حول تناول الحرب على غزة: ملاحظات في أسس النظر
سلامة كيلة
أثار الحوار مع د.كاظم حبيب مجموعة تعليقات وجدت أنها تستحق المناقشة لما يحكمها من رؤية، وما تنحكم له من منطق بات من الضروري تناوله نقدياً. حيث يبدو لي أن الخلافات هي ليست كما تبدو في مواقف من القضايا بالأساس، بل أنها اختلافات في طريقة النظر: في المنهجية. حيث لازلنا نتلمس الأشكال دون أن نلمس الجوهر. ونتعلق بالكلمات دون أن نتلمس معانيها. ونكرر المفهومات دون أن نعي معناها. هنا إشكالية منهجية تحتاج إلى نقد قبل مناقشة الخلاف حول المواقف.
فمن خلال قراءتي للتعليقات الواردة على مقالي “الحرب على غزة من منظور العقل الليبرالي” (الحوار المتمدن، العدد 2518، تاريخ 6/1/2009) توصلت إلى مسألتين: الأولى، إن العديد ممن تصدى للرد ربما لم يقرأ لي سوى هذه المقالة، وبالتالي فهو لا يعرف مواقفي على الإطلاق. ولهذا أنزل شتى التهم، وخصوصاً الشوفينية التي تكررت من قبل أكثر من معلق في تناغم واضح. شكراً للتهم، لكن كان يجب المعرفة أولاً يا أصدقائي. فمثلاً سامر إبراهيم اتهمني بالشوفينية لأنني أرفض قبول 7 أو 8 مليون يهودي. من أين علم أنني أرفض ذلك، يبدو أنه لا يعرف أنني كنت رئيس تحرير موقع شعاره “من أجل دولة ديمقراطية علمانية” في فلسطين، وأنني أنطلق من ضرورة تحقيق حل ديمقراطي للمسألة اليهودية. طبعاً إذا أراد المعرفة يمكنه العودة لما نشرت في الحوار المتمدن وحدها على الأقل. هل في هذا شوفينية؟ أظن أن معنى الشوفينية غائب عمن يستخدم هذا المصطلح، ومنهم الأستاذ حميد كشكولي، الذي أطنب في الهجوم على اليسار القومي، و يبدو أنه لم يقرأ ما كتبت حول حماس وحزب الله وإيران. فيتهمني أنني أتجاهل أنها تسعى لقيام سلطات ظلامية إرهابية. يا عزيزي موقفي من السلطة الظلامية في إيران معلن منذ سنة بعد انتصارها في إيران ولم يتغير. لكن يبدو أن المطلوب اليوم هو إدانة حماس كونها السبب في الحرب الصهيونية على غزة. هذه مسألة أخرى، ويمكن البحث في تقييمنا لحماس. لكن ما معنى الشوفينية هذه الكلمة التي تتكرر ملصقة بالقومية؟ هل كل ميل قومي هو شوفينية؟ حينها سوف يكون ماركس، وكذلك لينين، شوفينيين، وتكون الماركسية بدءأً من البيان الشيوعي شوفينية. رفقاً بالماركسية.
وبالتالي فإن الحوار دون معرفة، واستناداً إلى تفسيرات ذاتية، وتأويلات خاصة ليس حواراً، بل ميل لكيل الاتهامات فقط.
المسألة الثانية هي أن النقد يوضح بأن جوهر ما قلته لم يدقق فيه. فبغض النظر عن حماس وحزب الله وإيران، وهذه مسائل تناقش، لكنها ليست الأساس هنا إلا إذا انطلقنا من أن ما يجري هو “مؤامرة” إيرانية حمساوية، وهذا يبعد عن الطرح السوي. فالمسألة تتعلق برؤية صهيونية لوضع فلسطين، وكما قلت في الرد على خالد العاني سواء كانت حماس أو لم تكن فإن الهدف هو القتل والتدمير. هنا يجب أن نركز، إلا إذا اعتقدنا بأن تخلينا عن المقاومة سوف يفرض العيش بسلام مع الدولة الصهيونية؟ لقد حاول ياسر عرفات ويحاول أبو مازن لكن الهدف واضح لا مكان للفلسطينيين في فلسطين. في هذا الوضع يكون من الحاسم التركيز على الفعل الصهيوني، والتفكير العميق في كيفية تغيير ميزان القوى. وليس مفيداً لصق كل الهجمات والحروب الصهيونية بشيطان أكبر هو حماس وإيران.
أنا لا أعتقد بأن سياسة حماس صحيحة، وفي تناقض مع أيديولوجيتها، وأعرف أنها تمثل شريحة “تجارية”، ويسوؤني أنها أصبحت هي القوة الأكبر في النضال الفلسطيني، لهذا أصرّ منذ زمن على أن اليسار الماركسي هو الذي يجب أن يحمل العبء، أن يقود المقاومة. لكن المشكلة أن اليسار يميل إلى “النضال الحضاري” (تحت مسميات الطبقي)، الذي لا يقبل الصراع ولا المقاومة. وبالتالي يكون من الطبيعي أن تميل الطبقات التي يتحدث هذا اليسار باسمها إلى حماس وحزب الله، وكل قوة تقاوم الرأسمالية الإمبريالية، وفرعها الصهيوني. وهذه مسألة، مع الأسف، لا تلفت انتباه كل الذين يرفضون المقاومة من فلسطين إلى العراق إلى لبنان. حيث أن قوة هذه القوى نابعة ليس من “قدرة إلهية” بل من موقفها التي يتبنى المقاومة، بغض النظر عن كل ما يمكن أن نقوله هنا حول أن هذا الموقف تكتيكي، أو أنه خاضع لسياسات محاور خارجية أو أي شيء آخر.
وككل مرة أقرأ لحميد كشكولي أجد أنه يكرر الطبقي، والنظرة الطبقية، لكن في تعارض مطلق مع القومي. ليبدو الطبقي لديه فوق القومي، بعيد عن القومي (كوزموبوليتي). ولن أشير هنا إلى الماركسية والمنظور الماركسي وماركس لأوضح خطل هذا الموقف فيما يتعلق بالصراع في فلسطين، لكن أشير إلى أن الدولة الصهيونية ككيان هي أداة في المشروع الرأسمالي الإمبريالي، ولتحقيق مصالح الطغم الإمبريالية، ولم تكن يوماً حلاً لـ “مشكلة اليهود”. وبالتالي فإن الصراع معها هو صراع طبقي قبل أن يكون قومياً. صراع من أجل إنهاء السيطرة الإمبريالية على الوطن العربي، وتحقيق الاستقلال والتطور. وهنا يجب أن يلعب اليسار الماركسي الدور الأساس لتحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء في سياق هذا الصراع وليس خارجه، أو بعيداً عنه. وأكمل بأنه صراع أيضاً ضد الرأسماليات المحلية التابعة، وبالتالي ضد النمط الرأسمالي، ومن أجل تجاوز الرأسمالية.
إن الدعوة لتحقيق الاستقلال والوحدة ليس شوفينية، بل ضرورة من أجل تحقيق التطور. وأنا أنطلق أصلاً من أن هذه المهمة هي مهمة العمال والفلاحين الفقراء في إطار صراعهم الطبقي المحلي والعالمي.
هل أجبت يا رفيق حميد على “أسباب الصراع الحقيقية وفق منظور ماركسي”، أم تراني أنطلق من منظور قومي شوفيني؟
لكن في هذا الصراع هناك قوى أخرى، وطبقات أخرى. ولقد كانت حركة فتح “البرجوازية” تقود الصراع فأوصلتنا إلى الهاوية، والآن أصبحت حماس هي التي تقود، لكن أوصلتنا إلى الهاوية أو تكاد. لكن ألا يحق قبل أن نشطب كل هؤلاء أن نتساءل أين اليسار الماركسي؟ ولماذا لم يستطع أن يقود الصراع؟ وما هي رؤيته؟ هل لأنه “حضاري” لا يريد المقاومة لأنها تودي إلى القتل والحروب والتدمير؟ الجواب الذي طرح من أكثر من تعليق يقوم على نبذ القتل والحروب، لكن هل أن المسألة هي بأيدينا فقط؟ هل نحن فقط الذين نحدد طبيعة الصراع وأشكاله؟ فحتى شرعة الأمم المتحدة تقر حق المقاومة المسلحة ضد الاحتلال ولو …
ربما أن التدقيق في بعض الردود يوضح مدى الذاتية التي تحكم “المثقف المنعزل”، الذي يظن بأن تصوره للصراع هو الذي يحكم الواقع، وأنه يمكن أن يقيم اتفاق “جنتلمان”. وبالتالي لا يرى بأن الصراع هو نتيجة وضع محدد، وظروف معينة. وأن البشر لا يميلون إلى المقاومة وخوض الصراع الطبقي إلا لأنهم يعيشون ظروفاً تفرض ذلك. وهذا ما يتناوله محمد الزهري، الذي يجعل الصراع هو “طريقة فلسفية لمعرفة الواقع”. ويكمل بأن الصراع هو بين خير وشر، ليظهر بأنه لا زال بعيداً عن الماركسية، ويسكنه المنطق الصوري الذي يقسم العالم إلى خير وشر. صح النوم يا صديقنا. لكن إذا كانت حماس شر فإن المشكلة هي أن الدولة الصهيونية تحتل فلسطين وتقتلع السكان (الطبقات)، وبالتالي فهي في صراع مع الشعب قبل حماس، وحينما كان الإخوان المسلمون (الذين أصبحوا حماس) يتحالفون مع الإيمان الصهيوني ضد اليسار المقاوم). وإذا كانت حماس باتت هي القوة الأكبر في المقاومة في غزة فلأن الشعب مال إليها، لهذا نجحت في انتخابات ديمقراطية. هل يخطئ الشعب؟ نعم، لكنه لا يخطئ في تحديد عدوه، الأمر الذي يفرض أن لا ترى الأمور بهذه السطحية. وأن يُفهم بأن قوة حماس نبعت من شعبيتها التي نتجت عن تبنيها المقاومة (وأضيف براغماتياً)، وقولها بتحرير كل فلسطين، وليس الضفة وغزة (رغم أنها بعد أن أصبحت في السلطة بدأت في التراجع والقبول بدولة في الضفة وغزة). بمعنى أن “مزاج الشعب الفلسطيني” هو هنا، ولهذا سوف يدعم القوى التي تقاوم. ولهذا السبب كذلك تخلى عن فتح وهمّش اليسار، الذين ساروا في مسار المفاوضات والقبول بدولة في الضفة وغزة.
أخيراً أبو العز يرفض أن يكون سبب فشل الحركة الشيوعية هو تخليها عن أسلوب العنف. وطالبنا بأن نقرأ التاريخ، ويبدو أنه ليس من كوكب الأرض، أو أنه شاب في مقتبل العمر لم يقرأ التاريخ الذي يشير إليه. ثورة أكتوبر كانت ثورة شعبية شاملة. والثورة الصينية انتصرت عبر حرب الشعب. وهكذا الفيتنام. ولقد تعلمنا نحن منهم. وكوبا ولاوس وكمبوديا و…..ألخ، لا أريد تعداد كل التجارب. فقط أقول بأن الأحزاب الشيوعية التي مارست الثورة هي التي انتصرت، ومن اتبع الطريق السلمي البرلماني هو الذي فشل. هذه هي تجربة القرن العشرين. لهذا فشلت أحزابنا الشيوعية وتهمشت، ولهذا لعبت “البرجوازية الصغيرة” دور التغيير، وقادت المقاومة، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه.
المسألة إذن، هي أن نحدد العدو بدقة لا أن نغلب صراعات أخرى انطلاقاً من تحليلات سطحية، ومواقف ذاتية. ثم أن نعي بأن الصراع الطبقي كما الصراع القومي لا يحسم بالمفاوضات والنضال السلمي، والمطالبة والمناشدة، بل بالمقاومة. هل أطرح موقفاً مخيفاً؟ عند بعض “اليساريين” نعم، لأنهم ينطلقون من التكيف مع السيطرة الرأسمالية الإمبريالية، ويحاولون “تغييرها” عبر نضال “حضاري”، “ديمقراطي” و”سلمي”. لكن تفاقم الصراعات الطبقية والقومية في الوطن العربي تفرض غير ذلك.
***************************
الحرب على غزة من منظور العقل الليبرالي- حوار مع د. كاظم حبيب
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=158663