معركة انتهت قبل أن تبدأ
بدر الدين حسن قربي
على وقع تهديدات واتهاماتٍ إسرائيلية حماسية متبادلة خلال أسبوع عقب انتهاء التهدئة، وإيقاعات كمٍّ كبير من التصريحات والتحذيرات والتهديدات والمقترحات والمكر والتدبير، دخلت القوات الإسرائيلية معركتها الباطشة في غزّة، والفلسطينيون في أشد أحوالهم سوءاً وانقساماً واتهاماً وتخويناً، والعرب أعراب وفي حدهم الأدنى عربان: عرب الاعتدال ويسميهم مشاكسوهم عرب التآمر والمؤامرة، يتهمونهم بالتخاذل والتنازل والانبطاح، وعرب المقاومة والممانعة والتحدي ويقول عنهم مخالفوهم عرب التجارة والمتاجرة ويتهمونهم بالكذب والدجل والخرط والتفنيص على ناسهم وشعوبهم، ومابين الأعراب المفترية والمتاجرة تشهد جماهير الأمة أشـد الأيام سواداً وألماً ودماً في معارك يستخدم فيها اللحم الفلسطيني كالعادة وقوداً في معارك المتاجرة والمبازرة، وما رأيناه من القتل والدمار والوحشية في أسبوع معارك غزّة وما يدور فيها وحولها من طرفي العرب هو بعض الصورة وجزء من المشهد، لأن المخفي أعظم لقوم يعقلون.
على أرض غزّة تتجلى حقيقة، يقتل الناس فيها فرادى وجماعات، وتُهدم البيوت منازل وعمارات، ويراق الدم على ثراها شلالات، والناس بين قاتل ومقتول وصادق وكاذب يقدّم التبريرات ويستخدم الدجل والمخادعات.
ولئن سألت: أين عرب الاعتدال وماذا فعلوا..!!؟ أجابوك بمثل ما سألت: أين عرب المقاومة والممانعة وفرسان الصمود والتحدي وفرس المحق والسحق والتدمير والإزالة..!!؟
في الحقيقة، إن حرب غزّة ودماءها وحدت العربين في الموقف والشعارات والمظاهرات والدعاء والإعانات وهو أمر لايحتاج استدعاءات للشواهد والأدلة، ونحترم من خالف وجهتنا وإنما ندعوه للتصحيح، فكلهم حشد التظاهرات، ورفع الشعارات، واستنكر وشجب وعبس وبسر وفكر وقدر، وكلهم أرسل المساعدات والمعونات والإغاثات ودعا إلى اجتماعات ومؤتمرات، وكلهم تكلّم عن الوحشية والقتل والذبح والجرائم، وكلهم ألغى احتفالات رأس السنة الميلادية والهجرية إظهاراً للحزن وتضامناً مع أهل غزّة. ورغم كل المشاهد المشتركة بين الطرفين فإن عرب الممانعة والتحدي بقوا مصرّين على التشكيك بنوايا العرب الآخرين ومتهمين لهم بل ومخوّنين. ولئن سُئِل الصامدون والمقاومون عن فعلةٍ زيادةً عن الآخرين لأحالونا إلى ما لايسمن ولايغني من جوع من نوايا المعتدلين العاطلة والعياذ بالله مما يصعب الحديث فيه عن الطرفين لسبب أو آخر. وإنما العبرة انتهاءً بفعلٍ فعله الممانعون يختلف عن المعتدلين سبقوهم فيه تميزاً وفضلاً وحالهم من بعضه سواء.
إن وجود بعض التميز الذي لم يتعد فعل الشغب والتخريب وحرق الأعلام في مظاهرات الممانعين والمقاومين والتحريض الواضح على حكام بلدان الاعتدال ورؤسائهم وملوكهم وأنظمتهم ومخاطبة جماهيرهم بشعارات وخطابات تثويرية تحريضية واقتحام لسفارة مصر، لايلغي من المشهد رؤية موقف العربين الواحد المعتدل منهم والحربجي التي شكلت في حقيقتها رداً موضوعياً على الكثير ممن حلّل وكتب وفنّد وتحدث وأطنب عن أن الاعتداء الإسرائيلي وضع المعتدلين المتواطئين في معسكر الاعتدال في مأزق حقيقي، لأن الجيمع بدا أمرهم لجماهيرهم واحد، وأن الكل في الهوا سوا، وأنّ من كان في المأزق الحقيقي هو عموم جماهير الناس في المشرق والمغرب ممن كانوا محتاسين بحثاً عن مخرج لأزمة عصية واقعين فيها مع طغاتهم ومستبديهم وظالميهم، ومدينة أبية صامدة، يجول الدمار والخراب في شوارعها والقتل والإبادة على أرصفتها.
جاءني يقول: أنا – والعياذ بالله – كنت مُحتسَباً من غير حول مني ولاقوة من الآبقين على معسكر المقاومة والممانعة الذي يضم حماس وحزب الله وإيران والنظام السوري قائداً وزعيماً. وإنما بعد وضع النقاط على الحروف فوق وتحت، وبعد تصريحاتٍ لفخامته وجلالته وسموه وفضيلته في الليل والنهار سمعت وشاهدت وقرأت، وبعدما عرفت الذي عرفت، واكتشفت ما اكتشفت، من أن هؤلاء هم معسكر المؤامرة وليسوا معسكر الاعتدال غيّرت، وكطائر نورس حلقّت، وإلى معسكر المقاومة والممانعة والسيادة رجعت، وخلف قادته صففت، وأقلامي كسرت وحطّمت، وأوراقي ودفاتري مزّقت، ولكني خجلاً حتى اليوم ماصفقّت، وإلى الله انتهاءً تبت وأنبت، فهل تُراني يا أُخيّ حسـناً فعلت..!!
تذكرت قول من قال: لهم قلوب لايفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لايسمعون بها.
فعقّبت: قبيل المجزرة بأربعة أيام شهد موقف النظام السوري تكويعة مشهودة وبشكل غير متوقع للممانعين وغير مستغرب ومتوقع عند المعتدلين على لسان رئيسه عن ضرورة الانتقال مع إسرائيل إلى المفاوضات المباشرة. أمّا أثناء المجزرة وفي تمام أسبوع من جديد موقف النظام السوري أو قديمه لا فرق، وحماس ومعها غزة تنتظر من حلفائها وقفة مشهودة، فجاء خطاب سماحة السيد حسن نصر الله لساعة من زمان خطاباً تاريخياً لم يقل بمثله من قبل، لايعنينا الحديث عما كان فيه سوى التكويعة التالية والمكمّلة لتكويعة الحليف السوري، بتقريره وتنبيهه على التمسك المسبق بحالة الدفاع الذاتي التام مع كل الحيطة والاحتياط، ومن ثم كانت رسالة واضحة لأولي الألباب وممن يعنيهم الأمر، أنّ لا عملاً عسكرياً مسانداً لحماس وغزة بعد أن بات الموقف احتياطاً وتحوطاً ومحصوراً بالرد على أي مبادرة إسرائيلية بالاعتداء عليه، وأن إيران هي الأخرى بات أمرها محصوراً في مظاهرات وخطابات ومناشدات وتنديدات ومحاصرات للسفارة المصرية. وهكذا اكتملت حلقة الفصل الطوعي لكل الجبهات المحيطة بإسرائيل من عرب المقاومة والممانعة وعرب الاعتدال، ولتبقى حماس ومعها غزة وحيدةً تؤكد ممانعتها ومقاومتها في حربها الضروس تواجه مصيرها ممانعِةً وحيدةً في الميدان من دون حلفائها الذين بدوا ساعة العسرة كالآخرين من عرب الاعتدال أو التآمر كما يسمونهم.
قال لي: معركة حماس وغزة انتهت قبل أن تبدأ من خلال الموقف السوري في الوقت المناسب الذي لن يكون ببلاش في سوق السياسة والنخاسة، وتمّ الإعلان عن نهايتها في خطاب سماحة السيد لله وبالله وابتغاء مرضاة الله ورداً على الدعي بن الدعي ولكن في الوقت المناسب والذي لن يكون ببلاش أيضاً.
قلت: المعركة بدأت وانتهت، ولم نسمع من يقول: اللعبة انتهت The Game is Over
قال: لكل معركة لغز، ومعركة حماس هذا لغزها، وفي فمها ماء كثير، وهل ينطق من في فيه ماء.
كاتب سوري