ولما يبرح اليسار الالتباس والترسيمة
فؤاد خليل
كنا ننتظر ان تتخلص الرؤية السياسية والبرنامجية للقاء اليساري التشاوري المنشورة في »السفير« بين ٢٢ و٢٨ تشرين الثاني، من محتبسات النظام المعرفي الماركسي في صيغته المعرّبة التي طغت لدى الأغلبية من قوى اليسار العربي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم؛ وان تقدم جديدا معرفيا متحصلا من إعادة إنتاج الفكر الماركسي من داخل تجربتنا المجتمعية في الطور الراهن للعولمة؛ أي ان يعاد إنتاجه في طور تاريخي تتسارع فيه المتغيرات في مناحي الحياة كافة ليس فقط على المستوى العالمي؛ بل أيضا على المستوى المحلي او الوطني في آن.
طبعا، نحن لا ننشد من رؤية سياسية وبرنامجية ان تكون بحثا أكاديميا موصوفا في جدل العلاقة بين العولمي والمحلي او الوطني؛ لكن لم يعد من الجائز ان يظل اليسار يقرأ في صفحته التراثية وينهل منها أدواته المعرفية في تحليل الوقائع من دون مواكبة مثمرة للمستجدات النظرية التي توصلت اليها علوم الانسان والمجتمع.
لقد نهلت الرؤية من صفحتها تلك مفاهيم الثورة المجتمعية ـ الطبقة ـ الصراع الطبقي ـ الطبقة الطائفية ـ القومية الثوروية ـ القومية الماضوية… الخ. او بمعنى آخر، لقد أخذت بأدوات النظام المعرفي الماركسي في تحليل محاورها، وبخاصة المحورين العربي واللبناني، لكن من خلال نظرة انتقائية غير مبررة. إذ ان ما يلاحظ هنا ولو في قراءة أولية، حضور »التحليل الطبقي« بقوة في ما خص الوضع اللبناني، ومحدوديته اللافتة في ما يتعلق بأزمة حركة التحرر العربي، كما بالتركيبة المجتمعية لليسار بالذات. وعندما يضيق التحليل في الذات »الجمعية المناضلة«، تكون الأزمة قد ضربت في أدواته وأفصحت عن الحاجة القصوى لاعادة النظر في مشروعيتها النظرية والتاريخية..
ثوروية فائضة
واذا شئنا قدرا من النظر التحليلي في باب المفاهيم والأدوات أعلاه، أمكن لنا ان نتوقف عند الآتي:
١ ـ تحمل الرؤية في متنها روحا ثوروية فائضة تتبدى في الحديث المتواتر عن التغيير الثوروي سواء عنت به التحول الديموقراطي الثوروي على طريق الانتقال الى الاشتراكية، او عن الثورة العربية او المهام القومية الثوروية… الخ. وهي روح تعبّر بلا شك عن نضالية نبيلة. لكنها تبدو غير واقعية أقله مرحليا أمام حقائق التحليل الملموس للواقع الملموس على الصعيدين اللبناني والعربي. فالتغيير الثوروي يعبّر كما هو معروف ماركسيا عن شكل تاريخي لحل التناقض البنيوي بين علاقات الانتاج والقوى المنتجة، او لحل التناقضات الطبقية حين تصل الى درجة معينة من الاستعصاء على كل تسوية ممكنة بين أطرافها. ومن المعروف أيضا ان هذا النوع من التناقضات تؤطره وحدة بنيوية لا تتعرض للتفكك او الانحلال في حال تحول مجرى التناقضات المشار اليها الى صراعات سياسية متفجرة.
أما عندنا سواء في لبنان أم في معظم البلدان العربية، فإن التناقضات الطبقية سرعان ما تتحول في لحظة تفجرها، الى صراعات طائفية او اثنية او قبلية. وهي صراعات تجد شكلها التاريخي إما في الفتنة او في الحرب الأهلية. وفي الحالتين يدخل المجتمع في وضع وجودي يتراوح بين نزعات التفتيت والانقسام، او ادارة تفككه البنيوي تحت مسميات الوحدة والتعايش والوفاق.
٢ ـ عند ذاك، لا يعود التغيير الثوروي يجد شرطه الأولي وهو توفّر وحدة بنيوية تؤطر الصراعات وتحفظ تماسكها الداخلي في الوقت عينه. كما لا يعود يجد شرطه الذاتي وهو توفر قوة تغييرية تخترق كل المكونات المجتمعية وبخاصة الديموغرافيا المدينية حتى تحمي نفسها من العزل والتهميش والاقصاء، او من التآكل والنزف الشللي، في حمأة الصراعات الأهلية المدمرة؛ وحتى تشكل في المقابل الحامل المجتمعي التوحيدي بوجه حوامل طائفية واثنية متنابذة.
نموذج عن تجربة
٣ ـ على هذا يظهر ان الرؤية اكتفت بنقل مفهوم الطبقة وتعريبه أي بتحديده وفقا للمعيار الماركسي الكلاسيكي، وهو موقع الطبقة في عملية الانتاج، من دون ان تقوم بإعادة انتاجه معرفيا من داخل تجربتنا المجتمعية الملموسة.
ان العلاقات الرأسمالية في بلادنا تتسم اجمالا بخصائص التبعية والوساطة والريعية، وهي بفعل هذه الخصائص لم تملك اواليات الهيكلية الطبقية الناجزة او شروط تكوين المجتمعي على قواعد طبقية متبلورة. اذ ان جُل ما استولدته هو انقسامات طبقية تتعايش مع اشكال العلاقات المجتمعية التقليدية، كالطائفية والاثنية والقبلية. ذلك ان العلاقات الرأسمالية الريعية او الرأسمال التجاري بحسب ماركس يتعايش مع أكثر العلاقات المجتمعية تقليدية، لا بل مع أكثرها تخلفا. ومع دينامية التعايش البنيوي بين الانتماء الطبقي الحديث (الحداثي)، والانتماء الأولي التقليدي، لا يعود موقع الطبقة في عملية الانتاج يمثل معيارا كافيا لتحديدها، بل تضاف اليه معايير أخرى منها: الدخل ـ الثروة ـ الاعالة ـ المكانة ـ الموقع السياسي ـ الرأسمال الرمزي… الخ. ولعل بعضا من هذه المعايير هو ما يفسّر ظواهر دالة في واقعنا من مثل: ان عاملا يعمل في أحد مصانع المدينة، هو وجيه في قريته بسبب مكانته العصبية داخل التوازنات المحلية؛ وان ميسورا او صاحب ثروة يملك ورشة في المدينة، لا يحظى في قريته بالمكانة التي يحوزها العامل بسبب عدم امتلاكه أي رأسمال رمزي يسيّله في بناء موقع محلي فاعل ومؤثر. انه العامل الوجيه، والمالك غير المرسمل رمزيا. او بمعنى آخر، انه حضور الحداثي في التقليدي والتقليدي في الحداثي؛ او جدلية الانتظام المجتمعي التي تعبّر عن ضرورة بناء أحاديتها البنيوية على الصعيدين النظري والواقعي على حد سواء…
التباس وترسيمة
٤ ـ من هنا نجد ان الرؤية وقعت في التباس نظري حين استخدمت مفهوم الطبقة ـ الطائفة؛ لأن هذا المفهوم يصدر عن ثنائية الحديث والتقليدي. وهي ككل ثنائية أخرى تعيد كل طرف منها الى أحادية بنيوية محددة. أما بالنسبة اليها، فالحديث يحيل الى نمط انتاج رأسمالي (غربي)، والتقليدي الى نمط انتاج سابق على الأول تاريخيا (شرقي). وكلا النمطين ليس متحققين على أرض الواقع في بلادنا. وهكذا، عندما تحاول الرؤية الجمع او التوفيق بين طرفي الثنائية لا تأخذ في الاعتبار حقيقة ان الحداثي والتقليدي الواقعيين لا يماثلان اللذين تنطلق منهما او تفترضهما في عمليتها التوفيقية.
٥ ـ وفي المساق نفسه نجد أيضا ان الرؤية استخدمت مفهوم الصراع الطبقي من خلال ترسيمة نظرية ترى الى الطبقة من منظور ماركسي كلاسيكي، والى المجتمع بوصفه تكوينا طبقيا ناجزا يتأسس على أحادية بنيوية معلومة. لكن دينامية التعايش البنيوي بين الحديث والتقليدي تعكس غياب الأحادية البنيوية عن مجتمعاتنا وتجعل هذه المجتمعات في حالة من التخلّع البنيوي. وهي حالة لا تتساوق مع شروط الصراع الطبقي؛ بل تُضعفه وتأسره في نطاق شبكة من المسارب التقليدية المتنوعة.
هنا، قد يقول قائل: ليس هناك من صراع طبقي صاف او نقي. ونحن نقول هذا صحيح من الوجهتين النظرية والتاريخية. لكن الصحيح أيضا، ان الصراع الطبقي في مجتمعات تسودها أحادية بنيوية، يختلف من حيث قواه ومجراه وما قد يتخذه من أشكال ومظاهر، عن الصراع الطبقي في مجتمعات متخلّعة في تراكيبها البنيوية. فالتناقضات في المجتمعي المتخلّع بنيويا، تستولد شكلها التاريخي في الصراع، وهو »الصراع المجتمعي المركب«. وبوصفه مركبا، قد يعود هذا الصراع الى الزمن التعاقبي. فيستحضر في مجراه عناصر خرافية وأسطورية؛ وصولا الى الزمن التزامني. فيوظف في خدمته أرقى اشكال التكنولوجيا المعاصرة. ومن خلال صفته تلك؛ يتخذ »الصراع المجتمعي المركب« أوجها متعددة ومتنوعة. فقد تتوفر لحظة تاريخية ما، تتيح للوجه الطبقي فيه ان يتقدم على ما عداه من أوجه أخرى (لبنان بين ١٩٦٩ ـ ١٩٧٧). وقد تنشأ لحظة تاريخية مغايرة، يتقدم فيها وجهه الطائفي على سواء من وجوهه المختلفة (لبنان بين ١٩٨٣ ـ ١٩٨٩). وازاء هذا الفهم لمقولة الصراع المجتمعي لا يعود منطقيا القول كما تذهب اليه الرؤية: ان الصراع الطائفي يزيّف الصراع الأساسي أي الطبقي في المجتمع اللبناني ويشوّهه، كأن الصراع لا يكون أساسيا وحقيقيا الا اذا كان صراعا طبقيا. وهذا ما تستبطنه الرؤية لأنها انطلقت من نظام معرفي ماركسي لم تجر إعادة انتاجه في حقل تاريخي مخصوص…
جدلية راهنة
٦ ـ لذلك تركز تحليلها على مستوى ماكروي ـ شمولي حيث تمثّل بالنسبة اليها بالتكوين الطبقي لا بالكل المجتمعي الذي ينتج من التفاعل بين مكوناته الطبقية وغير الطبقية. ولعل هذا ما جعل الرؤية تُعرض بقدر كبير عن مسارات التفاعل الجدلي بين المستوى الماكروي والمستوى الميكروي (المحلي). او بتعبير آخر، تعرض عن اقامة التوازن بين المستويين او الربط بين آليات الكل المجتمعي وآليات البنى الفرعية للمجتمعات المحلية (مدرسية فرنكفورت)؛ من اجل اثراء التحليل بالملموس الحقيقي لعيش الأفراد والجماعات.
ان المجتمع المحلي (او الوطني) ينتظم راهنا في نطاق شبكة من الصلات المعلومة. وهي شبكة تعكس مسارات معقدة من التفاعل في الاقتصاد والسياسة والثقافة. وقد أدخلت هذه المسارات، العولمي في المحلي والمحلي في العولمي. فالاقتصاد المحلي دخل السوق العالمية بعد ان أعيد بناؤه وفق آليات الهيمنة الرأسمالية المعولمة. والدولة المحلية او الوطنية حضرت الى المسرح العالمي؛ بيد ان حضورها في ظل سلطة المجتمع الدولي، اقتطع جزءا من سيادتها الوطنية التي شكلت الركن الأساسي في نشأة الدولة الحديثة. والثقافة المحلية اخترقت مجالات عالمية واسعة؛ وفي الوقت نفسه يُعاد تشكيل مضامينها ومظاهرها بتأثير ملحوظ من الاعلام الفضائي والالكتروني. فوعي الأفراد يجري تشكيله بما ينسجم مع مكونات الخطاب الثقافي السائد عالميا ومظاهر السلوك يتم تنميطها في هيئة متعولمة، وقواعد التفكير تجري قولبتها في دائرة من القصص او السرديات الصغرى التي تأنس الى الشائع والمكرور والسطحي…
لكن هذه الجدلية التي تخفي طغيان العولمي؛ جعلت المحلي يستنبط أشكال حمايته الذاتية من خطر »الذوبان الكلي« في العولمة. فاتخذت أشكاله تلك، إما الانغلاق او الرفض او التفاعل المحسوب، ثم عمد من خلالها الى توكيد ذاته الجمعية او خصوصيته، وبالتالي العودة الى هويته المفردة او الجزئية التي قد تتجسّد بالطائفة او الاثنية او الجهة او الملة او المذهب… الخ.
هذا هو المحلي الذي لم تعتنِ به الرؤية كثيرا عندما اقتصر تحليلها على الماكروي الطبقي، وأعرضت عن تحليل مسارات التفاعل بين المستويات. ومن يدقق في المحلي هنا، يجده متحققا في بلادنا وبخاصة من خلال مظاهر التأكيد على الهويات الأولية للجماعات المفردة. وهي هويات لا تنمو وتزدهر الا على قواعد الاقصاء والتنابذ المتبادلين في ما بينها. ومع غلبة تلك القواعد يطوف في أرجائنا شبح الهويات القاتلة والمدمرة.
قضية مركزية
٧ ـ على هذا الأساس تغدو قضية الهوية الجامعة في الأغلب الأعم من البلدان العربية قضية مركزية بامتياز. ففي مجتمع يعيش حالة من التخلّع البنيوية ويتهدد في وحدته الداخلية، تتحول عملية بناء هويته الوطنية، لمهمة أولى على جدول أعمال القوى السياسية وبخاصة اليسارية منها. والهوية الوطنية تتحدد أساسا بالعروبة. فالعروبة تمثل المشترك البنيوي بين مكونات كل مجتمع عربي، وبينه وبين المجتمعات العربية الأخرى. وما دامت العروبة تمثل مشتركا مجتمعيا؛ فانها تتوفر على شرط تحولها الى رابطة جامعة وتوحيدية تأتلف في داخلها كل المكونات المجتمعية المفردة. وحين تأتلف العروبة مع هذه المكونات، تتسم بالتنوع من داخل الوحدة، أي انها تتسم بالديموقراطية التي تعترف بحق الاختلاف مع الآخر أياً تكن ثقافته الفرعية او هويته المفردة، ما بقي ينتظم في نطاق الرابطة الوطنية الجامعة. وكما تؤلف العروبة هوية وطنية لكل مجتمع عربي، تشكل ايضا هوية قومية مشتركة بين المجتمعات العربية. انها رابطة جامعة تؤطر العام لدى هذه المجتمعات وتأتلف التنوع القائم في ما بينها؛ لأنها تجسّد عناصر المشترك الموضوعي للوجود العربي كله.
على أي حال لن نتوسّع أكثر في تحليل العروبة، الهوية الوطنية والقومية. فذاك ما قمنا به في بحث سابق نشر في جريدة »السفير«. وما أردناه من هذه العجالة هو التأكيد على ان بناء الوحدة الوطنية يشكل مهمة راهنة مطروحة أمام الجميع. وقد يتوقف على تحقيقها المصير الوطني لأكثر من بلد عربي. واللافت ان هذه المهمة لم تشغل المساحة المطلوبة في الرؤية اذ غلبت عليها كما تبيّن، المهام »الطبقية الثوروية«. فانعكس ذلك في حديثها عن القومية الثوروية ضداً على القومية الماضوية، او عن التوحيد القومي الثوروي؛ وكأن القومية تتحدد فقط بطبقة او تحالف طبقي تسيطر عليه قوى التغيير الثوروي، بينما هي ظاهرة مجتمعية تتعدى الطبقة الى جميع مكونات الكل المجتمعي…
العلم يكون بالحاضر
٨ ـ قد يساعد ما عرضناه آنفا الرؤية على ان تعيد النظر في تحليل محوريها العربي واللبناني، وان تتخذ منحى واقعيا حيالهما كما ذهبت الى حد بعيد في تحليلها للوضع الدولي. وهي لن تفلح في ذلك ان لم تصقل أدواتها المعرفية حتى تُخفض من منسوبها الثوروي الفائض، وتعقلن استشرافها المستقبلي؛ ومن ثم كي تتواضع في صوغ برامجها من منطلق الحقائق المجتمعية الراهنة لأن العلم لا يكون الا بالحاضر حتى وان امتد الى الماضي او نزع نحو المستقبل.
أما في ما خصّ مضمون اللائحة البرنامجية لليسار، فذاك ما يقع في باب حديث آخر…
([) كاتب لبناني