غزة ستنتصر
بدر الدين شنن
لليوم العاشر على التوالي ، يخوض شعب غزة حربه البطولية ضد العدوان الصهيوني ، لكسر الحصار الإجرامي الذي فرض عليه وحرمه من الغذاء والدواء ومن مقومات الحد الأدنى للحياة الطبيعية التي توفر البقاء للإنسان ، وللتخلص من الاحتلال الصهيوني المستمر منذ أربعين عاماً ولممارسة حقه المشروع في تقرير مصيره مع بقية شعب فلسطين ، الشعب الأكثر تعرضاً لأبشع أنواع الاحتلال والإذلال في التاريخ . وساعة بعد ساعة ترتفع في الخط البياني أعداد الشهداء والجرحى ، التي بلغت حتى صباح 5 / 1 / 2009 ثلاثة آلاف بين قتيل وجريح . ومن المرجح أن تستمر هذه الحرب أياماً وأسابيع أخرى ، وأن ترتفع أعداد الخسائر البشرية والمادية أكثر فأكثر .
ولايحتاج الأمر كبير جهد ليقرر أن الحرب التي يخوضها شعب غزة الآن ، التي تشكل تواصلاً لحرب شعب فلسطين منذ مائة عام حتى الآن ، هي حرب عادلة ومقدسة ضد أبشع وأحط مخططات ومؤامرات جهات صهيونية عنصرية متحالفة مع القوى الاستعمارية ، التي تعمل على السيطرة على مقدرات ومصائر الشعوب العربية كافة والشعب الفلسطيني خاصة ، بسبب عوامل جيو- سياسية مغلفة بهالة دينية أ سطورية مزيفة . وهذه الحقيقة ، التي يعرفها ويكتوي بنارها ويدفع ثمن الصراع ضدها ويتفهمها كل الشرفاء في العالم ، تتعرض الآن للتشويه المتعمد من جهة ، وللنسيان والتناسي من جهة ثانية ، وللتوظيف الأيديولوجي المغرض خدمة لمصالح الهيمنة الامبريالية وأعوانها المحليين من جهة ثالثة .
ولهذا .. وخاصة في معركة غزة الراهنة لابد من العودة مرة أخرى إلى حقائق المسألة اليهودية والصراع العربي الإسرائيلي التاريخية وحقائق هذا الصراع الراهنة :
1 – لم يكن نشوء اليهودية بداية في فلسطين ، وإنما حسب الوقائع التاريخية كان في مصر على يد موسى ( المصري ) وسط أقلية قادمة من الجزيرة العربية ، ومن ثم نتيجة اضطهاد فرعون مصر للمؤمنين بالديانة الجديدة ، هاجر هؤلاء عبر إحدى بحيرات السويس إلى فلسطين أرض العرب الكنعانيين . وهناك رواية أخرى عن عبور المؤمنين بديانة إبراهيم الخليل التي أسست للديانات السماوية ومنها اليهودية ، نتيجة الجفاف المزمن من الحجاز إلى فلسطين . وكلا العبورين ( الهجرتين ) يدلان على غربة اليهود عن فلسطين . وكل متابع لتاريخ المنطقة يعرف أن قبائل عربية يهودية ظلت ذات حضور ونفوذ في الجزيرة العربية حتى صدر الإسلام في الحجاز واليمن ، بل إن اليمن عاش عهداً يهودياً كاملاً لعشرات السنين قبل الإسلام ، ويدل على ذلك رابط العلاقات الزوجية الذي جمع بين بلقيس ملكة اليمن بسليمان الذي كان ملكاً لليهود على جزء من فلسطين ، وذلك لتمتين العلاقات التجارية بين البلدين اللذين كانا يسيطران على مركزين جغرافيين مؤثرين على الدروب التجارية بين بلدان الشرق الأدنى وإفرقيا .
2 – أولى الضربات التي تعرض لها الكيان اليهودي على جزء من فلسطين كان على يد الامبراطورية الفارسية في السبي الأول والثاني قبل الميلاد ، ثم قامت الامبراطورية الرومانية بتدمير مانشأ من جديد من كيان لليهود ..
ونتيجة لذلك مابقي ثابتاً على الأرض هو شعب فلسطين الأساس الأصيل الكنعاني العربي ، الذي كان موجوداً قبل الوجود اليهودي ( العابر ) وبعده .
