صفحات مختارة

احتجاب السياسة

السيد ولد أباه
حذر الفيلسوف الألماني “يورجن هابرماس” في مقالة مهمة بصحيفة “نيويورك تايمز”(29 أكتوبر الماضي) من تنامي ثلاث ظواهر خطيرة متداخلة في المشهد السياسي الأوروبي هي: الخوف العنصري من المهاجرين، والداروينية الاجتماعية، وصعود الوجوه غير السياسية الكارزمائية في الحقل السياسي. مقال “هابرماس” يعد ردة فعل على تصريح “ميركل” الذي ذهبت فيه إلى أن خيار التعددية الثقافية في بلادها قد فشل، في ما يشكل موقفا سلبياً تجاه حركية الهجرة، وتعبيراً عن الشعور بإخفاق مشهد اندماج الجاليات (المسلمة) في النسيج القومي الألماني نتيجة لتشبثها بخصوصياتها الثقافية.
وإذا كان الموقف المناوئ للهجرة والمهاجرين مألوفاً لدى التيارات اليمينية المتطرفة التي تنامى تأثيرها في أوروبا الغربية والشمالية في السنوات الأخيرة، إلا أن الجديد الملاحظ هو تبني التشكيلات السياسية الكبرى المعتدلة الشعارات والمفاهيم العنصرية المناهضة للأجنبي والمخالف في الدين، كما هو شأن الحزب “الديمقراطي المسيحي” الألماني والحزب الديجولي الفرنسي.
ففي فرنسا شكل ساركوزي وزارة مكلفة بالهوية الوطنية والهجرة، وأصدر قانوناً يسمح بسحب الجنسية الفرنسية من المواطنين من أصول أجنبية في حالات جنائية محددة، في ما اعتبره بعض السياسيين الفرنسيين رجوعاً إلى “التشريعات العنصرية في العهد النازي”.
صحيح أن الخطاب القومي المتطرف الجديد يستخدم سردية خطابية مغايرة للأيديولوجيا العنصرية التقليدية، فيركز على العامل الثقافي بدلًا من المفاهيم البيولوجية والعرقية للهوية. إلا أن هذه المقاربة الثقافية التي يراد منها الالتفاف على إشكالات التعددية الثقافية التي أصبحت واقعاً موضوعياً في المجتمعات الأوروبية تفضي إلى النتيجة ذاتها، التي هي تسييج الهوية القومية وإغلاقها في دائرة انتماء ضيقة وجامدة، محصنة دون اختراق الآخر الوافد. فالأنموذج الثقافي الذي بلوره فكر الأنوار الأوروبي لتحديد الهوية في أفق التجدد التاريخي ومن منظور الكونية الإنسانية يتحول عبر هذا الالتباس الدلالي إلى معيار إقصاء وانغلاق. يلتقي في هذا التصور التيار اليميني المحافظ المستند للخلفية التاريخية – الثقافية للحضارة الغربية (التقليد اليهودي – المسيحي) والتيار اليساري المحافظ الحارس لقيم التنوير التقليدية في مقابل الثقافات الوافدة ذات الخلفيات الدينية.
بالرجوع إلى مقالة “هابرماس”، يتبين خطورة ارتباط هذه النزعة القومية المتطرفة بما دعاه بالداروينية الاجتماعية التي تستند لما سماه “إيديولوجيا تحسين النوع”، أي استخدام التقنيات الجينية الجديدة في التأثير على الإرث البيولوجي الإنساني، بما له من سيئ الأثر على فكرة الإنسان الحر الذي يصنع شخصيته ويتحكم في مصيره.وإذا كان هذا المشهد في بعده الأقصى لا يزال مجرد احتمال في طور المحاولة والتجريب (الاستنساخ البشري)، إلا أنه في بعض تجلياته أصبح واقعاً قائماً (كظاهرة الوشم السياسي المستخدم في تقنيات الرقابة الشاملة على المهاجرين والمقيمين). أما ظاهرة اقتحام الوجوه غير السياسية للمشهد السياسي التي أشار إليها “هابرماس” مقدماً مثال القس الألماني “جواشيم جوك” الذي كاد يصل للسلطة في الانتخابات الأخيرة، فتندرج في السياق ذاته، أي احتجاب الحقل السياسي أو “نهاية السياسة” حسب اصطلاحات البعض.
فإذا كانت السياسة بمفهومها الكلي الشمولي قد استوعبت الحقل الاجتماعي بكامله منذ نبذ الدين من الشأن العام في المجتمعات الغربية، فإن ما حدث في السنوات الأخيرة هو عجز السياسة المتزايد عن الاحتفاظ بدورها الوريث للدين كمجال للتعبير عن القيم الجماعية المشتركة.
يتجلى هذا العجز في مستويين بارزين، يتعلق أحدهما بهوية الأفراد، ويتعلق ثانيهما بطبيعة إدارة وتسيير الشأن العمومي. فبخصوص المستوى الأول، نلاحظ أن دائرة المواطنة لم تعد هي دائرة الانتماء الفردي المحورية، بل إنما نشهده هو تنامي وتيرة الهويات المتعددة التي تتحدد وفق خيارات التميز والاستقلالية عن الهوية المشتركة المتفرعة عن رابطة الولاء للدولة. ينعكس هذا المشهد في تفكك مؤسسات الانتماء الكبرى كالأسرة والحزب والنقابة …وبروز أنماط من “القبائل الجديدة” حسب عبارة عالم الاجتماع الفرنسي”ميشال مافزيولي” تتحدد حسب مقاييس أنماط العيش المشترك وليس الهويات العضوية الجماعية.
إنها هويات ثقافية واجتماعية تنشد التميز وترفض الاندماج في النسق الكلي القائم للدولة القومية التي شكلت منذ عصور الحداثة إطار التعبير عن ذاتية الفرد بصفته مواطناً حراً يعبر عن إرادته المستقلة بالمشاركة في العقد الاجتماعي.
أما المستوى الثاني، فيبدو بارزاً في عجز المؤسسات السياسية القائمة عن التعبير عن الحركية الاجتماعية. فالديمقراطيات العريقة تعاني من إحجام المواطن عن السياسة وعزوفه عن الأحزاب وضعف إقباله على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. وليست الوجوه الجديدة القادمة من حقول غير سياسية كالإعلام والأعمال والدين والرياضة…التي اقتحمت الحقل السياسي إلا مظهراً من مظاهر هذه الأزمة العميقة.
وكما يلاحظ “بيار روزنفالون”، فإن انسحاب السياسة يتزامن مع إعادة تشكل نشاط المواطنة الذي انتقل من صناديق الاقتراع إلى حركات الاحتجاج المحدودة. وينتج عن هذا التحول المرور من” ديمقراطية الثقة” القائمة على الانتخاب، إلى “ديمقراطية العصيان” القائمة على فاعلية المجتمع المدني وليس الأحزاب السياسية. ويقتضي هذا التحول إعادة النظر في معايير وآليات التمثيل الشعبي التي أبدعها العقل السياسي في بدايات التجربة الديمقراطية.
هذه الأزمة السياسية العميقة هي التي تفسر صعود نموذج الزعيم الشعبوي الكارزمائي الذي اختفى من الحقل السياسي منذ قيام الديمقراطية التعددية في الغرب التي استبدلته بالحاكم الذي يمارس سلطته بتفويض مؤقت من الإرادة المجتمعية.
لا يستند الزعيم الشعبوي لقوة حزبية مكينة ولا أيديولوجيا سياسية، وإنما يخاطب الجمهور بلغة المشاعر والتعبئة العاطفية، ومن ثم طغيان موضوعات الهوية والخصوصية الحضارية ونقاء المواطنة… في الخطاب السياسي.
في كتابه الذي صدر هذه الأيام بعنوان “روح الحاشية”، يبين رئيس وزراء فرنسا السابق “دومنيك دفلبان” أن الفعل السياسي تحول في أيامنا إلى نمط من الإغواء والإغراء بدل الإقناع والبرهنة، كما أن شكل التنظيم السياسي انتقل من نموذج الحزب إلى الحاشية المتواطئة المتزلفة. ومن ثم جاز القول بانسحاب السياسة واحتجابها.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى