صفحات سورية

الأزمة الاقتصادية العاصفة: محاولة رصد أولية

null


نهلة الشهال

هذه الأزمة شاملة، بنيوية، لا تخص القطاع المالي ولكنها تمتد إلى الاقتصاد العالمي. أزمة السيولة تتحول إلى أزمة ملاءة. وكما هو واضح فالوسائل التقنية المستخدمة حتى الآن أبانت عن محدودية فعاليتها (…) إن حل الأزمة ليس تقنياً إذاً بل سياسي».

«السوق والإيديولوجية التوتاليتارية المخترعة لقيادة القرن الحادي والعشرين، شيطنا الدولة وكل ما هو قطاع عام بوضعهما سيادة السوق في موضع السيطرة على كل ما عداه. لم يعد ممكنا الدفاع عن صحة هذا الخيار اليوم».

«إنها ديكتاتورية السوق الكلية، وهي النسخة المنحطة من الليبرالية. إن المعركة ضد هيمنة الأسواق يجب أن تبدأ».

«نحن في عالم يسير بالمقلوب، حيث ثمن الكماليات ارخص من الأساسيات»…

قائل هذا الكلام ليس سوزان جورج الاقتصادية اليسارية وأحد قادة تيار مناهضة العولمة الليبرالية، بل هو جوليو تريمونتي المنظّر الاقتصادي للسياسي الايطالي السوبر ليبرالي سيلفيو بيرلوسكوني، ووزير المالية في حكوماته لعدة سنوات، معتبراً موقفه هذا نوعا من الاعتراف بالذنب، مقارناً الأزمة الحالية بأزمة 1929. وهو ما بات يكرره العديد من الاقتصاديين والمسؤولين في العالم.

«ينبغي رمي المبادئ، وإن لزم الأمر دعوة الدولة للتدخل وإنقاذ البنوك بواسطة الأموال العامة»، و»ليس بمقدور القطاع المالي حل مشاكله بنفسه»…، يقول جوزيف أكرمان رئيس الدويتش بنك، بينما يدعو صندوق النقد الدولي في توصيات أصدرها مؤخراً إلى تدخل كثيف من الحكومات لتلافي «انهيار الاقتصاد العالمي». وتتناقل وسائل الإعلام أنباء ما تسميه جواً من الذعر ينتاب وول ستريت بسبب انهيار بنك الأعمال بير ستيرن، خامس بنوك الأعمال في الولايات المتحدة، وشرائه مقابل مبلغ ضئيل أو ما يشبه «قرشا رمزيا» من قبل بنك ج ب مورغان، على ما يقول دانيال كوهين، أستاذ الاقتصاد الفرنسي، الليبرالي هو الآخر، الذي يصف العمل بـ «مشلول يقود أعمى»، و»أن أحداً لم يكن يتصور أن الوضع خطير إلى هذا الحد»، مضيفا أن ذلك «يوضح أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي – فيد- لا يملك الأدوات الملائمة للمواجهة». وكان الـ»فيد» أسلف بنك مورغان ثلاثين مليار دولار ليُتم العملية، وقام أيضا بتعهد ضمان أصول المضاربة الخطرة للبنك المفلس. ولكنه «مثلما فعل في 1929، يلجأ إلى أدوات غير بنكية»، برأي الخبير الفرنسي. والـ»فيد» عاد فخفض ثلاثة أرباع النقطة معدل مؤشره الأساسي، ويتوقع أن يلجأ إلى خفض جديد في الشهر المقبل. ويبلغ إجمالي ما قام به الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من خفض، ثلاث نقاط خلال ستة أشهر، يفترض أنها وسيلة لوقف ما بات يسمى خطر الارتداد الارتكاسي، أي تسلسل متلاحق في انهيار المؤسسات المالية والبنوك.

قبل ذلك، كان بنك بير ستيرن المفلس يأمل بـ»تعاون» مع بنك «سيتيك» الصيني الوثيق الصلة بحكومة بلاده، ولكن هذا الأخير تخلى عن مخططاته تلك مما فجر أزمة بنك الأعمال الأميركي. وهدد مصير مشابه بنك ليمان، رابع بنوك الأعمال في الولايات المتحدة، الذي تمكن في نهاية المطاف من إعلان ما يقرب من نصف مليار دولار أرباح للفصل الأول من السنة، وهو أقل بكثير من مستواه العادي، ولكنه يبقيه ضمن المؤشر الايجابي… في الوقت الراهن! وقد بدأت تُتداول تصريحات عن فساد تلك البنوك، وعن احتمال لجوء زبائنها إلى القضاء، والوصول إلى الزج بمديريها في السجون! كما بات يُتداول أن صناديق آسيا والشرق الأوسط هي وحدها من بيده الاستثمار وضخ التوظيفات المالية في البنوك الأميركية المأزومة… وهو ما سبق لبنوك وصناديق مالية ومستثمرين من الخليج العربي وسنغافورة والصين أن قاموا به في الأشهر الأخيرة. وقد بلغ إجمالي ما وُظف على هذا النحو أكثر من ستين مليار دولار، فقدت 40 في المئة من قيمتها في أسابيع قليلة، مما يجعل من إحجام البنك الصيني حالة مرشحة للتكرار… كما هي مرشحة للتكرار انهيارات في بنوك أخرى، رغم نفاد بنك ليمان بجلده هذه المرة، وثمة من يتناول أوضاع سيتي غروب الاميركي وميريل لنش.

