عن كتب الشيخ البوطي
مازن كم الماز
القضية هنا إلى حد كبير تصفية بعض الحسابات مع فترة الشباب الأول , بالتحديد عندما كنت طالبا في جامعة دمشق , و كنت أتردد كعادة الكثير من طلابها على المكاتب المنتشرة حولها و في الحلبوني , و كانت الكراسات الصغيرة من تأليف الشيخ البوطي هي طريق الكثير منا للتعرف على الفكر الإسلامي , تماما كما كانت كتب دار التقدم الموسكوفية الحمراء المعروضة في مكتبة ميسلون هي طريق جيلنا الأساسي للتعرف على الماركسية و الفكر اليساري عموما..منذ أن حاولت أن أفكر بشكل مستقل عن المرجعيات الصارمة لتلك الثقافات التي نشأت عليها و أنا أشعر بحاجة لتصفية الحساب مع تلك المرجعيات, سواء كتب دار التقدم أم كراسات الشيخ البوطي , خاصة مع قيام دار الفكر أخيرا بإعادة طبع بعض تلك الكراسات….
كتاب “الإنسان , مسير أم مخير ؟”
هنا يقوم الشيخ البوطي بإعادة سرد الموقف الأشعري و الماتريدي المتفرع عنه من قضية القضاء و القدر , الذي جاء على النقيض من الموقف المعتزلي القائل بالقدر أي بخلق الإنسان لأفعاله الذي انشق عنه الأشعري و عاداه , القضية هنا كما في كل المحاججات التالية للمعتزلة و المناهضة لهم هي في كيفية صياغة الموقف الجبري من قضية القضاء و القدر في شكل يبرر واقع أن الإنسان عرضة للحساب و المساءلة الذي لا معنى له دون وجود مسؤولية ما لهذا الإنسان عن أعماله , هنا من المنطقي , ما دام الشيخ البوطي يتبنى الموقف الأشعري , أن يستخدم الشيخ موضوعة الكسب الأشعرية لإثبات هذه المسؤولية “القانونية” أمام محكمة الله..و سيحرص الشيخ البوطي أيضا على ذكر أن الأشعري و تلميذه الماتريدي ليسا إلا معبرين عن مدرسة أهل السنة و الجماعة , الذين انتقد كثير منهم بقايا الآثار المعتزلية في التصور الأشعري عن صفات الله و غيرها..و سيستخدم البوطي , كالخطاب الإسلامي السائد , أطروحة الحكمة الإلهية لتبرير الشر أو القبح في العالم و التخلص من نسبته إلى الله , الذي قاد للقول بثنوية النور – الظلمة مثلا أي ألوهية الخير و الشر على نفس الدرجة , وهي حكمة غامضة فوق إنسانية بقدر ما هي المعاناة الإنسانية الفعلية فوق إنسانية , فوق الطاقة الإنسانية , و بقدر ما تفتقر إلى أية حكمة أو عشوائية , لكنها بالنسبة لأصحابها حكمة مبررة تماما مادامت منسوبة للسماء , هذه في الحقيقة الطريقة الوحيدة أصلا لاعتبارها حكمة و ليست إرادة مريضة أو مهووسة بالعقاب و العذاب مثلا , و هي ذات الحكمة التي تحدث عنها القديس أغسطينوس عندما سأله سائل عن الحكمة الإلهية في موت طفل صغير..هذه الحكمة ستستخدم ليس فقط لتبرير الشر في العالم و بالتالي تجميل الشر و الواقع السيئ , بل أيضا لتبرير تلك المسؤولية الجماعية للبشر عن أفعال البعض منهم , التي يستخدمها النص لتبرير حالات العقاب الجماعي الإلهية ضد البشر عند ارتكاب بعضهم للمعاصي في إطار تعريف تلك الحكمة , هذه الأطروحة التي تستخدم لتشريع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كوسيلة لإجبار الناس على ممارسة النفاق تجاه المقدس و اعتباره “مشتركا” مفروضا بالإكراه على الجميع , و معالجة الكوارث الطبيعية بممارسة أقرب لمطاردة الساحرات…
كتاب “كبرى اليقينيات الكونية”
القضية المحورية هنا هي إثبات وجود الله , يحاول هنا الشيخ البوطي أن ينهي القضية ببساطة شديدة بإثبات فرضية تعود لأرسطو عندما قسم الوجود بين ممكن الوجود – الكون المخلوق , و واجب الوجود – الله الخالق , لكنه يفعل ذلك بطريقة معقدة نسبيا و ضعيفة الإقناع , لكن هذه الفكرة في أي حال ليست مركزية في الجدال حول وجود الإله خاصة بعد داروين و ماركس و نيتشه , بل كانت محاولة لتجاوز الإشكاليات العقلية في صورة الإله كما تخيله الفلاسفة اليونانيين و من ثم الفلاسفة العرب..هذه الفكرة و غيرها مما سيأتي نجدها معروضة بشكل أفضل في كتابي تهافت الفلاسفة للغزالي و تهافت التهافت لابن رشد..كما كانت قضية القضاء و القدر قضية لاهوتية إلى حد كبير , تهدف لتقديم تفسير لوجود الألم و القبح و الشر في العالم , فإن التصور الذي توصل إليه الفلاسفة كان يهدف لخلق صورة أكثر عقلانية عن الإله , رغم اعتراف الفلاسفة أنفسهم باستحالة تكوين صورة كهذه خالية من التناقضات , الشيء الذي استخدمه الأشاعرة و من بعدهم الغزالي في نقض فكر خصومهم و إن دون نجاح كبير , رغم أن هذا النجاح كانت تعوضه قرارات السلطة السياسية السائدة بالانتصار للأشاعرة ثم لأنصار التعليم النصي خصوم الفلسفة..فعندما قرر الفلاسفة أولوية وجود الله و تمايزه المتفوق عن المخلوقات , أي عن المادة , كان عليهم بالتالي أن يحرصوا بشدة على أن يمثل هذا الله روحا محضة , لا مادة فيها أو بالأحرى ليس لها أية صفات مادية , جسمانية أو تحمل صفات الأجسام المادية , لذلك رفضوا أن يكون هذا الروح المحض – الله – محلا للتغير , و أصروا على أن يبقى ثابتا , على عكس المادة دائمة التغير , و أن يكون وعيه , مختلف تماما عن وعينا نحن الكائنات “مزدوجة التركيب , المادي – الروحاني” , و كانت كل التصورات التالية بالتالي مجرد محاولة لحل تلك الإشكاليات الهائلة , غير القابلة للحل في حقيقة الأمر , في صورة العالم الذي يوجد الإله – العقل أو الروح المجرد في مركزه..لذلك مثلا قال الفلاسفة بقدم العالم , فقد كانت قضية خلق العالم مشكلة كبرى بالنسبة لتصورهم المثالي هذا , فما هو السبب الذي أدى إلى أن ينتظر الله فترة لا متناهية من الزمان ليقوم بخلق العالم , السؤال الذي لا إجابة له , و هل من الممكن أصلا مضي فترة غير متناهية من الزمن قبل أن نصل إلى لحظة خلق العالم أو المادة , و هل بقي الله نفسه قبل و بعد هذا الحدث , أي هل رافق هذا الخلق تغيرا فعليا في ذات الله , الشيء الذي نفوه تماما , و كان هنا قولهم بقدم العالم رغم أنهم أصروا على أنه نتاج خلق الله له , كان الغزالي هنا على حق عندما استنتج ما رفضه الفلاسفة بإصرارهم على الحاجة إلى الله – العقل المجرد كمصدر لخلق الكون , فإذا كان الكون قديم فهو غير حادث و بالتالي فلم يكن بحاجة أن يخلقه أي إله , أي عندما اتهمهم بالدهرية أي المادية أو القول بقدم المادة ( من الممتع هنا أن نذكر أن ابن تيمية قد قال بقدم العالم أو قدم النوع عند بعض المدافعين عنه )..و وجد الفلاسفة أنفسهم في محاولتهم تلك مضطرين لإيجاد حل لقضية الكثرة اللا نهائية في العالم المادي و كيفية قيام الله بخلق كل هذه الكثرة و كيفية وعيه بهذه الكثرة مع بقائه عقل محض و مطلق أي منيع على التغير و التعدد , فإذا كان الكون , أو المادة عديدة بل و غير متناهية , فكيف قام الله – العقل أو الروح المحض – بخلقها أو كيف يعيها جميعا , و لما كان العقل المجرد يجب أن يتميز تماما عن المادة الأقل شأنا , اضطرهم هذا إلى القول أن الله ليس إلا “المحرك الأول” و لأنه واحد فقد صدر عنه كيان واحد هو “العقل الفعال” الذي سينتج عنه محركات أكثر تتزايد ليصل عددها إلى عدد لا متناه تتولى تحريك العالم المادي..كما أن هذا العقل المحض لا يدرك الأشياء المادية كما نفعل نحن البشر ذوي الطبيعة المزدوجة المادية – الروحية , أي أنه لا يدرك المادة بعد أن تؤثر في حواسه , و لأن وجوده سابق على وجود المادة , على عكسنا نحن البشر مثلا , فإنه يدركها من ذاته , لا خارج ذاته كعملية الوعي البشري , كما أن هذا الوعي يجب ألا يعني أنه يتغير فالعقل أو الروح المطلق ثابت لا يتغير على الإطلاق..و لذلك كانت قضية وعي الله مشكلة بالنسبة للفلاسفة فكان أرسطو يقول أنه لا يعقل إلا ذاته فيم كان ابن سينا يقول , على الأغلب للتخفيف من صدمة الفكرة الأرسطية على العامة و على رجال الدين , أنه يعلم الكليات فقط و لا يعلم الجزئيات..هنا لا يجد الشيخ البوطي نفسه مضطرا لتجاوز لحظة الخلاف الفلسفي الأشعري في تاريخنا , يبدو أن إثبات وجود الله بالنسبة إليه يقتصر على استعادة الحجج الأشعرية التي ساقها الغزالي في مواجهة الفلسفة يومها , دون حاجة مثلا للوقوف عند الثورة الكوبرنيكية ( نسبة لكوبرنيكوس ) أو عند شك ديكارت أو وحدة الوجود عند سبينوزا أو إنكار فولتير للعناية الإلهية بعد زلزال لشبونة المدمر 1755 أو أنسنة فيورباخ لله بقوله أن الله هو الإنسان أو الإنسان هو الله و أخيرا نيتشه و ماركس و فرويد و داروين , ما عدا بعض “الملاحظات القاطعة اللهجة” التي تقوم أساسا على نسبية العلم و الفكر الإنسانيين…..