صفحات سورية

الوطنية في سوريا والسياسة الثقافويّة / الإعلانيّة

null

نايف سلّوم

لم يكن كفاح المثقفين والمبدعين السوريين السياسي أمراً جديداً ؛ أي لم يكن سمة تطبع الفترة التي تجدد فيها شخص الرئاسة في سوريا اعتباراً من عام 2000 . بل طبعت هذه السمة مرحلة طويلة من تاريخ سوريا وباقي البلدان العربية ؛ امتدت من سبيعينيات القرن العشرين وحتى اليوم، سواء على مستوى ازدهار المسرح

السياسي (سعد الله ونوس ، فواز الساجر ) أو ازدهار الرواية التوثيقية السياسية وأدب السجون (هاني الراهب، عبد الرحمن منيف، الخ..) أو ازدهار الشعر السياسي الفصيح والعامي (مظفر النواب ، محمود درويش، أحمد فؤاد نجم ، شعر نزار قباني السياسي ، الخ..) لكن اشتغال المثقفين والمبدعين السوريين والعرب في الحقل السياسي، ما هو إلا نضال سياسي غير مباشر بحكم احتكار السياسة من قبل الحزب الحاكم وسيطرته المطلقة على الدولة والمجتمع فعلياً وحقوقياً وبقوة الدستور. وإذا ما أشرك أحزاباً أخرى معه كيّفها وألحقها بسياساته!

لقد كان كفاح المثقفين السياسي المباشر وغير المباشر يحمل مفارقة مفادها أن رهانه الاجتماعي/الطبقي كان هو هو رهان الحزب الحاكم ؛ أي الطبقة العاملة والفلاحين والبورجوازية الصغيرة المفقرة في المدينة والريف . وكانت الشعارات السياسية موضع الرهان هي هي لكلا الطرفين: تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، ومكافحة الإمبريالية والصهيونية ومشاريعهما العدوانية في المنطقة والعالم ، وتبني الشعار الاشتراكي العقائدي، الخ.. وباعتبار أن الطبقات موضع الرهان كانت تسحب من تحت أقدام المثقفين اليساريين المكافحين بحكم إخضاعها المتواصل لعملية تكييف شديدة تبعدها عن السياسة عبر“تأهيل سياسي” نازع للسياسة ومولِّد للامبالاة والسلبية في الحياة العامة (السلبية الوطنية) ، وعبر حشرها في منظمات متنوعة من شعبية وغير شعبية ؛ كل ذلك كان يدفع بالمثقفين المكافحين في حقل الإبداع الفكري نحو اليأس من رهانهم الاجتماعي/ الطبقي، وبالتالي يدفع بهم نحو تحوّل في الرهان الاجتماعي/ الطبقي سوف يزيد من بعدهم ومن عزلتهم الاجتماعية/الطبقية، وبالتالي يقلب المسألة لديهم بطريقة درامية بحيث بات على الفن والإبداع والفكر اليساري الشعبي الأصيل أن يهجر مواقعه الطبقية “الطبيعية” وأن يستبدلها بسياسة ثقافويّة / ليبرالية غامضة تلفيقية واهمة؛ سياسة ثقافويّة حولت رهانها الاجتماعي/الطبقي من الطبقات الشعبية إلى البورجوازية “الليبرالية” الرثة بكل ألوانها وأطيافها (إسلاموية، عائلية- إقطاعية ، الخ.. ) البائدة والغابرة. هذا التحول في الخيار الاجتماعي/الطبقي جعل الانحدار بالسياسة نحو السياسة الثقافويّة ، وإرجاع ما هو سياسي إلى ما هو ثقافي أمراً من تحصيل الحاصل. وبدل أن تأمر الطبقة ومصالحها المثقفين و تبدد أوهامهم، يتوهم المثقف السوري البورجوازي الصغير- الذي حول رهانه- أن قلمه ومقالاته سوف تخلق الطبقة البورجوازية كما ينبت العشب بين مفاصل الصخر. وهذا القلب للأمور في ذهن المثقف “الجديد” أمر يمكن تفسيره على أرضية طريفة، وهي أنه من دون هذا القلب للأمور سوف يفقد المثقف “الجديد”عقله .

هذا التحليل الأولي يفسر تحول المثقفين من حقل اليسار والرهان الشعبي الأصيل إلى الحقل “الليبرالي” الواهم ، وقد قاد هذا الوهم البعض من المثقفين إلى الحقل الأميركي ورهاناته وألغامه! وذلك لحل المسألة “الديمقراطية” في سوريا . لقد كانت هذه مأساة مضاعفة، لأن الانحدار نحو “الخيار الأميركي” الإمبريالي تم تبزيغه من الوهم الأول الذي خرجت فيه الطبقة البورجوازية “القياسية” الصافية من رأس “المثقف الجديد” كما خرجت حواء كقرن ليّن من رأس آدم ؛ كفكرة من بنات أفكاره تجسدت أنوثة ورغبة حسية عمياء!

الآن، كيف لنا أن نعرض للمسألة الوطنية في سوريا في هذه المعمعة، و عبر غبار العراك الإعلاني / الثقافويّ هذا ؟ لا شك سوف تخرج المسألة الوطنية من ملعب المعارضة، ومن رهاناتها في التعبئة الجماهيرية ! لسبب بسيط؛ وهو أن الوطنية الحقّة هي خيار الطبقات الشعبيةالأصيلة من عمال وفلاحين وبورجوازيين صغار، فمشاريع هؤلاء الاقتصادية على صغرها لا يحملها سوى الوطن، وهي غير قابلة للبيع في الخارج؛ أي ليست معدة للتصدير . هذه الطبقات كانت كما رأينا قد خرجت من رهان المثقفين/ السياسويين أو المثقفين النقابيين الجدد الذين لم يعودوا يعملون لصالح أية طبقة إلا مصلحتهم الخاصة كمثقفين ولصالح “الطبقة البورجوازية” التي سوف يخلقونها ما أن تسنح لهم الفرصة لتسلم السلطة السياسية وقيادة السفينة السورية إلى برّ الأمان التاريخي!

لقد بات الكفاح من أجل الحصول على موقع أو الحصول على حصة في السلطة المتخيلة المقبلة هو الهاجس الذي يؤرق المثقف “النقابويّ”. وباعتبار أن الطبقة البورجوازية القياسية متخيلة وافتراضية ، فقد أضحت إعلانات المثقف ومقالاته النارية هي البديل التاريخي لما هو قائم بالفعل؛ لقد بات إعلانه استبدالية ساذجة ، وباتت “الديمقراطية” التي يبشر و ينادي بها مختزلة إلى حجم صندوق اقتراع! حيث نجاحه في أية انتخابات مقبلة أمر مضمون سلفاً كونه مثقف وطبقة وبديل تاريخي في ذات الوقت؛ بديل تاريخي وشعبي للاستبداد السياسي والديني وبديل للشعبويّة المبتذلة. لذا فهو مشمئز من “الديمقراطية الاجتماعية” ومن البرامج الشعبية اليسارية ومن الوطنية الاستبدادية، ومن المقاومة الوطنية الدينية والاستبدادية، الخ.. بالتالي باتت هذه “الديمقراطية ” غريبة عن كل وطنية بما فيها وطنية المواطن والمواطنة التي ترفعها المعارضة السياسويّة كشعار . وباتت مبشرة بحداثة الإمبريالية و”بإيجابيات العولمة” ، و “بالليبرالية كمفهوم فلسفي وفكري وثقافي له علاقته التاريخية بنشأة الحرية والديمقراطية”، وعلاقته لاحقاً وراهناً ، بالنزعة الإمبريالية العسكرية الإنسانية! ومتفائلة بالتدخل الإمبريالي الإنساني حامل المشروع الديمقراطي المُسلّح بالغزو والعنف والاحتلال!!

في هذا السياق أودّ إظهار قصور تحليل “معقل زهور عدي” للوطنية حين يتساءل في مقالة له بعنوان: “المعارضة السورية والمسألة الوطنية” : “هل هناك مسألة وطنية تتمثل باحتلال للجولان أم لا؟

أقول: إن اختزال الوطنية بالجغرافيا السياسية وغير السياسية أمر قاصر و مؤسف. لأن الوطنية في ذاتها مسألة المواطن؛ المتساوي في الحقوق والواجبات؛ وقبل هذا فهي مسألة هيمنة الطبقة أو تحالف طبقات التي تستطيع تحقيق هذه المساواة في الحقوق والواجبات. أي أن هذه المواطنة ليست شعاراً فحسب، وليست حكم قيمة نرفعه كرغبة مثقفين، ولا هي مطلب قائم أبد الدهر وعلى مر العصور، بل هي أمر ظهر تاريخياً مع صعود مشروع البورجوازية الأوربية 1500-1850 وقد ترافق انحطاط مفهوم المواطنة مع انحطاط هذه الطبقة البورجوازية كطبقة عالمية خاصة في أطراف النظام الرأسمالي بأشكاله المختلفة الاستبدادية والليبرالية الرثة. لم تعد البورجوازية بانتشارها العالمي كعلاقات إنتاج رأسمالية، وكملكية خاصة قادرة على تحقيق مبدأ المواطنة؛ أي مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وفي التوزيع العادل للثروة القومية، الخ.. بالتالي تحولت في المراكز الرأسمالية إلى إمبريالية غازية وظالمة ومعتدية على الشعوب المستضعفة والمتخلفة ، وتحولت سلطتها في أطراف النظام الرأسمالي إلى سلطة جزئية أو سلطة تشبه سلطة الميليشيا لا تشمل كامل أراضي الوطن البورجوازي. بالتالي فقدت البورجوازية قدرتها على تجسيد السيادة القومية، ومعها فقدت سمتها الوطنية ؛ في المركز الأميركي تحولت إلى إمبراطورية من جديد بعد أن دمرت الإمبراطوريات في العصر الوسيط ، وفي باقي البلدان الرأسمالية تآكلت السيادة الوطنية . وأنا لا أذرف الدموع هنا على الحدود القطرية صناعة الاستعمار، بل أوصّف ما فقدته البورجوازية كمشروع هيمنة وسلطة سياسية، وما ورثته الطبقة العاملة كمشروع سياسي ديمقراطي حق في تحولها الممكن إلى الطبقة القومية الحقّة والوطنية الحقة، كما ظهرت تاريخياً في الصين والفيتنام وغيرها من الدول التي قاد تحديثها وهيمنت عليه الطبقة العاملة ومشروعها الاجتماعي/السياسي. من هنا يمر مشروع المواطنة والوطنية الحقّة عبر نمو مشروع الطبقة العاملة السياسي كطبقة قومية ووطنية بامتياز. هذا المشروع الذي سوف يجعل من الرابط بين الديمقراطية (ديمقراطية اجتماعية وحريات سياسية ) من جهة وبين القومية والوطنية رابطاً عميقاً وحقيقياً . ويجعل إمكانية تحرير الأجزاء المحتلة من الوطن إمكانية قائمة وحقيقية . ويدفع ازدهار الشعب وإبداعاته إلى الأمام، ويقوى الحس الأُمميّ والتضامن الإنساني العميق .


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى