حول الإسلام: بدل تفسير الواقع بالنصّ، يجب تفسير النصّ بالواقع
سلامة كيلة
عادة ما كان التاريخ يُفسّر، ونقصد هنا التاريخ العربيّ أو الإسلاميّ، انطلاقاً من النصّ القرآنيّ، لكن من الضروري أن يُفسّر القرآن انطلاقاً من التاريخ، من أجل فهمٍ أفضل للتاريخ وللنصّ معاً. لهذا كان من الضروريّ دراسة الإسلام في سياقه التاريخيّ، وفهمه في سياق التطوّر التاريخيّ ذاته.
إنّ الأفكار والأديان هي نتاج التاريخ، وهي التعبير عن الواقع، وبالتالي ليس من الممكن فهمها خارج ذلك.
وإذا كان الإسلام قد نشأ في الجزيرة العربية، فليس من الممكن أن نعزل هذا النشوء عن كلّ التطوّر التاريخيّ في المنطقة المحيطة، من اليمن إلى العراق وفارس، وأيضاً إلى بلاد الشام ومصر. وبالتالي لا يمكن أن نعزل هذا النشوء عن الحضارات التي سبقت، وكان بعضها لازال قائماً، في فارس حيث الدولة الساسانية، وفي بيزنطة حيث الدولة البيزنطية، أي أن لا نعزله عن اليونان وروما، وكذلك الهند والصين. فقد كانت هذه الحضارات تعيش مستوىً متطوّراً، سواء على الصعيد الاقتصادي، أو على الصعيد السياسيّ/ الفكريّ، والحضاريّ عموماً. كما كانت اليمن حضارة قد انهارت للتوّ، تاركة صورة ورديّة تشرَّبها سكّان الصحراء (وكان الكثير منهم قد هاجر منها بعد انهيارها)، لتبدو لهم ” جنّة ” إزاء التصحُّر الذي كانوا يغرقون فيه.
وكانت التجارة هي وسيلة التفاعل الأساسية بين كلّ تلك المناطق. أكثر من ذلك، كان الصراع الساساني/ البيزنطي، الذي كان يفرض انقطاع التبادل التجاريّ بينهما، يجعل من مكّة مركزاً أساسياً يوصل بين اليمن (التي تستورد من الهند ومن فارس) وبلاد الشام ومصر (أي مع الإمبراطورية البيزنطية). ولهذا كانت التجارة مسألة مركزية بالنسبة لمكّة ولقبائل تمتدّ على طول المسافة بين اليمن وتخوم كلٍّ من العراق وبلاد الشام ومصر، حيث كانت تعمل في النقل والحراسة، وأيضاً في النهب. لكنّ هذا النشاط الذي يفرض التواصل مع تلك المناطق كان يحفر عميقاً في الوعي من جهة توضيح المسافة الحضارية بين الجزيرة العربية ببُناها القبلية ووضعها الصحراويّ البائس، وبين تلك الحضارات الزراعية المستقرّة والمتطوّرة، والتي تمتلك “الذهب والفضّة”، وتنعم بـ “أنهار من الخمر والعسل”، وأيضاً تنعم بـ “الحور العين”. وربما كانت “جنّات عدن” هي هذا الواقع، لكنه الواقع المنهار، والذي أصبح بالتالي هو الحلم.
لهذا تبلور حلم هؤلاء في السيطرة على تلك الأراضي الواسعة المحيطة بهم، والغنيّة بكل “الثمرات”. للتنعّم بالخيرات التي تنتجها، وبالتالي وراثة الحضارة القائمة في بلاد فارس والممتدّة إلى العراق، وفي بيزنطة المسيطرة على بلاد الشام ومصر.
بمعنى، أنه يمكن أن نشير إلى أنّ مراكز الحضارة، حيث التطوّر الاقتصاديّ والمجتمعيّ، وحيث النشاط السلعيّ وسيادة النقد (العملة)، وبالتالي التجارة، وحيث الدول المتطوّرة. مراكز الحضارة هذه التي كانت هي المهيمنة، وكانت في صراع تاريخيّ فيما بينها من أجل التوسّع والسيطرة. وحيث كانت الجزيرة العربية تعيش التكوين القبليّ، لكن دون أرض تفيد في الرعي سوى بعض الواحات، وكان التصحّر يتزايد، كما عدد السكان، حيث شهدت الجزيرة تكاثراً بشرياً مهماً. كلّ ذلك كان يدفع القبائل إلى الهجرة إلى المناطق الحضرية (الزراعية)، أو إلى السكن على تخومها، لهذا توسّع الوجود العربيّ في العراق وبلاد الشام وجنوب تركيا الحالية ومصر، وربما أبعد من ذلك.
