دول الشوارع
هوشنك بروكا
هذه ليست المرة الأولى، كما لن تكون الأخيرة، التي “ينتفض” فيها الشارع العربي ويقيم دولاً شارعية شفهية، في مواجهة ما تسمى ب”الدول العربية الرسمية” وحكامها الرسميين.
كل هذا الضجيج والعياط والبكاء الشارعي، المدشّن لدولٍ شارعيةٍ، لا تدوم أكثر من شارعٍ، أو شارعين، ليومٍ أو يومين، هو لأجل أن تقول الملايين الشارعية المنتفضة، البطّالة، المعطّلة العطاّلة، الميؤوسة من عيشتها، الحاملة لشوارعها في دولها، ودولها في شوارعها، على أكتافها المرهقة، لتقول للعالم(“الكافر” منه بوجهٍ أخص)، في لحظة غضبٍ مارقة، في شارعٍ مارق:
“اسمعوا..وعوا..نحن هنا موجودون في الشارع.. سنقلب(بإذن الله تعالى وملائكته ورسله وكتبه) الدنيا التي في الشوارع، على رؤوس الجانين في أقرب شارعٍ ممكنٍ..إن لم يكن في هذا الشارع، فحتماً سيكون في الشارع القادم..نحن وراءكم والشارع طويل”!!!
بالأمس القريب جداً، خرجت المظاهرات المليونية، على طول الشارع الإسلامي وعرضه، منددةً ب”الغرب الكافر” و”إساءاته” المستمرة للإسلام ونبيه.
هذه الطوابير المليونية، كفّرت الغرب، وكنيسته الممثلة بالفاتيكان وبابا(ها)، وأحرقته على خرائط من ورق، وقاطعته على الهواء مباشرةً، وأعدمت أعلامه، وخوّنت البعض المعتدل من العرب(رسميين ولا رسميين)، وأهدرت دمه، وأفتت بمحو كياناتٍ، وإسقاط حكوماتٍ، وإرهاب شعوبٍ بأكملها،..فماذا كانت النتيجة؟
إلى أين أنتهى ذاك الخروج المليوني، الهيستيري، إلى شارعٍ، بقي مجرد مكانٍ عابر لجماهير متظاهرة عابرة، دون أن يتحول إلى بعض زمانٍ، أو أية علامةٍ تاريخيةٍ فارقة، على مستوى الفعل؟
المحصلة، هي، أنّ الغربَ، بقي غرباً، يتقدم ويتطور، ساعةً بساعة، يصنع الإنسان؛ وينجز الديمقراطيات والحقوق والحريات؛ ويصلح في الأرض؛ ويترك السماء وضده لأهله، كي يدخلوا الدين كما يشاؤون، وليأخذوا من الله، فيه، ما يشاؤون..فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أما الشرق، شرقنا الذي كلنا في لاحريته همٌ، والذي لا يزال يسخن في الشارع، كما في خارجه، فبقي هو هو، يتأخر؛ يمسخ الإنسان؛ ويصنع الديكتاتوريات والعبوديات والواجبات؛ ويفسد في الأرض، أيما فسادٍ؛ ويزج السماء في واحدٍ أحدٍ، وفي أمةٍ واحدةٍ، أُريد لها أن تكون خير أمة تخرج للناس..فأُخرجت.
كل هذا، جرى في الشارع، بدأ من الشارع، وانتهى في الشارع..عاش في الشارع، ومات في الشارع..حضر ووعد وتوعد في الشارع، وغاب في الشارع..قيل في الشارع، ونسي أو انتسى في الشارع..صدق في الشارع وكذب في الشارع..اشتعل في الشارع وانطفأ في الشارع.
والآن، حيث غزة تشتعل، على خطى ذات الشعار المشتعل، أو شبيهه، من قبيل “نصرة دم غزة والقضية الفلسطينية”، نشاهد ونسمع ونقرأ، اشتعال ذات “الدول الشفهية” بطوابيرها المليونية، وشعاراتها الخلبية الطائرة في الهواء، في ذات الشارع العربي والإسلامي.
كل من استمع، هذه الأيام(كما بالأمس القريب والبعيد أيضاً)، إلى شعارات هذا “العقل الشارعي” الساخن، المتظاهر على طول الشوارع العربية والإسلامية، سيلحظ، دون بذل أدنى جهدٍ يُذكر، مدى سذاجة الماشين به وعليه، والمنخرطين في مخططاته الخارجة عن كل عقلٍ عمليٍّ، وكل تخطيط، فضلاً عن سذاجة الشيوخ(بمن فيهم الشيوخ الإعلاميين) المنظّرين له، والمعوّلين عليه، وكأنه سيقلب العالم، بعربه وعجمه، في أقرب شارعٍ ممكنٍ، رأساً على عقب، غصباً عن الذي يريد أو لا يريد!
كلما أرى هذه الجماهير المليونية، وهي تنتفض لنصرة فلسطين، ككل قضية بعيدة، على امتداد الوطن العربي الكبير، أتذكر أيام المدرسة، يوم كنا طلاباً تحت الطلب، للمشاركة في مسيراتٍ، ومظاهراتٍ، مفصلةٍ بعثياً، لم نكن نعرف منها شيئاً، سوى عناوينها وشوراعها.
في تلك المسيرات “الميمونة”، بقيادة “مدرب الفتوة” الميمون، التي كنا نُزج فيها، عنوةً، سواء شئنا أم أبينا، وإلا كنا سنُتحَف بالفصل الجزئي أو النهائي، من “حرم المدرسة”، كان العريف البعثي الشبيبي، المختار من جهة البعث المدرسي، يلقّن علينا شعاراتٍ ساخنةٍ، في الوحدة والحرية والإشتراكية، وفي جبهة الصمود والتصدي، وسوريا قلعة الأمة العربية، ودمشق عرين الأسد، وفلسطين قدس العرب ومكّتهم، وسواها من الشعارات الكبيرة، العابرة للوطن العربي الكبير.
في واحدةٍ من تلك المسيرات الميمونات، نال أحد زملاءنا من البعثيين المدللين، الذي كان ينقل أخبار الصف إلى الفوق المدرسي، لقب “مدمّر إسرائيل”، واحتفظ بهذا اللقب البعثي بإمتياز، لسنواتٍ عدة لاحقة، لمجرد أنه حصل على “شرف” ولع النار في علم إسرائيل، في شارعٍ ناءٍ، من شوراع الشمال الكردي السوري.
المظاهرات المليونية، التي انتشرت في شوارع الوطن العربي، وبعض البلاد الإسلامية، هذه الأيام، والتي هتفت في فلسطين، ودم فلسطين وغزتها، المزروعة الآن في قلب النار، و”أحرقت” إسرائيل في شقفة علمٍ، وأسقطت “تل أبيب”(ها)، في أصواتٍ مبحوحةٍ، ذكّرتني بزميلي الطالب المخبر في الدراسة، ذاك، الحائز على جائزة “المدمّر الميمون”، الذي “دمّر إسرائيل”، في علمٍ من ورق، تدميراً مبيناً، قبل حوالي عقدين ونيف من الزمان، في شارعٍ، لا يعرف سكانه من إسرائيل سوى إسمها، ولم يسمعوا بيهودها، إلا في كونهم “أعداءً لله”، و”أولاداً للخنازير والقردة”.
لو كانت في هذه المظاهرات المليونية ذرة أمل ممكنٍ، أو ذرة عملٍ متوقعٍ، لكانت جماهيرها قد أصلحت بعياطها المبلط لكل الشوراع العربية والإسلامية، أوطانها الغارقة في أكثر من فلسطين، وأكثر من غزة، وأكثر من إرهابٍ، وأكثر من ديكتاتورٍ، وقتلٍ وسجنٍ وتعذيب.
كي لا أبقى في العموميات، لن أذهب في الحديث، بعيداً، عن شوارع الآخرين العمومية، كما عوّدنا معظم الكتاب والمثقفين العرب وجيرانهم من الكرد والترك والفرس، وسواهم، على عمومياتهم النقدية، ممن يبحثون، بالميكروسكوب، وبأكثر من عينٍ ناقدةٍ، في أخطاء وارتكابات كل شوارع العالمين، بغربها وشرقها، وجنوبها وشمالها، خلا شوارع رؤسائهم وحكامهم، القريبة إليهم كحبل الوريد.
لن أتحدث بلغة الإستثناء..التي تعلوها دائماً عبارة “إلا أنت”، كما عودتنا قواعد النقود العربية، وسواها من النقود الشرقيات.
سأبدأ من شارعي..شارع سوريا التي لا أزال أنتمي إليها.
تُرى، ماذا حصد هذا الشارع “المنتفض”، تحت الطلب، منذ أكثر من أربعة عقودٍ ونيف من الحكم البعثي المبين؟
ماذا فعل هذا الشارع، الذي أحرق “إسرائيل العدوة” و”صهاينتها”، ألافاً مؤلفة من المرات، في شوارع دمشق وحلب وقامشلو؟
ماذا صنع هذا الشارع وجمهوره “اللاعن” للصهيونية والإمبريالية، من المهد إلى اللحد، من تاريخٍ يُذكر؟
هل سدّ هذا الشارع رمقاً لتاريخٍ يستحق الذكر؟
هل حصد هذا الشارع الخاسر أبداً، طيلة عقودٍ من العياط الماضي، والصوت العالي الماضي، عدا الهزائم، والنكسات، والحروب الخاسرة؟
ألم تبقى الجبهة السورية مع “إسرائيل العدوة”، هادئةً، كالماء، بعد حرب 1973، لأكثر من ثلاثة عقودٍ مضت، منذ احتلال إسرائيل لهضبة الجولان سنة 1967؟
ألم يبقى السوريون وسوريا(هم)، بحجة إسرائيل و”الصهيونية” و”الماسونية” و”الإمبريالية الأمريكية”، طيلة هذه العقود “العدوة”، تحت طائلة ما يسمى ب”قانون الطورائ” و”الأحكام العرفية”، وما شابهها من طوارئيات وعرفيات بعثيات؟
ألم “ينعم” أكثر من 40%(تقارير أخرى تشير إلى 60%) من سكان سوريا، بالعيش تحت خط الفقر، كما أفادت وكالة آكي الإيطالية في تقريرٍ لها، في 07.09.07؟
ألم تنعم الحريات في سوريا بالمراتب الأخيرة، أي ضمن قائمة الدول الأسوأ في مجال حرية الصحافة والتعبير والرأي، وسواها من الحريات الأخرى، في العالم، طيلة العقود البعثية الأربعة الماضية، من الشوارع الملتهبة الماضية؟
ألم يصنع الشارع السوري، الهتّاف، ذاته، المنتفض لأجل فلسطين، ولبنان، والعراق، والعروبة، والوحدة والحرية والإشتراكية العروبية، الديكتاتور العربي ذاته، وبإمتيازٍ قل مثيله في التاريخ الديكتاتور، “ديكتاتوراً ممتازاً”، هو من الأسد الأب إلى الأسد الإبن، وربما إلى الأسد الحفيد لاحقاً؟
لماذا لم نرَ لذات الجماهير الشارعية الهائجة الآن، حضوراً وإن في ربع شارع، أو شقفة شارع، ساعة فصّل “البعثيون الجدد”، أو الحرس القدامى، أمثال عبدالحليم خدام(الذي يسرح ويمرح، الآن، في الحرير الباريسي)، الدستور السوري على مقاس ديكتاتوره الجديد، تفصيلاً بعثياً مبيناً؟
ثم لماذا يغيب الشارع ذاته، من داخله، ولا ينتفض، شارعاً واحداً، لأجل الخبز لشارعه الجائع، والحرية لشارعه، المحكوم بشوارع الأمن العسكري والسياسي وأمن الدولة و”أمن العائلة”..وخلاها من الشوارع الأمنية، المصنّعة خصيصاً، لقمع وسحل وسحق ومحق كل شارعٍ مخالف؟
هكذا، تُمارس الشوارع، مزدوجةً في بلاد العرب والبلاد الإسلامية الجارة.
هكذا، تحيا الشوارع العربية والإسلامية وتشتعل، وتصنع دولاً من هتاف، لدعم “الإخوة” في الخارج البعيد، أما الداخل القريب، فهي لا تسمعه، لا تراه، لا تنبس فيه ببنت شفةٍ.
هكذا، تحيا جماهير الشوارع في ديار الشرق المسلم لخارجها، وتموت من داخلها، في داخلها.
هكذا، تحيا “دول الشوارع”، في “الشرق الشارعي”، شارعاً أو بعض شوارع خاطفةٍ، في عمر برقٍ خاطفٍ، فيما جماهيرها العريضة تموت عريضةً، وتُقتل وتُسجن، وتعّذب، بالطول وبالعرض، في دول داخلها، كل يومٍ؛ في كل شارعٍ؛ بين كل شارعٍ وشارعٍ؛ من شارع إلى شارع؛ طوال وعرض كل شارعٍ، فوق وتحت كل شارعٍ، داخل وخارج كل شارعٍ، أمام ووراء كل شارعٍ؛ أوانَ وغيابَ كلّ شارعٍ، قبل وبعد كل شارعٍ، ومع وبدون أيّ شارع.
كل شارعٍ وأنتم بخير!