الحرب على غزة من منظور العقل الليبرالي- حوار مع د. كاظم حبيب
سلامة كيلة
قرأت مقال د. كاظم حبيب (الحوار المتمدن –العدد 2516 -4/1/2009) حول الحرب على غزة، ولقد تألمت إلى الطريقة التي عالج فيها الأمر. وهنا لست في وارد الدفاع عن حماس، وليست مهمتي، وخصوصاً أن موقفي واضح منها. لكن المسألة تتعلق بالأسس التي بات ينطلق منها د. حبيب، والتي تتنافى مع أبسط مفاهيم الماركسية، كما مع أبسط القيم التي تتعلق بوطن في وضع احتلال، وبدور الماركسيين فيه.
حيث أن الدعوة التي يطلقها، وهي يقرّع حماس، تقوم على مبدأين: الأول، هو الانطلاق من “حقيقة” وجود الدولة الصهيونية كحقيقة نهائية لا تحتمل التفكير فيها بغض النظر عما يجري في الواقع، وبغض النظر عما تريده هذه الدولة. والثاني، الرفض المطلق لـ “النزاع العسكري”، والعمل المسلح لأنه يعقد الوضع، والجزم بـ “النضال السلمي”، و”الطرق التفاوضية”. والتذرع هنا بميزان القوى المختل.
طبعاً لم يلحظ د. حبيب بأن هذه السياسة كانت في صلب السياسات التي همشت الحركة الشيوعية، ولم يستنتج أنها لم تثمر شيئاً رغم التنازلات التي قُدّمت، خصوصاً في اتفاق أوسلو. وأن الدولة الصهيونية لم تتجاوب مع أي من الخطوات التي قدمتها النظم العربية ومنظمة التحرير. وبالتالي فإن السياسة السلمية التفاوضية لم تجلب سوى ما نشاهده في غزة، وقبلها في جنين والضفة الغربية. وأن الأمر لا يتعلق بطرف بل، ولأن الصراع هو بين أطراف، فإن الأمر يتعلق بها. بمعنى أنه لا يكفي، حتى لو قبل العرب بالدولة الصهيونية وبالتعايش معها، لا يكفي قبولهم، بل يجب رؤية الطرف الآخر.
وحين يتذرع د. حبيب بميزان القوى يكون كمن ينطلق من أن لا ضرورة لأي صراع، لأن الصراع يبدأ بين قوي وضعيف. ولو انطلق ماركس من هذا المنطلق لما أسس نظريته كلها، ولما اعتبر بأن التاريخ هو تاريخ صراع طبقي. ولما دعا إلى الاشتراكية على الإطلاق. حيث كانت موازين القوى هي لمصلحة البرجوازية، ولا زالت كذلك. أريد أن أقول هنا بأن أي صراع يبدأ من موازين قوى مختلة، ويكون الهدف هو تغيير موازين القوى هذه، وليس الانطلاق منها في طرح الحلول. وهذا ما نعانيه في صراعنا مع الدولة الصهيونية المدعومة إمبريالياً. لهذا يكون الهدف هو كيف نطور الصراع وليس كيف نقبل بالوضع الراهن. وحين تكون هناك مقاومة نفكر كيف ندعمها وليس كيف نقول أنها خاطئة وليست في أوانها لأن ميزان القوى مختل. فالمقاومة هي نتاج واقع يفرضها ليست نزوة ما. وهذا ما لم يكن شيوعيونا قادرين على رؤيته، لا في الصراع الطبقي الداخلي ولا في الصراع ضد الدولة الصهيونية. ومالوا إلى التكيف مع ما هو قائم، حتى حينما استلمت قوى قومية كانوا يعتبرون أنها مغامرة وانقلابية، وتمثل “نزق البرجوازية الصغيرة”. لأنهم لم يفكروا –سوى في البدايات وفي بعض المراحل – في تطوير الصراع الطبقي وفي التغيير.
ميزان القوى مختل؟ طبعاً، لكنه يتغير عبر تطوير المقاومة وليس في “انتظار غودو”. يتغير عبر الصراع ذاته. وفي تطوير الصراع. وعبر ذلك تتلقى الشعوب وحشية المحتل، ووحشية السلطة الطبقية الرأسمالية، لكن لا خيار سوى الاستسلام الذي لا يفيد شيئاً لأنه لا يلغي الاضطهاد والنهب والقتل والإفقار والتجويع. لهذا تعود الشعوب إلى المقاومة.
ثم أن اختلال ميزان القوى يفرض علينا نحن أن نحدد دورنا في تغييره، وليس التحسر على ما يجري، أو رفض المقاومة. يفرض أن نفكر في الوضع العربي الذي جعل الدولة الصهيونية تستفرد في غزة، وقبلها في لبنان، وربما غداً في أي من البلدان. كما يستفرد الاحتلال الأميركي بالعراق، ويعمل به تدميراً وتهديماً.
إن مبدأ الماركسية الأول هو التفكير في كيفية تغيير ميزان القوى، وليس القبول بالوضع القائم. كيفية تطوير الصراع وليس إتباع “النضال السلمي” وطريق التفاوض. فالأساس هو الصراع وليس التفاوض. والعكس هو طريق الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية الذي لاحظنا أين وصل، وليس طريق الماركسية.
وإذا دققنا في السبب الذي جعل حركة حماس تفوز بانتخابات ديمقراطية نلحظ آثار هذه المسائل. فقد فازت ليس لأنها تنظيم أصولي، ولا بسبب تدين الشعب، بل لأنها تبلورت في ذهن المواطن الفلسطيني كقوة مقاومة، ومن أجل كل فلسطين. بغض النظر عن مدى انسجامها مع هذه وتلك. بمعنى أن ليست “الإرادة الذاتية” لمثقف هي التي تحدد التاريخ، بل أن توافقها مع “إرادة الشعب” هي من يفضي إلى ذلك. ولقد بات واضحاً للشعب الفلسطيني بأن “النضال السلمي” وطريق التفاوض كلها لا تعني شيئاً. وأن القبول بالدولة الصهيونية خطيئة، لأنه يعني التخلي عن حقه. ثم أن الدولة الصهيونية لا تريد أنصاف الحلول بل الحلول كلها. لهذا يكون مع قوى المقاومة وليس مع “المفاوض البارع”.
أليس الشعب هو المعني بالصراع؟ إذن، ليس من خيار سوى تطوير هذا الصراع، ووضعه في إطار سياسي واضح، وانطلاقاً من إستراتيجية تفضي إلى تغيير موازين القوى. وليس رفض كل مقاومة لأنها عبثية.
هذه المسألة التي لم يفهمها اليسار هي التي قادت إلى تهميشه، وسوف تقود إلى موته. لأنه يعيش خارج الصراع الحقيقي، يعيش في الأوهام والأحلام، والأماني. وينحكم لـ “إرادة ذاتية” لتطور المجتمعات. والأسوأ أن قطاعات منه باتت تميل إلى الاستسلام لميزان القوى، والتكيف مع السياسات الإمبريالية، ومع قوى الاحتلال.
القوى تتطور وتقوى عبر الصراع وليس من خلال تهدئته. ومن خلال وعي التناقضات والفعل فيها. ووعي ميول الطبقات المسحوقة والشعوب المضطهَدة. وليس عبر التنازل عن الحقوق بحجة ميزان القوى أو بحجة الأمر الواقع.
والصراع مع الرأسمالية أمر بديهي لماركسي. وكذلك الصراع من أجل الاستقلال. ألم تكن هذه هي “وصية الرفيق فهد”؟ وأيضاً القبول بالدولة الصهيونية، حيث أصر على رفضها حتى وهو يتقدم نحو المقصلة؟
في غزة ليست المشكلة في حماس أو في صواريخها، هي مشجب فقط تريده الدولة الصهيونية لتبرير القتل والتدمير وخنق الشعب لكي تتلاشى الكتلة البشرية هناك. وفي كل الأحوال سوف تبحث عن مشجب. لهذا المشكلة ليست هنا بل في السياسة الصهيونية ذاتها، التي لا تريد إلا الصراع ضد المنطقة، لأنها جزء عضوي في المشروع الإمبريالي. وأحرى أن يلعب اليسار، والماركسيين خصوصاً دور تطوير الصراع وتصعيد المقاومة من فلسطين إلى العراق، وحينها سوف يكونوا في الصفوف الأولى قبل حماس وقبل حزب الله. وربما يخوضوا الصراع بطريقة أفضل تسهم في تغيير ميزان القوى حقيقة.
إذن، نحن في حالة صراع (شئنا أم أبينا، وافقنا أم لم نوافق)، والمسألة هي: ما السياسة الأجدى، وما المقاومة الأجدى؟ وليس أي شيء آخر.