لكن القبائل لجأت كذلك إلى الإغارة على المناطق الزراعية في غزوات دورية من أجل الحصول على الكلأ. وهذا ما دفع الدولة الساسانية إلى تشكيل دويلة عربية على تخوم الصحراء جنوب العراق (دولة المناذرة)، ودفع الإمبراطورية البيزنطية إلى تشكيل دويلة عربية أخرى في الأردن الحالي (دولة الغساسنة)، لكي تكونا الحاجز المانع لتلك الغزوات. وهذا ما كان يؤسِّس للبحث عن خيار آخر، يقوم على الحلم بالسيطرة على تلك الإمبراطوريات، وحيث كانت في بعض المصادمات معها قادرة على الإيقاع بها. وإذا كانت تلك القبائل تتصارع فيما بينها من أجل الماء والكلأ، وكانت تواجه الصدّ في سعيها لغزو تلك المناطق الخضراء، وعلى التهام حضارتها، فقد كانت تُدفع للبحث عن خيار أفضل، وهذا الأمر هو الذي كان يغذّي المخيال العامّ، ويؤسِّس لـ “التفكير”.
في المقابل، كانت مكّة (وإلى حدٍّ ما الطائف والمدينة) تتشكّل كمركز تجاريّ، وكانت “تتحضّر”، وكان ذلك يُعزِّز من الطابع الزراعيّ للطائف، ويؤسِّس لنشوء فئة “ملاّك الأرض” من المكّيين الذي امتلكوا أرض الطائف بالتحديد. وبالتالي كانتا تتشكّلان في سياق تطوّر حضاريّ، عِبْر تشكيل “ما يشبه الدولة”، وإقامة تكوين إداريّ/ سياسيّ (إلى حدٍّ ما)، وإبرام المعاهدات وإصدار “القوانين”. لكن مكّة تشكّلت كذلك كـ “مركز ثقافيّ/ فكريّ” لكلّ تلك القبائل، وأصبحت “عاصمة الشعر”. وإذا كانت الرحلات التجارية (رحلة الشتاء ورحلة الصيف) تُسهم في نقل “معالم الحضارة” في بلاد الشام ومصر وفارس، فقد كان هروب “المنشقّين” و”المعارضين” من كلا الإمبراطوريتين، الساسانية والبيزنطية، وهم في الغالب مثقّفون وينتمون إلى أديان تعاني الاضطهاد، وخصوصاً اضطهاد الإمبراطورية البيزنطية للدين المسيحيّ، ومن ثَمّ الانشقاق الذي تعرّضت له الديانة المسيحية بعد أن أصبحت ديانة رسمية لتلك الإمبراطورية، ونشوء المسيحية الشرقية. كان هذا الهروب يقدِّم “فئات اجتماعية” تحمل ثقافة البلدان التي هربت منها، خصوصاً وأنها سعت لنشر الديانة المسيحية في مكّة وباقي الجزيرة العربية.
هذا الوضع كان يجعل من مكّة مركزاً لاصطراع الأفكار ولتفاعلها. لكنّ وضع الجزيرة ذاك الذي أشرت إليه للتوّ، كان يُعزِّز الميل لتكوين “دين خاصّ”. وهذا ما أوجد “الحنيفية” التي جرى اعتبارها الشكل الأوّليّ للإسلام، لكنها لم تكن قادرة على تثبيت ذاتها، وبالتالي على النجاح. ما كان واضحاً هو أنّ القبائل تسعى لبناء “مشروعها الخاصّ”، دون أن يعني ذلك أنها كانت تبلوره في أفكار، لكنّه كان يمثّل هاجساً يتحدّد في السيطرة ووراثة كلّ تلك الحضارات. ربما كان قد توضَّح آنئذ ارتباك المسيحية بالنسبة للشرق، خصوصاً بعدما أصبحت دين الإمبراطورية الرومانية/ البيزنطية، ولكن أيضاً لأنها لا تمتلك رؤية لـ “الدنيا”، وكلّ ما تشير إليه هو العودة إلى اليهودية، التي كانت قد أصبحت – في إطار قوانينها وتشريعها – من الماضي. هذا الوضع كان يهيّئ لتطوّر في الدين، مستفيداً من “الوعي الحسّي” الذي انتشر على ضوء التطوّر الحضاريّ، وتطوّر الفلسفة وما بثّته في أركان الحضارة تلك. فقد كانت فكرة الله قد تبلورت أكثر ممّا بدت في المسيحية، حيث ظلّ الاختلاط بين المجرّد (الله) والمشخّص (البشر) قائماً عِبْر فكرة المسيح “يسوع ابن الله”. كما أنّ الواقع كان يفرض تطويراً في كلّ القوانين التي مورست، والتي كانت تتضمّنها الديانة اليهودية، رغم استمرار الالتزام بـ “الوصايا العشر”. ولاشكّ في أنّ الحوارية التي يتضمّنها القرآن، والتي تخصّ التوراة (أو الدين اليهوديّ) هامة وحسّاسة، لأنّ القرآن ينفي ما سقط ويتبنّى ما بقي، وأيضاً يضيف.
إذن، كانت القبائل تبحث عن حلٍّ “جماعيّ” ينقلها إلى الحضارة، أو لنقل إنّها كانت تبحث عن حلٍّ عِبْر السيطرة على الحضارة، التي كانت توحي أنها تتضمّن كلّ ما تريد: أي العيش. ولاشكّ في أنّ هذا الدور، وهذا الطموح، لم يكن استثنائياً، بل هو الدور التاريخيّ الذي أشار إليه العلاّمة ابن خلدون حينما تحدّث عن “الدورات”. وبالتالي كان ترهّل الإمبراطوريات يجعل حلم القبائل في السيطرة ممكناً، الأمر الذي كان يجعلها تتوحّد في صيغة ما من أجل السيطرة ووراثة الحضارة. وهذا ما بدا أنه يتبلور في الجزيرة العربية، وفي مكّة خصوصاً، ويدفع إلى نشوء “دين خاص”. ويمكن أن نشير هنا إلى أنّ المسيحية جاءت في مواجهة الإمبراطورية الرومانية، وللتعبير عن كلّ الفئات المفقرة والمضطهَدة، والمهانة ” قومياً ” (أي سكّان بلاد الشام). لكن الصراع الطبقيّ في إطار الإمبراطورية لم يكن ليحملها ويقودها إلى الانتصار، لهذا ظلّت “مشرّدة” رغم اعتناق فئات واسعة من سكان بلاد الشام ومصر والعراق لها، إلى أن أصبحت هي الدين الرسميّ للإمبراطورية، الأمر الذي دفع الكنيسة إلى الانشقاق بتمرُّد سكّان هذه البلاد (في إطار الخلاف حول التثليث أو التوحيد). وتمرُّدها هذا لم يستطع أن يوصل إلى الانتصار كذلك. وبالتالي لقد بدت وكأنّها الرفض للإمبراطورية فقط دون مشروع بديل، رغم أنها كانت تعيد إلى المشروع الذي جاءت به اليهودية. وبهذا لم تصبح حلم القبائل، التي لامس “مشاعرها” ذاك النغم العميق والهادئ الذي جاء به القرآن.
في هذا الوضع يمكن أن نتلمّس مستويين ممهّدين، أسسا لكلّ الإطار القانونيّ الذي جاء به الإسلام، وربّما كانا الأساس العامّ لمشروع تاريخيّ يعبِّر عن تلك القبائل، ويوضِّح ميلها، ويشير إلى ما تهدف. وهما مدخل البحث في التكوين الاقتصاديّ الاجتماعيّ الذي يحدِّده الإسلام كما هو وارد في القرآن. والبحث في النظام السياسيّ الإسلاميّ. ولكن كذلك مسألة الوعي الذي مهّد لنشوء الإسلام. لهذا لا بدّ من أن نشير إليهما هنا، حيث أنّ القبائل التي زحفت للسيطرة على أربعة أرجاء الأرض كانت تحمل مشروعاً واضحاً، عكس كلّ حروب السيطرة التي قامت بها القبائل قبل ذلك (حتى لدى اليونان والرومان والفرس، لهذا تبنّت حضارة الأمّة المقهورة)، وربّما بعد ذلك. هذا المشروع يقوم على “العصبية العربية” لقبائل الجزيرة ولكلّ القبائل العربية في بلاد الشام والعراق ومصر. وهذا الأمر هو الذي كان يسهِّل السيطرة من جهة، وخلافة الأرض، أي استخلاف الحضارات القائمة ووراثتها من جهة أخرى. وتعبيرا الاستخلاف والوراثة هما تعبيران مفصليان في النصّ القرآني، حيث يتكرّران في عدد كبير من الآيات.
وبالتالي فقد كان القرآن يَعِد العرب بوراثة الأرض، لكن انطلاقاً من التزام الدين الجديد، لأنّ ذلك هو الطريق لذلك. وبالتالي كان هنا يوحِّدهم في إطار المشروع الجديد من أجل أن يصبحوا قوّة قادرة على هذه المهمّة الكبيرة، التي هي في الواقع هزيمة حضارتين كبيرتين: الحضارة الساسانية والحضارة البيزنطية.
لندقِّق في ما ورد في القرآن. تقول الآية “إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون” (سورة يوسف آية 2). ويضيف “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم” (سورة إبراهيم الآية 4). ويكمل “كنتم خير أمة أُخرجت للناس” (سورة آل عمران الآية 110). كلّ ذلك، رغم أنّ الإسلام جاء “للعالم كافّة”. فقد كان هذا التحديد يهدف إلى توحيد المجموعة البشرية التي كانت تعيش ظروفاً متشابهة في الجزيرة العربية، وهم العرب، من أجل نشر الإسلام على العالم كافة. وهذا يؤسِّس لنشوء مستويين: الدعاة/ الحاكمون، والمفتوحة أرضهم/ المحكومون. وهو في هذه العملية كان يبلور العرب ويشكِّلهم في أمّة، ويجعلهم أمّة حاكمة. ويقودهم من أجل نشر الدين الجديد، وبالتالي السيطرة على كلّ المناطق المعروفة لوراثة الأرض. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى “الشعور القوميّ العربيّ” الذي كان يتبلور في الجزيرة العربية، وكان يتوضَّح في مواجهة كلّ من الفرس والروم. كما كان يتوضّح في الميل لتشكيل إمبراطورية جديدة ترث كلّ الإمبراطوريات السابقة.
هذا الطموح هو وعد من الله، حيث يرد في القرآن “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبْلهم” (سورة النور 24/ 55). وسنلحظ بأنّ هذا الاستخلاف مرتبط بصلاحية الإيمان والعمل الصالح، أي بالانتماء إلى الدين الجديد، حيث عِبْر ذلك يمكن توحيد القبائل وتشكيل قوّة ممركزة جديدة قادرة على الحرب والفتوحات من أجل تحقيق ذاك الحلم. وهو هنا يحوّل السيطرة على الأرض إلى مبدأ مقدّس، لأنها وعدٌ من الله، ولأنها تورَّث لعباده الصالحين، “إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون” (سورة الأنبياء 21/ 105). ويؤكِّد “قد أفلح المؤمنون (الآية 1) أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس” (سورة المؤمنون 23/ 10، 11). بمعنى أنّ “الجنّة” التي هي الحلم (وهي جنّة الدنيا)، باتت ممكنة بفعل الإيمان، حيث أصبح الدين الجديد هو أساس تحقيق المشروع الذي هو حلم تلك القبائل.
وبالتالي فإنّ الهدف الأساسيّ تمثّل في تأسيس دولة جديدة. لهذا كان الإسلام دين ودنيا، وربما كان الدين هنا هو في خدمة الدنيا، لكن بفاعلية المقدّس الذي أعطى للمشروع طابعه المطلق وجعله أمرا من الله. هذه العلاقة بين المقدّس والدنيويّ يجب أن تُفهم بوضوح، وأن توضع في سياقها الواقعي. ولهذا لا بدّ من أن يُنظر إلى القرآن، من زاوية، على أنه مشروع مجتمعيّ، ودستور لدولة كانت تتشكّل لكي تحكم أربعة أرجاء الأرض، من الصين إلى الأندلس. وبالتالي أن تُفهم الأحكام والقوانين (الشريعة) على هذا الأساس.
هنا يصبح البحث في ما أضافه الإسلام للتطوّر التاريخيّ مشروعاً، وكذلك ضرورياً. طبعاً هذا يفرض تحديد طبيعة التكوين الاقتصاديّ الاجتماعيّ والسياسيّ (أي تحديد نمط الإنتاج) الذي كان سائداً في كلّ من الإمبراطوريتين اللتين هزمهما الإسلام، وأسَّس إمبراطوريته على أنقاضهما، أي الإمبراطورية الساسانية والإمبراطورية البيزنطية (ربما أيضاً الإمبراطورية الصينية كذلك، وإن لم يستطع هزيمتها)، من أجل البحث في التوافق والتمايز اللذين حدثا مع الإمبراطورية الإسلامية. حيث أنّ الإسلام توافق وتمايز مع الأديان السابقة (اليهودية والمسيحية)، والبحث في ذلك ربّما يكون بحثاً لاهوتياً من جهة (وربما كان ذلك يتعلّق بفكرة الإله تحديداً )، لكن يمكن أن يكون مفيداً فيما يتعلّق بالأحكام (الشريعة ). وهنا تكون المقارنة هي بين اليهودية والإسلام، لأن كلٍّ منهما كان يحمل مشروعاً مجتمعياً، وبالتالي كان يتضمّن التشريع بشكل أو بآخر. وكلّ ذلك مرتبط بالتطوّر التاريخيّ ذاته، الأمر الذي يعيدنا إلى دراسة صيرورة التطوّر المجتمعيّ منذ المشاعة إلى نشوء المجتمع الطبقيّ، وبالتالي آليات ارتقاء المجتمع الطبقيّ، والمراحل التي مرَّ بها، والتمايز في إطار كلّ مرحلة. وما دام “النمط الزراعي” هو الذي أسَّس لنشوء المجتمع الطبقي، أي ما دام العمل في الزراعة وبالتالي الاستقرار في الأرض هو الذي أسَّس لنشوء المجتمع الطبقيّ، فإنّ كلّ التطوّرات كانت تجري على هذا الأساس في كلّ المرحلة السابقة للرأسمالية، هذه المرحلة التي انبنت على أساس نشوء الصناعة.
انطلاقاً من ذلك، يمكن أن نبحث في التوافق/ التمايز الذي تحقَّق مع الإسلام. فالنمط الذي كان يسود في الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية كان قائماً على الزراعة كوسيلة إنتاج أساسية، في إطار سيادة الملكية الخاصة، وبالتالي كان التكوين الطبقيّ يتشكَّل بالأساس من كبار ملاّك الأرض والفلاّحين، حيث الرّيف هو التكوين الأساسيّ، لكن مع نشوء تشكيلات مدينية تضمّ الحرفيين والتجار وكتبة الدولة وموظّفيها الذين كان لهم دور مهمّ في التشكيل الطبقي لهذه الإمبراطوريات. وحيث كان الاقتصاد النقدي/ السلعي هو الذي يسود في الغالب. وكانت السلطة “قيصرية” أو “كسروية”، تقوم على أساس الحاكم/ الفرد الذي يُحوَّل إلى إله، أو إلى خليفة الله في الأرض كما في الإمبراطورية البيزنطية، دون مؤسسات حقيقية (ربما بوجود “برلمان” في الإمبراطورية البيزنطية)، ومع اعتبار البشر رعايا. وكذلك مع وجود العبيد بأشكال مختلفة، ومن خلال نشاطات متعدِّدة، ليس النشاط الإنتاجيّ أساسها، إلا بشكل هامشيّ ربما.
على ضوء ذلك، ما هو التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي جاء به الإسلام؟ وما هو شكل الدولة التي أشار إليها، وأقامها؟ هل أسَّس لنمط جديد، أو طوّر في النمط الزراعي ذاته الذي أقام تكوينه على أنقاضه؟ ربما كانت سياسة الخليفة عمر بن الخطّاب التي أقرّت استمرار القوانين في المناطق التي كانت تحتلّها الجيوش الإسلامية الفاتحة (في العراق وبلاد الشام ومصر)، خصوصاً فيما يتعلّق بالضرائب على الأرض، كما في الإفادة من بنية الدول المنهارة، ما يشير إلى أنّ الإسلام مثَّل استمرارية في هذا المجال، لكن ما هي حدود الاختلاف؟
موقع الآوان