3 – العبور اليهودي المعاصر جاء هذه المرة من أوربا . لم يقم به أنبياء إ سرائيليون جدد ، وإنما البورجوازيون اليهود الطامحون إلى تجسيد ذاتهم الاقتصادية عبر إطار قومي ، في عصر النهوض القومي الأوربي ونشوء اقتصاد السوق الامبريالي والفتوحات الاستعمارية في القرن التاسع عشر . وكانت الانطلاقة مؤتمر بازل 1897، وكان اختيارهم ، بعد تردد لتجسيد ذاتهم القومية ، أرض فلسطين لتمتعها بقيم جيو- سياسية مغرية وسط الشرق الأدنى ، لاتتوفر في أمكنة أخرى ، يمكن ربطها مع المخططات الإمبريالية العالمية في المنطقة ، ومع اعتبارات دينية ” لجذب ” أكبر عدد من اليهود في العالم وا ستخدامهم قاعدة للدولة الصهيونية .
4 – لم يكن التوجه الأوربي ومن ثم الأميركي لإقامة ودعم الدولة اليهودية في فلسطين إنطلاقاً من أصداء كارثية ” الهولوكست ” المحرقة التي قتل فيها النازي الألماني ملايين الأبرياء من اليهود وغير اليهود . ولم ينهض على ذلك الفعل الغربي لتأمين كيان خاص باليهود كتعويض عما لحق بالملايين منهم من مظالم نازية .. فهذا قمة النفاق .. وإنما كان انطلاقاً من وعد بلفور 1917 . أي قبل الهولوكست بربع قرن . وقد اقترنت خطط إقامة الدولة اليهودية في فلسطين مع المخططات الاستعمارية للسيطرة على بلاد الشام واقتسامها باتفاقية سايكس – بيكو وغيرها . ما يعني أن جريمة اغتصاب فلسطين ومنحها لليهود كان فعلاً ا ستعمارياً احتلالياً قذراً قبل أن تراق نقطة دم يهودي واحدة في أتون الهولوكست .
5 – لايتحمل العرب وخاصة الفلسطينيون وزر الظلم النازي الغربي لليهود الأوربيين . وليس لأحد حق تحميل العرب تبعات ذلك الظلم لهم بارتكاب المجازر ضدهم وطردهم من أرضهم تحت زعم التعويض لليهود . لقد كان من الأولى أن تتحمل ألمانيا ذاتها قبل غيرها عبء التعويض الإنساني عما ارتكبته النازية الألمانية بحقهم من جرائم ، بدل أن تسهم مع دول الغرب الأخرى بدعم مقومات إنشاء كيان صهيوني عنصري على حساب شعب فلسطين وعلى حساب المستقبل العربي .
على ذلك ، فإن وجود مايسمى ب ” إ سرائيل ” الآن هو وجود احتلالي عدواني للأرض العربية والحق العربي ، وعلاقات هذا الكيان مع الدول العربية المجاورة وشعب فلسطين هي علاقات عدوانية تحفظ للشعوب العربية حق المقاومة حتى ا سترداد الأراضي التي سلبها هذا الكيان وأقام ” دولته ” عليها ، وهي لاتحتاج إلى فلسفة وتحليل ومقاربات قانونية دولية . وتاريخ الصراع بين ” إسرائيل ” والجوار العربي طوال ستين عاماً يشهد على ذلك . ولاتغير من حقيقة هذا الواقع مفاعيل انحراف الطبقة السياسية العربية الحاكمة وسعيها للتأقلم والتطبيع مع وجود ” إ سرائيل ” . ولايمكن أن يجعل من ” إسرائيل ” جزءاً عضوياً شرعياً في الإقليم .. وإنما يجعل منهم أدوات لهذه ” الإسرائيل ” ويعزلهم عن شعوبهم واكتساب غضب هذه الشعوب .
وإزاء ذلك تتأكد حقيقة أن معركة غزة هي الآن معركة تحرر وطني بامتياز .. قبل كل مضامين هذه المعركة الإنسانية و القانونية ، وتأتي كل الذرائع والحيثيات التي ربطت هذه المعركة بمفاعيل وتطورات آنية تالياً ، لاسيما تلك القائلة أن ماجرى كان سببه ، أن سلطات حماس وفصائل المقاومة في غزة قد أنهت التهدئة المبرمة مع سلطات تل أبيب من جانب واحد ، وباشرت بإطلاق الصاريخ على المستعمرات الإسرائيلية . مامعناه دون تحميل إسرائيل أية مسؤولية ، أنه كان على أهل غزة أن يستمروا بالإذعان للحصار التجويعي المذل الظالم المفروض عليهم ، وأن لايردوا على اغتيال نشطائهم وقادتهم الذي ترافق مع الحصار . أو القائلة أن الانتخابات الإسرائيلية البرلمانية المقبلة ، التي تستدعي جولة جديدة من الحرب في المنطقة لاستراداد الهيبة الإسرائيلية التي ضعفت أوسقطت في حرب لبنان عام 2006 ، لإعادة إنتاج الدولة الصهيونية بصيغة تسح لها استعادة دورها الإقليمي المهتز ، فرضت هذا الطقس العنصري من الإرهاب .. الحرب .. أو القائلة ، أن الإدارة الأميريكة هي وراء هذه الحرب للتعويض عن فشلها في إعادة تشكيل الشرق الأوسط حسب مخططاتها العولمية ولتأسيس حالة من عدم الاستقرار في المنطقية تلزم أوباما بمساراتها لاستكمال خدمة ما مثلته إدارة بوش على المستوى الأميركي والدولي . وتتأكد حقيقة أن غزة هي في أي حال المعتدى عليها وليس المعتدية .. لأنها ضحية احتلال وضحية حصار وضحية عدوان ومن حقها الدفاع عن نفسها .
لقد وعت الجماهير الشعبية على امتداد البلدان العربية وفي بلدان عديدة في آسيا وأوربا وأمريكا وعت هذه الحقيقة ، وخرجت بالملايين متظاهرة .. محتجة على الحرب على غزة .. ومتضامنة مع المقاومة الفلسطينية على اختلاف فصائلها في حربها المقدسة ضد العدوان .. وضد الحصار .. وضد الإبادة للإنسان الفلسطيني .
لقد أكدت الشعوب العربية مرة أخرى أنها أكثر شرفاً ووعياً من معظم الأنظمة الحاكمة إن لم يكن كلها ، وذلك خاصة في مسائل الحرية والديمقراطية والوطنية والقومية . وأكدت هذه الشعوب بمظاهراتها وهتافاتها لنصرة غزة أن الضمير الأخلاقي الأسمى ضد العنصرية الصهيونية وضد الخيانة مازال حياً .. بكل ما تعنيه كلمة خيانة من معنى . فهل توجد كلمة أصدق وصفاً من ” الخيانة ” لما يقوم به الحاكم العربي ، لاسيما من يملك المال والبترول والسلاح ، يرى أجساد أطفال فلسطين تتمزق بقذائف الصهاينة ، ويرى نساء فلسطين يغسلن بدموع الحزن أعزائهن الشهداء ، ويرى شباب فلسطين يقتحمون الدبابات ويتلقون صواريخ الطائرات بصدورهم شبه العارية .. دفاعاً عن أرض غزة ووجود الإنسان الحر في غزة .. بينما هذا الحاكم يتلطى خلف الاعتدال والواقعية وقرارات الإذعان الدولية ، وفي وقت يجند آلاف مرتزقته لقمع نشطاء الحرية في شعبه ، ويبذر مليارات الدلارات لشراء أ سلحة لايستخدمها إلاّ في الاستعراضات والمواسم الاحتفالية ودائماً هي في خدمة الأجنبي في مشاريع العدوان على الشعوب .
لقد سجل التاريخ في الأيام الماضية ، أن ملايين المتظاهرين البسطاء الشرفاء من الرباط إلى بغداد ومن دمشق إلى صنعاء ، أن الشعوب العربية في واد والحكام العرب في واد آخر ، ولاتلاق منظور متوقع بينهما ، ويطرح السؤال : كيف ستحول هذه الملايين الصادقة الضمير والأبية الكرامة والعازمة على رفض الظلم والعدوان ، كيف ستترجم غضبها وتحركها وإرادتها في الصراع مع حكامها المتخاذلين عن القيام بأبسط الجهود المالية والسياسية دفاعاً عن غزة فلسطين التي تكابد الاحتلال والحصار والعدوان .. ؟ وكيف ستترجم غضبها غداً في الصراع مع حكامهم دفاعاً عن غزة الموجودة بأشكال متعددة في كل البلدان العربية التي تكابد الاستبداد وأنظمة الفوات والتخلف ؟ .
غزة تدنو من انتصارها .. غزة ستنتصر . حتى وإن جثمت الدبابات الإسرائيلية على كل تراب غزة .. وإن تمكنت السلطات الإسرائيلية من قتل واعتقال كل المقاومة كل شعب غزة .. رغم كل ذلك .. وبذلك غزة ستنتصر . لقد سجلت غزة أن كل الشعوب العربية وكل قوى الحرية في العالم معها .. وهذا انتصار .. وسجلت عزلة أنظمة الاعتدال المتواطئة مع إسرائيل وصواب خيار المقاومة .. وهذا أيضاً انتصار . وسجلت أنها غدت رمزاً متألقاً للبطولة والتضحية وإرهاصاً لنضالات فلسطينية وعربية وعالمية ضد الصهيونية والإمبريالية الأميركية والأوربية العفنة التي تلوك أزماتها .. وهذا أيضاً وأيضاً انتصار ..
لاوقت الآن للتمايز المصطنع والخلافات النظرية .. لاوقت الآن للأدلجة والفلسفة .. السمت الآن .. الهدف الأساس الآن .. انتصارغزة .. الذي سيؤسس لانتصارات أهم وأكبر ..