صفحات سورية

صراع الشرعيات الفلسطينية… داخل هاوية سحيقة

null
نهلة الشهال
لم تعد المسألة الفلسطينية تتعلق بنقاش مدى نجاح أو فشل العملية السلمية مع إسرائيل. أولاً، لأنه بات هناك إجماع على التسليم بانهيار تلك العملية، يبدأ من لدى أكثر الأطراف ارتباطا بها مصيريا، أعني السلطة الفلسطينية. وثانياً، لأن النقاش السياسي اليوم، في فلسطين وحولها، يدور حول فرص الحل السلمي… بين الفصائل الفلسطينية نفسها.
وكلمة «على الماشي» قبل الانتقال إلى لب الموضوع: ثمة إشارات متكررة هذه الأيام، بسبب الروزنامة، لمسار انابوليس، آخر محطات العملية السلمية، وفي الواقع مقبرتها. ذاك بداية لم يكن «مساراً» بل حدث أخرق لم يتبعه شيء، ووافق على حضوره كل من حضره من باب مجاملة الرئيس الأميركي ليس إلا. لذا فهو حين وقع، كان إعلانا رسميا، وإن ضمنياً، عن استنفاد اتفاقيات أوسلو، وكل ملحقاتها، للديناميات الفعلية أو المفترضة التي ارتبطت بها. وخلال العام المنقضي، ازداد الاحتلال الإسرائيلي شراسة وترسيخاً، إذ وقع مئات الفلسطينيين قتلى رصاصه، وتوسعت المستوطنات عدة أضعاف، وتكاثرت الحواجز… وهي خلاصات أعلنتها تقارير صادرة عن مكتب المفاوضات التابع للسلطة الفلسطينية. أما إسرائيل الرسمية، فتعيب على هذه الأخيرة أنها «تعنتت» ورفضت المفاوضة على حلول جزئية ومرحلية (!)، وأصرت على بلورة تصور شامل متكامل، يعني يتطرق لمسألة الحدود والقدس واللاجئين. وهو سجال يجب الاعتداد به كمثال، كلما جرى التفكير بهذه الخاصية السياسية التي باتت طاغية تماما وبفجاجة، وهي أن الكلام، ما يقال، أو رواية الواقع، أهم من الواقع نفسه. وهكذا يبدو أن طغيان «الافتراضي» لا يخص الاقتصاد وحده، بل هو قائم في السياسة أيضا، موفرا بيئة منسجمة لـ«السائد»، إن لم نقل خصائص إيديولوجية له.
أما جوهر الموقف، فهو انزياح الموضوع الفلسطيني إلى الانشغال بما يُنعت أحيانا كخطر انفجار«حرب أهلية» فلسطينية بسبب الصراع المستفحل بين فتح وحماس. وهو صراع راح أيضا، شيئاً فشيئاً، يشبه العملية السلمية مع إسرائيل من حيث أنه يكرر اسطوانة سياسية/كلامية مشروخة، فيما ينهار الواقع إلى درك أسفل. المفاوضات التي تولتها جهات عربية متعددة لا تصل إلى طريق، وآخر محطاتها في القاهرة هذه الأيام تنذر بأن تنتهي كسابقاتها، إذ لا يبدو حل حكومة «الوحدة الوطنية» ميسراً في ظل تمترس كل من الطرفين في خندق «شرعيته». والحق، أن مسألة الشرعية هي المطروحة فعلاً اليوم، ولكن ليس وفق المحاجّة العقيمة التي يسلكها الطرفان، الساعي كل منهما لإثبات أسبقية شرعيته السياسية على الأخر بحجة نتائج انتخابات جرى دوس كل ما يخصها بالأقدام، بل بما يخص تهديد شرعية النضال الفلسطيني نفسه: دفع الناس لليأس التام من الجدوى، والكفر بفلسطين. والناس هنا هم الفلسطينيون أنفسهم أولاً، ثم عموم الدوائر الأخرى من المهتمين.
فعلى مستوى الأطر الرسمية، العربية والدولية، بل وحتى الإسرائيلية نفسها، تمثّل الحالة الفلسطينية القائمة خير مخرج للتخفف من المسؤولية. وعلى مستوى الوعي العام، والحركات التضامنية مع فلسطين، فهما يعانيان من ضبابية الموقف وضياع عناصر الفعل فيه، بحيث لم تعد «فلسطين» تحمل سوى بعدها المبدئي، وهذا ليس كافياً لتوليد تضامن يدرك نفسه كإضافة ثمينة لنصرة النضال الفلسطيني.
إن فقدان مختلف القوى السياسية الفلسطينية لشرعيتها الشعبية على هذا النحو بفعل الانسياق إلى ذلك الصراع، أو بفعل العجز عن بلورة مخارج لمن لم ينسق منهم إليه، ينهار بالمسألة الفلسطينية أكثر فأكثر نحو هاجس توفير شروط البقاء على قيد الحياة للأغلبية الساحقة من الناس، بالمعنى الحرفي البسيط للكلمة، أي بما يتعلق بتوفير مأكلهم ودوائهم وسائر حاجياتهم الأولية التي يهددها الإفقار المتعاظم، وكذلك نذر الحرب الأهلية إياها.
والحق أن تدمير البعد السياسي للقضية الفلسطينية والانحراف بها نحو طغيان البعد الإنساني، أو الأدق الإحساني، ليس وليد اللحظة المأسويـــة الراهنة. فما فعلته المساعدات المالية الأوروبية والعربـــية – وهي الأعظم، إذ لم تتعـــد نسبة المساهمة الأميركية في إجمالي المساعــدات 7 في المئة – هو التمويه على تخلي تلك الأطراف عن التزاماتها السياسية أو عجزها عن دفعها إلى التحقق. وكان ذلك يمثّل بشكل من الأشكال وبغض النظر عن النوايا، تواطؤا مع إسرائيل، وتسليماً باستمرار الاحتلال.
ويعبر نتانياهو مثلاً عن هذا المآل بوضوح يخالف الرياء القائم لدى سواه. فهو صرح مؤخرا لصحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية بأن المهم ليس تحقيق تسوية للنزاع، بل تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين، مقترحا خريطة ملموسة لما بات قائماً أصلاً من بانتوستانات ومعسكرات عمل، سوف تؤدي شرعنتها إلى ازدهارها بحسب رأيه.
إلا أن ثمة عنصرا يضاف إلى اللوحة ها هنا، وهــو مفاعيل الأزمــــة العاصـــفةA حالياً بالاقتصـــاد العالمي. فإن كان «الحل» الذي اتبعتـــه سابقاً الأطراف العربية والدولية لـ«لاحل» القضية الفلسطينية قد تلخص بدفع الفلوس، فهذه مهددة اليوم بالانخفاض إن لم يكن بالتوقف، بكل «شرعية» هي الأخرى، حيث يسهل تبرير الحاجة إلى الالتفات إلى النفس وإنقاذ كل دولة لناسها قبل الإحسان إلى الآخرين… تتوقع كل التحليلات أن تزداد إفريقيا مثلاً بؤساً، مع انهيار شركات عالمية وانسحابها من مشاريع بدأتها هناك، وتوقف برامج المساعدات. ويتهدد فلسطين مصير مشابه، فلا يبقى شيء!
هذا، بينما تمثل قمة العبثية ما يلوح في الأفق من نوايا لدى السيد محمود عباس بالتمديد لنفسه لعام آخر، كمخرج من انتهاء ولايته على فراغ مع مطلع العام القادم، فيما تستميت حماس في استخدام سيطرتها على غزة كورقة رابحة لتوطيد «شرعية» شراكتها في سلطة لم يبق منها سوى الخراب، وهي ممارسة انفصامية بامتياز.
منذ آلت العملية السلمية إلى الانهيار، وتبعتها الأزمة الداخلية الفلسطينية المستبدة بكل الموقف، وهما مترابطان، اقترحتُ تكراراً في كتاباتي أن تبادر السلطة إلى حل نفسها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، واضعة المجتمع الدولي الذي خلق إسرائيل أمام مسؤولياته، ومنهية لعبة التغطية على الاحتلال. واعتقدتُ أن ذلك يعيد- موضوعيا على الأقل – إلى المسألة الفلسطينية بعدها السياسي وإلحاحها. يومها زعل من دعوتي تلك كثيرون، واعتبروها تخلياً! بينما تبلورتْ أصوات فلسطينية علنية توصلت إلى الاستنتاج نفسه. فهل… قبل فوات الأوان تماماً؟
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى