مرة أخرى عن ابن تيمية
مع كتاب عائض القرني الجديد “على ساحل ابن تيمية”
لا جديد في كتاب القرني عن ابن تيمية , فقط المزيد من محاولة رفع هذا الإنسان فوق التاريخ و فوق النقد بل و ربطه بالحقيقة المطلقة..من المؤكد أن الدوغما , أي دوغما , صالحة من حيث تقريرها حقيقة مطلقة ما في النهاية أن تكون أساسا لسلطة مطلقة , في تاريخنا مارس المعتزلة القمع ضد خصومهم مثلهم مثل غيرهم , و يستخدم الرجل الأبيض اليوم في تشريع هيمنته على شعوب العالم قضايا مثل “تحرير” و “تمدين” المتخلفين عن طريق استعبادهم و تحويلهم إلى مجرد خدم , و أنتجت التيارات “العلمانية” الفكرية و السياسية ديكتاتوريات لا تقل فظاعة عن الأصوليات الدينية , لكن هناك على الطرف الآخر دوغما لا تصلح إلا كأساس لديكتاتورية صريحة , مباشرة وعنيدة فقط لا غير..هذا هو ابن تيمية باختصار..فابن تيمية من أنجب تلاميذ مدرسة ابن حنبل التي حكمت أن كل النقاش و الجدال الذي دار عن المقدس , خاصة في الأصول , كان “مختلقا” أو غير لازم في أفضل أحواله..يقول ابن حنبل و من بعده ابن تيمية أن الرسول قد فصل كل المسائل التي يحتاجها المؤمنون تفصيلا كاملا لا حاجة معه لإعمال الفكر أو “الرأي” في تلك المسائل , و قرر مرجعية النص المقدس النهائية التي تستبعد العقل البشري نهائيا , بعد إضافة الحديث النبوي إلى القرآن للحاجة إلى إضافة أصول جديدة غير موجودة في النص القرآني , و ذلك وفق تفسير و شرح “السلف” أي الصحابة و التابعين في مصادرة وقائية لأية محاولة أو رغبة مستقبلية في التدخل في فهم النص خارج المعنى الوحيد المطلوب , هذه المرجعية “المنزهة” و المطلقة الصحة في مواجهة “الأهواء” أي الآراء العقلانية نتاج النظر العقلي البحت..يستدرجنا ابن تيمية دوما إلى إحدى نهايتين : “و هذا هو المعروف عن الصحابة و التابعين لهم بإحسان , و أئمة الأمة , و جماهيرها” , أو “و هذا من أعظم الكفر و الإلحاد و الكفر برب العباد” و “هذه المقالات هي محادة لله و رسوله , و معاداة له و صد عن سبيله…”..أي بكلمات أخرى أن ابن تيمية يريد أن يقول أن إعمال العقل في أي شيء كبير أو صغير في الكون أو الشرع ليس فقط غير ضروري و غير مطلوب بل إنه “بدعة” مرفوضة و تستحق التكفير في الكثير من الأحيان..لكن هذا التشنيع على أي دور أو ممارسة عقلية إنسانية “مباشرة” يترافق أيضا مع خلق صورة خاصة للمقدس ولله لا تقبل أي وجود و لو هامشي للإنسان , مثل هذه الوحدانية الوجودية المزعومة تنتج بالضرورة وحدانية فكرية و سياسية لا تقبل القسمة على اثنين..ابن تيمية هنا لا ينقل بشكل “محايد” و لا ينصر ما يسميه بإسلام السلف أو العجائز فقط , بل إنه يمارس عملية اختيار انتقائية تدعم التجسيم و التشبيه إلى حد كبير في قضية صفات الله مثلا , فقد أثبت مثلا الاستواء على العرش و صفات كالسمع و البصر و اليدين بشكل تجسيمي مادي تقريبا , و حدوث الحوادث في الذات الإلهية , الأمر الذي أنكره المعتزلة و الفلاسفة بشدة استنادا إلى موقف “ينزه” الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات , هذا التجسيم و هذا الموقف من صفات الله و حكمة الوجود و الخلق الإنساني ( المرتبطة بالإله – العبادة أو تحقيق العبودية المطلقة , و ليس بالإنسان – الأصلح للإنسان عند المعتزلة مثلا ) يرسم صورة خاصة عن الإله أقرب إلى يهوه الإله اليهودي , إله يغضب و يكره خصومه ويعد لهم أسوأ العذاب الذي يفوق الوصف من شدته لكنه عذاب استحقوه “عن جدارة” , أما هؤلاء الخصوم فهم كل من لا يقر بعبوديته له إقرارا لا تردد فيه و يلتزم دون تردد بكل أوامره و نواهيه التزاما لا يقبل القسمة على اثنين , أي صوروا الإله على أنه طاغية كوني لا يعرف الرحمة و لا يسامح كل من يتجرأ على معارضته , إله يختلف بشكل جذري عن الصورة التي حاول المعتزلة رسمها له : خير محض لا ينتج إلا الخير ( سلطة المستبد المحب للخير ) , و مختلف بشكل أكبر عن صورة الإله الذي توصل إليها الفلاسفة المشاؤون : العقل المحض ( سلطة المستبد المستنير ) , هاتان الصورتان رفضهما ابن تيمية و مدرسته بشكل قاطع على أنها تشويه بل و افتراء على الله , و بالتأكيد على النقيض تماما من الصورة التي رسمها عنه المتصوفة , الذين ساووا بين الخالق و المخلوق ( لا حاكم و لا محكوم ) فاستحقوا أشد تكفير و وعيد من ابن تيمية ( أو كما قال عبد الله القصيمي “إنهم يتصورون الله قيصرا أو زعيما ضالا , ينشرح صدره للنفاق و قصائد الامتداح” “أيها العقل من رآك”) , ديكتاتور يسره تملق أتباعه بل و يفرض هذا التملق على أنه أفضل العبادات و أكثرها ضرورية للعبد و يغضب أشد الغضب لأي معارضة و يعاقب عليها بأقسى عقاب , إله سيورث المؤسسة الدينية التي تمثله على الأرض إلى جانب السلطة السياسية التي تستمد شرعيتها منه سلطة مطلقة أوتوقراطية غير قابلة للنقاش , سلطة سيحذر منها المفكر السعودي عبد الله القصيمي “هذه الجماعات المنسوبة إلى الدين , الناطقة باسمه , لو أنها استطاعت الوثوب على الحكم…لحكم البشر عهد من الإرهاب يتضاءل إزاءه كل إرهاب يستنكره العالم اليوم…و لن تجد أقسى قلبا و لا أفتك يدا من إنسان يثب على عنقك ومالك , يقتلك و يسلبك, معتقدا أنه يتقرب إلى الله بذلك..و ينفذ أوامره و شرائعه” , تماما كما كانت نبوءة باكونين خصم ماركس من أن سلطة أتباع ماركس ستكون أسوأ ديكتاتورية شهدها العالم حتى اليوم لكن باسم البروليتاريا..نقطة أخيرة هامة للغاية هي موقف ابن تيمية من السلطة السياسية كمركز للجماعة الإسلامية , عندما يكرر موقف ابن حنبل من الإمام الجائر , رافضا الخروج عليه معتبرا هذا الخروج يؤدي إلى الفساد لا إلى الإصلاح , هنا سيلاحظ عبد الله القصيمي “إن أسوأ ما في المتدينين أنهم يتسامحون مع الفاسدين و لا يتسامحون مع المفكرين”…
مازن كم الماز