..وماذا عن الاستنجاد بمقولة “الشارع العربي”
توفيق المديني
أثارت الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة غضب وحنق شعوب العالم العربي، وأدت إلى اندلاع مظاهرات شعبية في شوارع المدن العربية من المحيط إلى الخليج، منددة بالمجازر الوحشية الصهيونية، ومطالبة بوقف هذا العدوان الآثم.
وإذا كان العدوان الصهيوني على غزة أدى إلى توحيد موقف الشارع العربي من إسرائيل والأنظمة العربية المتواطئة، فإن السؤال الذي يطرحة المحللون هل يستطيع هذا الشارع العربي أن يشعل شرارة انتفاضة شعبية واسعة في المنطقة قد تغير صورة الوضع العربي الراهن، وتتفاعل كفاحيا مع حركة المقاومة الفلسطينية؟
تعود مقولة “الشارع العربي” في تاريخها إلى نهاية حرب الخليج الثانية، وتجدد استخدامها في الحرب الإسرائيلية على لبنان، وفي الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، من قبل أولئك الذين يتحدون سطوة الغرب، منطلقين مما يمكن أن يساعد على العموم موقفا معاديا للولايات المتحدة الأميركية وقاعدتها الإستراتيجية في المنطقة ممثلة بالكيان الصهيوني. ولما كان العالم العربي يبدو للكثيرين أشد المناطق تأزما وتفجرا في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، إذ يمكن القول بأن العالم العربي شكل ساحة للحروب بين الدول أكثر مما شكلته أية منطقة أخرى من العالم، فقد تنبأ العديدون أن تلعب مقولة “الشارع العربي” دورا مركزيا في مواجهة الأعمال العدوانية الموجهة ضد العرب والمسلمين.
وفي الواقع، نقول اليوم “الشارع العربي” مثلما كنا نقول في السابق “الجماهير الشعبية” و”الشعب العامل” و”الطبقة البروليتارية” و”الثورة الوطنية الديمقراطية”. ولكل مرحلة تاريخية معينة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، والموجات التي استتبعتها من حركات تحرر وطني معادية للاستعمار، وحركات قومية راديكالية علمانية، وأحزاب اشتراكية وحركات مقاومة إسلامية، تبحث كل مقولة من هاته المقولات الآنفة الذكر في تعيين الأطراف الفاعلين الذين يحددون مجرى الأحداث السياسية. ولكل مقولة من هذه المقولات دينامية تؤكد دفعة واحدة خضوع العالم العربي للهيمنة الداخلية ممثلة بالأنظمة السلطوية الموروثة من مرحلة الحرب الباردة، وللهيمنة الخارجية ممثلة بالإمبريالية، وتوفر فرصا لمستقبلات بديلة، أكثر ديمقراطية وسليمة، وبصرف النظر عن مدى تطابق هذه المقولات مع حاجات الواقع وعملية تغييره نحو الأفضل.
وفي ظل العالم العربي الذي دخل القرن الواحد والعشرين وهو محفوف بالمخاطر حقا، إذ أن العلاقة بين العالم العربي والاقتصاد العالمي مازالت علاقة ضعف، وإلى حد كبير علاقة تبعية، ولا زالت سياسة الولايات المتحدة الأميركية منحازة بإطلاقية للكيان الإسرائيلي ومتواطئة مع الأنظمة العربية السلطوية، ولا زالت اللامساواة الصارخة في توزيع الثروة والسلطة والحقوق، وهي لا مساواة تعرف أيضا باسم الإمبريالية قائمة، في ظل هذا الوضع الشارع العربي ليس في المحصلة النهائية، سوى المصيبة الأخيرة، وهو يدق جرس إنذار عن مأزقه.
لأن الانتقال من المفاهيم التي كانت سائدة في مرحلة المد الوطني والقومي المناهض للإمبريالية وإسرائيل: البروليتاريا، والفلاحين الفقراء، والجماهير الشعبية الكادحة، والقوى الاجتماعية المعادية للإمبريالية والصهيونية، إلى مقولة “الشارع العربي”، يعني الانتقال من الدقيق نسبيا إلى المرونة على وجه الخصوص، من العياني إلى الجمهور الضبابي الصامت ليس بسبب شرطه الاجتماعي،- وبدرجة أقل من قبل إيديولوجيته السياسية – وإنما بسبب الغضب الشديد بلا شرط، أي غياب الوعي السياسي المطابق الذي ينشد التغيير الراديكالي.
قد تكون مقولة “الشارع العربي”، مفيدة بالدرجة الأولى، للمثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي المتميزين عن النخب العربية (أكاديميين، مؤرخين، روائيين وصحافيين) المتواطئة مع السلطات، والتي تعيد إنتاج الدوغما الرسمية، بدلا من لعب دور الانتلجنسيا في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية.
واحتلت مقولة “الشارع العربي” موقعا مركزيا في الخطاب السياسي لقوى المعارضة على اختلاف مشاربها الفكرية في العالم العربي، نظرا لأن الشارع العربي من وجهة نظرها يجسد الملاذ الأخير للآمال التي تم هدرها، وهي تعتقد أنه يتمرد وينتفض ضد مضطهديه. إذ إن التاريخ المعاصر للعالم العربي كان ولا يزال مسألة الحرمان من الحقوق لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي انخرطت في نضالات شعوب المنطقة منذ الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي،إذ كانت قوام هذه النضالات مناهضة التدخل الإمبريالي الخارجي بشقيه الأميركي والإسرائيلي، ومقاومة القهر المسلط على الشعوب.