اترك جانبا معلومة أن سيتي غروب ذاك كان قد صرف تباعاً 17 ألف موظف في نيسان (ابريل) الفائت وأكثر من أربعة آلاف جدد هذا الشهر، وأن عدد موظفي بنك بيرستيرن يبلغ 14 ألف إنسان بات مصير معظمهم مهدداً، وان ثمانين ألف شخص فقدوا أعمالهم في الولايات المتحدة خلال كانون الأول (ديسمبر) وشباط (فبراير) الماضيين، وأن مدن صفيح تتكاثر في لوس انجليس نتيجة عجز أعداد كبيرة ممن اشتروا بيوتاً بالدين العالي الفائدة عن سداد ليس أصل الدين، بل الفائدة نفسها، مما يجعلهم يتوقفون عن الدفع، وقد طردت في السنوات الثلاث الماضية 800 ألف عائلة من مساكنها، وهناك مليونا عائلة جديدة مهددة اليوم بصورة مباشرة. «الاقتصاد الأميركي يسير بالمقلوب»، على ما يقول دانيال كوهين، مقدماً مثال تلك العائلات التي تكتشف أن الرهونات التي أقدمت عليها، وبالتالي ديونها، تتجاوز أثمان عقاراتها، وأنها لن تتمكن من سداد قيمتها وتحقيق أي ربح بإعادة بيعها بعد سنوات قليلة.

إلا أن جميع الخبراء الاقتصاديين يتفقون على أن الأزمة ليست عابرة، وإن كانت قد بدأت بالـ»سب برايم»، تلك التسليفات العقارية العالية الخطورة، وإنها ليست سوى رأس الكتلة الجليدية الظاهر. ويضيف أستاذ الاقتصاد الفرنسي أن النظام الاقتصادي القائم لا يمكنه «إنقاذ نفسه بنفسه»، متسائلاً عن تلك «المفارقة التي تجعلنا نعيش اليوم أزمة مالية بينما الاقتصاد الحقيقي للعالم بصحة جيدة»… الاقتصاد الحقيقي! عاد التعبير إلى التداول، وعاد اقتصاديون ليبراليون كانوا ينظّرون في السنوات الماضية، بل حتى أشهر خلت، لمفهوم غامض هو «عصر ما بعد الرأسمالية» – شيء مثل جنس الملائكة لا يمكن تحديده، أو لعلهم يقصدون أن عالم تشارلز ديكينز لم يعد قائماً – قد عادوا إلى التشديد على ضرورة حماية الاقتصاد «الحقيقي» من عالم الاقتصاد «الافتراضي» الذي يضارب ليس برأس المال المالي فحسب، بل بالقيمة الوهمية، أي بما لا وجود له.

«الأمر خطير جداً جداً – التكرار من أصل النص- للعالم كله»، يختتم دانيال كوهين في مقابلة جديدة مع صحيفة فرنسية. ويؤكد خبراء آخرون أن الأزمة لن تبقى محصورة في الولايات المتحدة، فها وضع المؤسسات المالية الأوروبية قد بدأ بالاهتزاز، وبخاصة في بريطانيا، التي تفاخرت بازدهار «السيتي»، ولكنها بدأت تسجل الانتكاسات، ليس فحسب بفعل ما عرف بأزمة الهدج فوند – الاستثمارات العالية الخطورة – وإنما داخل بنوكها نفسها، والجميع يذكر كيف أقدمت الحكومة البريطانية، الشهر الفائت، على «تأميم» بنك نورثرن روك بعد الذعر الذي أصاب مودعيه. أما البلدان الأكثر فقراً فستدفع ثمناً باهظاً، إن لم يكن لسبب فلأن الأزمة المالية الراهنة (وانهيار قيمة الدولار على هذا النحو) ستدفع البلدان الغنية إلى تقليص أو إلغاء كل أنواع التقديمات، بما فيها المعونات الغذائية، وهي حياتية في العديد منها.

يقول بيتر كنن أستاذ الاقتصاد في جامعة برنستون: «يا للصدمة! (…) هل يمكن للـ»فيد» أن يكرر فعلته؟ نحن نعيش وضعاً استثنائياً حيث الدولة وحدها من يمكنه إنقاذ القطاع الخاص، ولكن لم يعد أحد يملك أي رؤيا، لأن الخسائر الفعلية مكتومة». أما ديفيد روزنبرغ، كبير اقتصاديي ميريل لينش، فيتكلم عن «الانتقال من درء الأزمة إلى إدارتها».

وحده الرئيس الأميركي يخطب قائلاً: «أظهرنا للعالم أننا نسيطر على الموقف» و»حافظوا على الثقة»!

الحياة – 23/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى