صفحات سوريةياسين الحاج صالح

عناصر رؤية عقلانية لمواجهة إسرائيل

null

ياسين الحاج صالح

هل صحيح أنه لا بديل عن مواجهة مسلحة بلا ضوابط مع العدو غير تنازل له بلا حساب؟ وهل تنحصر خيارات الفلسطينيين مثلا بين حماس والجهاد الإسلامي، وبين رضوخ تام لإسرائيل، ترى المنظمتان أنه يتجسد في سلطة أبي مازن؟ أما من بديل عن مواجهة، إن لم تكن انتحارية فإنها تفضي إلى عسكرة حياتنا العامة وتغذية التسلط السياسي والجمود الثقافي فيها؛ وعن استسلام مهين، يستحيل الإجماع حوله، وقد يفضي إلى تمزق مجتمعاتنا، وربما احترابها الداخلي؟

قد يهمل طرح السؤال بهذه الصورة تاريخ تكون هذا الثنائية المتنافرة المتكاملة، ويحجب أصول افتقارنا لخيار مختلف وغير متناقض ذاتيا. بدايةً، نعتقد أنه ثمة خيار متسق سنحاول رسم ملامحه، قبل محاولة تفسير سبب غيابه.

ثمة ثلاث عناصر متكاملة أو أربعة، تشكل بمجموعها رؤية لخيار مختلف.

أولا: ينبغي تجنب المواجهة مع إسرائيل، أي تقليص فرص الاشتباك العسكري معها إلى أقصى حد، والمسارعة إلى إخماده إن نشب. هذا لأن لدى العدو “ميزة تفاضلية” كبرى في هذا الشأن، يستحسن مقاربتها تاريخيا من أجل فهمها. فإسرائيل مقربة من الكتلة الحضارية المهيمنة في عصرنا، أي الغرب، الذي أوصل صناعة القوة وعلومها وفنونها إلى مستوى لا يضاهى. العرب، لأسباب من كل نوع، يحتلون موقعا متدنيا في سلم القوة عالميا. وهو ما يعني أنهم ينجرون إلى لعبة الأقوياء إن حصروا تفاعلهم مع الواقعة الإسرائيلية في مواجهات مسلحة، سيان أن تكون هذه حروب دول على نحو ما كان الحال حتى عام 1973 أو حروب منظمات ما دون الدولة في العقدين الأخيرين (كانت حرب 1982 مزيجا منهما). فحالنا ونحن نعسكر صراعنا مع إسرائيل كحال من يواجه بطل العالم في الملاكمة في حلبة الملاكمة، بينما كان أنسب لو جرب مواجهته في ملاعب أخرى، نحوز فيها ميزة تفاضلية، أو يكون تفاضل ميزة العدو عن ميزتنا أقرب إلى الحد الأدنى.

ثانيا، ينبغي الامتناع عن تقديم تنازلات أساسية للعدو. هذا لأنه عدو، ولأن من غير المحتمل أن يغدو خصما، دع عنك أن يمسي صديقا، دون تغيير عميق وجوهري في كيانه. وليس الامتناع عن تقديم تنازلات له بالأمر الصعب جدا إن جمعنا بين نزع الصفة العسكرية عن العلاقة معه (فحيّدنا عنصر قوته)، وتحويل مركز السياسة والحياة العامة في بلداننا إلى الصراعات والمنافسات والتجاذبات السياسية والاجتماعية الداخلية (فطورنا عناصر قوتنا). وعلى أية حال ليس المقصود من تجنب تقديم تنازلات للعدو الامتناع عن مسالمته إن تسنت فرصة معقولة لها، بل بالأحرى عدم فرض المسالمة هذه بالقوة على رافضيها والمتحفظين عليها في مجتمعاتنا. والحرص على ضبط أي تفاهمات أو اتفاقات محتملة مع العدو بإجماع وطني واسع، وإلا “بلاها”. هذا معيار أساسي. وإنما بالحرص على تقييد أية تفاهمات محتملة مع العدو بتفاهم داخلي متين نقطع الطريق على احتمال نقل منطق الحرب والمواجهة إلى داخل بلداننا، لكي يكون الداخل هذا مقرا للسياسة والخصومات والمنافسات السياسية، لا للعداوات الحربية والمواجهات المسلحة.

ثالثا، يتعين منح الأولوية العليا للبناء الوطني، التعليم والاقتصاد والصحة والسكن والنقل والبنية التحتية والمعلومات، وبالخصوص حقوق السكان وحرياتهم وحرماتهم. أفضل ألف مرة مسالمة عدو قوي من إذلال مواطنين ضعفاء. أما التذرع بمواجهة العدو للدوس على حقوق السكان فهو باب لجة الهزائم والخراب التي نمعن فيها. إن تطوير البلاد وتحسين عمل المؤسسات ورفع مستوى معيشة عموم السكان مقدم على أي شيء آخر. وهو جوهر أي مفهوم عقلاني للمصلحة الوطنية. هو أيضا خطوة إضافية نحو نقل مركز السياسة إلى الداخل وتطوير ما يمكن أن نسميه نموذج “الدولة الداخلية” التي تبني سياستها واستقرارها حول مجتمعها وتفاعلاته، خلافا لنموذج “الدولة الخارجية” التي تخرس سكانها وتتفانى بحثا عن تعهد أدوار إقليمية باعتراف وتفويض من اللاعبين الإقلميين والدوليين الكبار.

رابعا، ترطيب الأجواء مع الدول العربية ودول الجوار الأخرى إلى أقصى حد، والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية وتجنب سياسة المحاور والاستقطابات. وليس الرهان هنا علاقات عربية “أخوية” بالضرورة، بل بالأحرى عقلنة العلاقات القائمة وتطوير آليات مؤسسية لمعالجة النزاعات المحتملة، بما يفتح الباب لتحسينها من جهة، وبما يسهم في توجيه انتباه الدول أكثر نحو شؤونها الداخلية من جهة أخرى. ولعل هذا يقتضي تحييد العوامل الإيديولوجية في العلاقات بين الدول، سواء تلك التي تتعلق بطبيعة أنظمة الحكم، أو بانحيازاتها الدولية المحتملة، أو باختلاف الصورة المثلي المرغوبة للعلاقات العربية. أي أن ضبط العلاقات العربية لا يشتغل في إطار أية عقيدة قومية، سواء حددت لنفسها هدفا الوحدة أم التضامن. حسبه وقف التقاتل والاستنزاف، ورعاية حسن الجوار قدر الممكن. ونفترض أن من شأن عقلنة نظمنا السياسية بالتحول نحو الدولة الداخلية أن يسهم في عقلنة العلاقات العربية ذاتها. ونرجح أنه بقدر ما تنتظم العلاقات على أسس عقلانية متينة، فإن عناصر القرابة والأخوة ستكون قوة دفع إضافية نحو علاقات أوثق وأمتن.

****

أربعة عناصر، إذن، لرؤية مختلفة وغير متناقضة ذاتيا للتعاطي مع المشكلة الإسرائيلية: تفادي المواجهة المسلحة مع العدو، عدم تقديم تنازلات أساسية له، التحول نحو البناء الداخلي، ونزع عناصر التوتر من العلاقات العربية البينية.

وتبدو لنا هذه الرؤية متسقة ذاتيا. فلا يتناقض أي من عناصرها مع الآخر تناقضا حادا، بل لعلها متبادلة الاستدعاء. فتجنب تقديم تنازلات يتناسب مع تفادي المواجهة أكثر مما مع المواجهة (المواجهات المخفقة بالعكس قد تقود إلى تنازلات مؤلمة، مفروضة أو اضطرارية، وإلى تثبت نموذج الدولة الخارجية)، وبالخصوص إن اقترن بتوسيع الملعب الداخلي والتحول نحو “الدولة الداخلية”. وكذلك يقتضي التحول نحو الداخل نزع العسكرة عن الصراع مع العدو، ويساعد في الوقت نفسه على اجتناب تنازلات مهمة، ويؤسس كما أسلفنا لتحسن العلاقات العربية.

والرؤية هذه واقعية أيضا، بمعنى أنها تنطلق من واقع تدرك عسره وصعوبته، ولا تطرح مطالب تقتضي تغيرات كبرى فورية فيه. ما تطرحه هو الاستناد لهذا الواقع الراهن وصوغ سياسة متماسكة ضمنه. ويقيننا أن هذه السياسة ستقود إلى تعديلات مهمة في معادلاته القائمة شيئا فشيئا. وهذا أجدى من سياسات تضع لنفسها أهدافا كبرى لا تفشل في إنجازها فقط، وإنما تغطي بجلبة شعاراتها انحدارا مستمرا كل يوم إلى ما دون ممكنات اليوم الذي سبقه.

ولعل من علائم اتساق هذه الرؤية (غير متهافتة أو متناقضة ذاتيا) من جهة، وانسجامها من جهة أخرى (أي غير متصادمة مع الواقع)، أنها تتيح لنا فهم السبب في انحصار خياراتنا اليوم بين رضوخ مرفوض بداهة للعدو، وتحدٍ متعذر أو باهظ الكلفة. أساس ذلك هو الفصل بين الوطنية وتفضيلات السكان العيانيين. تنحاز نظم حكمنا والمنظمات المتطلعة إلى حكمنا والمثقفون الراغبين في أن يُضْحوا مرشدين لحكامنا إلى مفهوم للوطنية يُسْكِنها في الدولة والنخب العليا “العاقلة” لا في الجمهور العام “الغافل”. فهي تحيل إلى العلاقة مع “الخارج”، الولايات المتحدة وإسرائيل وأوربا وغيرها، وليس إلى الماء والكهرباء والمدارس والمستوصفات والسكن والمعيشة و..القوانين. ولذلك يمكن لنظام يدوس مواطنيه ويذلهم في معاشهم وحقوقهم أن يكون وطنيا، بينما يعتبر خائنا يستحق الرجم، أو السجن، من يدعو إلى قلب الأولويات هذه.

نزع الوطنية من المواطنين ومنحها لـ”الدولة” يرد السكان إلى مجتمع رعايا هو مجرد ركيزة لقيام “دولة خارجية”، ويرد الدولة ذاتها إلى سلطة تتلهف للحصول على اعتراف القوى العالمية بها ورعايتها لها. أما منح الأولوية لتفضيلات المواطنين النثريين، لا الأوطان الشعرية، فهو يعني أن ما توافق عليه أكثرية وطنية كبيرة هو وطني حتى لو كان مسالمة إسرائيل. وليس من المستبعد أن يكون. كان أكثر المصريين في سبعينات القرن الماضي مؤيدين لمسالمة عدو أظهرت الأيام أنهم لا يحبونه ولا يثقون به. ولم يكن هذا توقيعا على بياض لسياسات السادات كلها، وإن كان هذا الأخير استند إلى جنوح لا شك فيه للمسالمة عند شعبه المجهد من أجل تمرير جملة خيارات متناقضة، ما كان يتضمنها الجنوح السلمي ذاك.

والحال، إن المشترك بين السادات وخصومه “القوميين” في مصر، كما في العالم العربي، هو مفهوم غير ديمقراطي للوطنية، ينزعها من الجمهور “المنثور” ويسكنها في الدولة “المنظومة”. ومثل ذلك ينطبق على كل من عباس وحماس، وعلى سورية البعثية ومعارضين لنظام حكمها يريدون الديمقراطية كي يصطفوا بجذرية أكبر إلى جانب حزب الله وحماس و”المقاومة العراقية”!

أما أصل المطابقة بين الوطنية و”الدولة” فربما يتصل بكون المطابقة هذه تجعل من الولاء للسلطة انتماء للوطن والمعارضة والانشقاق خيانة. أي أنه الخطة الأنسب لحماية سلطة النخب غير المنتخبة وإضعاف مجتمع المحكومين. وما إسرائيل ومواجهة إسرائيل غير أدوات مثل غيرها لإدامة أنماط سلطة امتيازية، وما “الصمود” غير إيديولوجية صمود في الحكم.

قد يسلم متشككون باتساق هذه الرؤية، وربما حتى بواقعيتها. لكن ربما يتساءلون: من يُعنى بذلك؟ من سيطبقها؟ كأنما لا ينقصنا إلا رؤى متسقة ومنسجمة! كفانا تنظيرا!

ليس لهذا الانتقاد أية قيمة. فأولاً، بلى، تنقصنا رؤى متسقة ومنسجمة، وينقصنا بخاصة “التنظير”. ليس لدينا “نظريات” أبدا خلافا لانطباع شائع يوهم بأنه ليس لدينا غيرها. لدينا عقائد بائتة تعمي النظر بدل أن تفتحه. ولدينا تجريب واقعي بأحط معاني الكلمة، منفصل عن أي مطلب للاتساق. ولدينا “المكْلمة” الخالدة التي تقول كلاما بخسا يعوض عن الخلو من المعنى باستعراض حرارة الانتماء أو الإيمان. ولعله لدينا أيضا أفكار وتحليلات قد تكون نبيهة، لكنها مشتتة. وليس لدينا أبدا نظريات بالمعنى القوي للكلمة، تجمع بين وضوح الرؤية ونفاذ التحليل، وتصلح أساسا يمكن أن يبنى عليه اتجاه فكري متكامل.

وثانيا، من قال إنه ما إن توجد الرؤى المناسبة حتى تجد قوى اجتماعية وسياسية متأهبة لتطبيقها؟ التقاء رؤية فكرية بقوة اجتماعية مسألة تاريخية وليست منطقية، وهي احتمال وارد وليست حتمية قاسرة. فلنطور رؤانا وتحليلاتنا و”نظرياتنا” ما دمنا، أعني المثقفين، لا نستطيع اليوم فعل شيء آخر. فإن كانت مقارباتنا تلك مخلصة وجديرة بالحياة فقد تحظى ذات يوم بفرص احتضان وتطوير على يد حركات اجتماعية ناهضة.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى