذه المدينة، لهذا الحي، لهذا الشارع، لزاوية هذه الغرفة الشمالية، لطرف هذه النافذة، لهذه البلاطة من الارضية. كل ما هو هناك، هو هناك. كل شيء له أهميته. يجب ألاّ يُهمل شيء، أو يمر في صمت. ثمة مجموعة من المخططات، المتراكبة، الشفافة، تمثل الحيّز الارضي نفسه. الزوايا جاهزة، الخطوط مرسومة. الحدود واضحة، والسطوح المطوقة على هذا النحو، ملأى بالتخطيطات والتصالبات. والمراقد. والطبقات. والنظام موطّد، بمعزل عن كل شيء، مستقل عن كل الحوادث الآتية. هذا النظام كأنه لا يتغير. البناء صُمّم مسبقاً منذ زمن طويل، وكل العناصر كانت معروفة. هنا، النظام هو الذي يقطع مجرى الزمان. عبر الطريق الاخرى، يعرض العمل المنجَز، قدره الآزف، فلا جدوى من الصراع. في مخطط الواقع كما في مخطط العمل، ما حدث يتعذّر محوه. لم نسر بشيء الى غايته، ولم يحوّل شيء عن مساره. أكثر من حركة موجهة، هي هذه الحال غير القابلة للتحسن، الثابتة، بلا عيب. إنه هذا المستوى الخالص والعاري، هذه الصحراء، هذه المدينة، وهذه الحقول المرئية من الطائرة. هذه هي الحال. هذا ما حدث. في الحاضر قد امتد الماضي والمستقبل، ولكن بدون تقديم ممسك. لأن حقيقة العمل، أن يكون مفككاً على هذا النحو، شائكاً، عنيفاً، وفي الوقت عينه متحداً، دائرياً، وجدّ هادئ.
إنه تراسل فوضوي، هندسة، رعب، حب: عمل جبار، مغفل مثل كل الاشياء الاخرى. إنه عمل فني، ثورة بلا نهاية.
كل شيء كان مميزاً، وايضاً متلاحماً بغرابة. كل شيء كان له مكانه الثابت، مكانه المقدّر. مكان، عطية اللغة التي أبدعته. إنه النظام الداخلي الذي أصبح فجأة خارجياً، الفكر، نعم الفكر، هناك، منتشراً في العالم، وقد أظهر علاماته. إنه لغز، يا لغز أناي الذي اتخذ وجه الحقيقة؛ أناي التي هي كل شيء، وفي كل مكان! يا شعوري الذي اصبح مادة، شعوري المتحقّق فجأة، هكذا، خارج طاقتي، بدون أن أفهمه حقاً، بدون أن أبدّل شيئاً، وأحل شيئاً، والذي دعاني لأكون ذاتي كلياً، بلا قيد، بلا حد جسدي، مخلوقاً هائلا انقذ من خالقه!
تلك الانوار كانت تشتعل في قلب اللمبات الكهربائية، تلك القضبان من النيون الوردي والازرق كانت تشع بقوة، بشراسة في الجو المعتم. والارض كانت ترتعش، والحرارة كانت ترتعش، والنور والاصوات كانت ترتعش. والانسان كان في وسطها، كان ممتزجاً بالكواكب الثابتة. من بعد، بدون ان يستطيع معرفة كيف ولماذا حدث ذلك، توصل الى حالة الهدوء – العنيف، الثري المجرد، الجمال الذي لا يوصف. وما كان في ذاته، كان ايضاً في خارجها، وما كان حوله، كان ايضا في ذاته.
ان تكتب لتعبر، لقد شوّه الفن غالبا الفنانون. هي ذي ربما الظاهرة الانسانية الاقل تفرداً، الاقل حرية: الفن هو التعبير عن كل ما لدى المجتمع من فكر عام، من اسطورة، من ارتكاس جماعي. انه “موضة” بكل معنى الكلمة. من يظن انه نجح في التخلص من هذه الروح الشاملة، انما يخون قدر الفن الحقيقي. فبانتزاع التعبير من المجموعة اللغوية، متصورا نوعا من الفن – السوبر، الفائق الطبيعة، انما يبحث عن حل يكون بديلا للميتافيزيقية. فمن يصنع الفن، من يكتب، عليه الا ينسى ابدا انه يدعّم الجماعة. ان فرديته ليست سوى صيغة جماعية. عليه ان يعرف ان تعبيره، كما اللغة، هو “دائما”، مهما فعل، بقصد التوافق وليس التمرد. وان كل ما يفكر فيه او يقوله، يُلزم الجماعة كلياً، جماعته. كل علاقة الانسان بالانسان هي لغة، وهذه اللغة ليست منغلقة ولا سكونية، انها حركة بحث عن المعرفة، تقارب. ان يكن حقا ان هدف اللغة الاسمى هو اللا – لغة، الصمت، فهذا الهدف غير قابل للتجسّم: لا يمكن بلوغه الا بتدمير اللغة، اي الانسان بالذات. بقول آخر، اللغة حركة تنزع الى الغاء ذاتها. والفن، باعتباره صيغة متأزمة للغة، انما يسعى في الاخير الى تدمير الفن.
