ثقافـة المقاومـة
حسام عيتاني
تحمل الدعوة الى «نشر ثقافة المقاومة» في طياتها فكرة توسيع رأس المال الرمزي الذي يحمله دعاة المقاومة وتوسيع نطاقه من حقل المقاومة الى الحقلين الثقافي والاجتماعي اللبنانيين.
غير ان المقاومة هي، تعريفا، موقف يقوم على تقسيم المواطنين فئات مؤيدة ومعارضة ولامبالية وما شاكل. هذا في الزمن الذي تكون البلاد فيه تحت الاحتلال، أما في الأزمنة الأخرى، فالمسألة اشد تعقيدا. بكلمات أخرى، يتعين تعميم وجهة نظر فئة تنزع الصفة السياسية عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي وترده الى «قوانين» حتمية غيبية ساعية الى جعل موقفها من الصراع عنصرا مكونا في الثقافة الوطنية.
حتى اللحظة، ما من شيء كثير يمكن الاعتراض عليه. لكن تمعناً في المقاومة ذاتها وفي المضمون المقترح لثقافتها المطروحة للتعميم والنشر، يفرض الانخراط في نقاش عميق ودقيق حول المسألة.
من جهة اولى، لم تنجح المقاومة في لبنان في توسيع قاعدتها الطائفية. وهي، لأسباب باتت معروفة، تشكل مصدر قلق مشروع عند الطوائف الاخرى، بغض النظر عن الضمانات، ما صمد منها وما لم يصمد امام اختبار الازمات الداخلية. وعندما يقال ان المطلوب هو تعميم ثقافة المقاومة، فالترجمة الفورية عند اللبنانيين تشير الى ان الهدف هو نشر نظام الرموز والقيم وعلاقات الولاء والانتماء السائدة داخل جمهور المقاومة المعروفة سلفا هويته الطائفية، الى خارجه. من جهة ثانية، ينبغي النظر بدقة ليس الى مثقفي المقاومة فقط، بل ايضا الى انتاجهم الثقافي وقابلتيه للتعميم في بلد ما زال يفخر باحتفاظه بحيوية ثقافية ملحوظة على الرغم من كل النوازل التي ألمت به.
والحال، ان مثقفي المقاومة ظهروا الى الوجود في سياق اجتماعي ـ سياسي فرض عليهم اهمالا واضحا للممارسة الثقافية بمعناها الواسع، أي تلك القدرة على اثارة الجدال بشأن المسلّمات، التي يحملها المجتمع والتي يتبناها المثقف.
وليس سرا ان مثقفي المقاومة يبدون حماة لقيم ثابتة وساكنة، بل على عداء مقيم مع الجدال والسجال والنقد. هم سدنة هيكل ومدافعون عن سياسات احزاب وطوائف على نحو يجعلهم في حالة صدام مكشوف ليس مع المثقفين الآخرين ولا مع «المؤسسة» الثقافية في لبنان، بل مع الثقافة ذاتها بصفتها الحيز الذي تجري فيه عمليات التبادل والتدقيق والتقييم في المنتجات الرمزية التي تُفرز في الاطار الاجتماعي اللبناني. وهذا توصيف لا يحمل حكم قيمة او رغبة في الادانة.
أما بالنسبة الى الانتاج الثقافي المقاوم، فهو يعد اكثر تواضعا من منتجيه. واذا اجريت مقارنة، في سبيل التوضيح، بين الثقافة التي افرزتها الثورة الفلسطينية او قوى اليسار اللبناني في السبعينيات والثمانينيات، بل حتى بين عدد من المؤلفات التي وضعها مُنظّرو اليمين اللبناني وكتابه منذ قيام دولة لبنان الكبير حتى اليوم، وما تنتجه المقاومة اليوم، لبدا ان مثقفي المقاومة مقصرون للغاية في اداء واجباتهم. وفيما تحضر اسماء كبيرة ملأت سماء الثقافة في لبنان وفلسطين والعالم العربي، وقد اعلنت في حينه انتماءها الى هذا الفضاء السياسي او ذاك، لا يكاد تحضر في لائحة مثقفي المقاومة الحاليين سوى اسماء لا تعني الكثير.
ومن دون الاسترسال في توسيع المقارنة، يجوز القول ان من يريد تعميم ثقافة، عليه في المقام الاول ان ينتجها وان يجعلها تليق بحمل هذا الاسم.
هل من ظلم في الكلام هذا، خصوصا ان المقاومة تقدم نفسها على انها مشروع لم يكتمل بعد وانها تخوض صراعات قاسية على العديد من الجبهات وتريد حجز مكانها على الجبهة الثقافية.
يصح الزعم ان المسألة لا تتعلق بتراكم ناقص او برؤية الى العالم محكومة بضرورات صراع سياسي وعسكري يستنزف القدرات الابداعية عند من يطرحون انفسهم كمثقفين معنيين بالمقاومة. بل ان المسألة تبلغ حدود استعصاء بنيوي ـ اذا جاز التعبير ـ يحول دون الجمع بين الالتزام بعقيدة المقاومة الحالية القائمة على التأويل الديني للظواهر الاجتماعية منها والسياسية، وبين الالتزام بمحفزات الابداع الثقافي المرتكز على الحــرية بأكــثر اشكالها تفلتا من الضوابط والموانع الفكرية.
ربما تكون العقيدة الغيبية التي تحملها المقاومة قد نجحت في بناء آلة حربية وأخرى ايديولوجية تلقينية، لكن الوعي الديني سيقف بالمرصاد امام أي تقدم للثقافة بمعناها الابداعي الحر، نحو احتلالها موقعا في صياغة وعي بديل نقدي.
ومن دون ان يرغب المرء في إقامة تناقض صريح بين الثقافة والمقاومة، يجوز التأمل في ضيق «الحقل» (بالمعنى الذي اشتقه بيار بورديو) الذي تتحرك المقاومة فيه، للحكم على قدراتها على انتاج ثقافة، مقاومة او غير مقاومة.
السفير