انه تدمير لا عن اخفاق، بل تدمير قد واجهه فقط نجاح كامل للاتصال. كل فن لا يتجاوز بالضرورة رسالته، اي موته، هو عقيم. ولكن ثمة فرق جوهري بين ذلك “الفائق الوصف” الذي يتوق اليه العمل الفني، وذلك التعظيم المنفرد والمتعذر تحقيقه للانسان الذي لا يشاء ان يعبر الا لذاته. وحده الوضع الاول من هذين الوضعين، هو وضع “مفتوح” انه يتيح لغير القابل الايصال حتى، الامل في الاتصال.
الفنان يخطىء في توخّي التوحد، فالمتعة التي ينالها من الابهام هي متعة خطرة ووهمية. يمكنها ان تؤدي الى اللاتعبير، اي الى الموت. الفنان ليس نصف اله، ولا نبيا. انه ليس حتى قسريا انسانا نابغا. انه انفعالي. هذا كل ما في الامر. لا يبتكر شيئا، لا يخلق شيئا. لا نبوغ لديه. انه يعرف ان يقوم بتوليفات. انه منظّم جيد.
لا يطلب اليوم من الفنان ان يكون صانعاً ماهرا. الاختصاصات جاءتنا من زمن كانت فيه معطيات التعبير جد متفاوتة لدى الافراد، كان ثمة من هو حاذق بيديه، من يتكلم جيدا، من يملك صوتا صالحا للغناء، ساقين صالحتين للرقص. لكن الجماعة الحالية لا تشعر ابدا بالحاجة الى الكمال التعبيري، انها منفتحة على كل الاشكال. كلٌّ في الحقيقة، ذو روح، وكلٌّ لديه ما يقوله. ان مفهوم النمط لا يزال موجودا على سبيل العادة، لكن حقيقة الفن، اليوم، هي في الحساسية وليس في التقنية. ما عاد الفن ممكنا بعد، الا بالاحساس. ما يجري البحث عنه، ليس بيانا دقيقا عن العالم، بقدر ما هو تمثل انفعالي يتيح التوافق على مستوى خارج مستوى الواقع.
هل في ذلك من خطأ؟ هل هذا الانزلاق من نطاق المعيش الى نطاق الانفعالي قد حرف الفن عن مساره نحو الشعور؟ او بالحري، هل هي بداية طريق جديدة نحو الشعور الانساني عمدا، المدرج تقريباً في مغامرته المعرضة للخطأ وبدون حقيقة لازمنية؟
ربما الحركة نحو الجمال، ليست سوى نوع من السلوك المهم للألهام. جمال الاشياء التي يجب ان نتعلم ان نراها كما هي، مجردة من غوامضها، ومن اسرارها المقدسة حيث يسيطر كل ما هو متساو لا غير مكترث بالتساوي، بل قدير بالتساوي، وشرس بالتساوي، وفخم بالتساوي، حيث يسيطر كل ما هو آت.
أي أدب يستطيع أن يحررنا من التخطيط، من الكادرات؟ هنا يمكننا تصور كل شيء. تسجيل المحادثات مغنطيسياً مثلا، او بالحري الروايات التي كتبتها مدن بأسرها، ونشر كل اوراق درج، او بناية، او بلد. لماذا الكتب؟ في وسع الاسطوانات ان تتولى ذلك. أحلم احيانا بأدب لا ينتهي ابدا، بأدب يأخذ مجلسه في مكاتب البريد، ويكتب في بطء قصة العالم، وبرقياته، ورسائله المضمونة، والمطبوعات والرزم البريدية والعينات، والبيانات والفواتير والرسائل العاجلة، والرسائل الهاتفية. احلم برواية تتشكل على هذا النحو، بدون أن نعلم، بدون أن يستطيع احد ان يعرفها بالكامل فعلا، حيث كل واحد يكون المؤلف، والشخصيات، والقارىء معا. احلم ايضا بذلك الادب الشامل، واكثر ايضا، بذلك الفن الشامل الذي ينجح في تغطية كل نشاطات الحياة كاملة، حيث العالم يصبح اخيراً تعبيره الذاتي، مغفلا، كاملاً، وانسانيا بشكل فائق ورائع.
لكنني اخشى ان يكون ذلك ليس سوى تلاش في الفائق الوصف، وفي الجمعي، تلاش هو المثل الاعلى للفن. ثم اصحو بسرعة من حلمي، بسرعة، بسرعة زائدة. فقد استولى عليّ الانسان، وألبسني ثانية جلدي البشري الذي يتألم، الذي ليس هو الآخرين. الذي هو في حاجة الى ان يتكلم ويشوّر كي ينتبه له الآخرون ويحاولوا أن يفهموه ¶
من كتاب L’EXTASE MATÉRIELLE, NRF.
لو كليزيو
(ترجمة: هنري فريد صعب)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى