قضية فلسطين

نحن مستباحون من المحيط إلى الخليج

الياس سحاب
عندما أنهت معاهدة كوتاهية (في العام ١٨٣٣)، زحف محمد علي الظافر باتجاه عاصمة السلطنة العثمانية، وأعادته الى داخل حدود مصر، لم تغمض عيون مسؤولي الخارجية البريطانية، قبل أن ترسل مبعوثا استراتيجيا، ذا رتبة عسكرية رفيعة، الى المنطقة العربية، ليدرس بالعمق والتفصيل كل عناصر ظاهرة هذا التمدد العربي الاستراتيجي الخطر من مصر الى تخوم عاصمة السلطنة العثمانية، لتحديد أسباب نجاح هذا التمدد الاستراتيجي الخطر، ودراسة أنجع وسائل منع السماح لهذه الأسباب بتكرار الظاهرة مرة ثانية. وكان أقصى ما أسفرت عنه هذه البعثة، اقتراح إنشاء وطن لليهود في فلسطين، حاجزا بين مصر من جهة، وبقية بلدان وأقاليم المشرق العربي من جهة اخرى.
لكن هذه الأحلام الاستراتيجية القديمة، لم تكن تتمنى في أقصى طموحها ومطامعها في منتصف القرن التاسع عشر، الحصول على ما يحصل في العام الثامن من القرن الواحد والعشرين، على معبر رفح، بين مصر وقطاع غزة الفلسطيني.
وعندما أبرمت دولة الكيان الصهيوني في العقد الثامن من القرن العشرين، صك خروج مصر من لب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، في مقابل إعادة سيناء (منزوعة السلاح)، كان أقصى ما كانت تطمع به الدولة الصهيونية العنصرية، التحكم بحدود قطاع غزة، الشمالية، من جهتها، ولم تكن تحلم بأن تفرض في يوم من الأيام شروطها الاحتلالية، على الحدود الجنوبية لقطاع غزة، الفاصلة بين القطاع وأكبر الدول العربية، مصر.
لكن معبر رفح في مطلع العام التاسع من القرن الواحد والعشرين، يتجاوز حتما طبيعته الجغرافية معبراً حدودياً بين غزة ومصر، وينتصب حاجزا تاريخيا بين الإرادة السياسية لشعوب الأمة العربية من المحيط الى الخليج (التي تريده مفتوحا)، والإرادة السياسية لأنظمة الحكم العربية الرسمية (التي تبقيه مغلقا).
تأتي كل هذه النتائج ـ برأيي ـ متجاوزة بكثير أقصى طموح أشد المتفائلين من المؤسسين النظريين والعمليين لمشروع دولة إسرائيل.
فالهدف التاريخي الأساسي للمشروع، كان حاجزا بين مصر وبقية بلدان المشرق العربي. حاجز يمنع اتصال ما ليس في مصلحة الدول الأجنبية الطامعة بالمنطقة أن يتصل.
وتم النص على إنجاز المشروع، في قرار الامم المتحدة الشهير (قرار التقسيم)، باقتطاع ستة وخمسين بالمئة من أرض فلسطين التاريخية، لتأسيس الكيان الصهيوني عليها.
لكن مسيرة نجاح المشروع الاستعماري تسارعت بعد ذلك بوتيرة مذهلة:
ـ ففي حرب ،١٩٦٧ استكمل احتلال كامل تراب فلسطين التاريخية، إضافة الى أراض عربية إضافية في مصر (سيناء) وسوريا (الجولان)، وبعد ذلك الجنوب اللبناني.
لكن دهاقنة المشروع الاستعماري الطويل النفس، اشتروا بإعادة سيناء منزوعة السلاح، كل محطات النجاح المذهل للمشروع، بعد ذلك:
ـ أنهت مصر الرسمية (على الأقل)، حالة العداء بينها وبين إسرائيل، فلم تنفصل فقط عن المشرق العربي بالحاجز الإسرائيلي، بل خرجت من الصراع وهو لا يزال في عز احتدامه، بدليل أن اتفاقية كامب دافيد وقعت، بينما فلسطين كلها تحت الاحتلال، أرضا وشعبا، إضافة الى تشريد بقية شعبها الذي هجر على دفعتين (١٩٤٨ و١٩٦٧)، في الشتات العربي والعالمي، وخرجت دولة الاردن العربية رسميا من النزاع، ايضا وهو لا يزال في عز احتدامه (باتفاقية وادي عربة)، وهي صاحبة أطول حدود عربية مع فلسطين المحتلة.
ـ أثبتت التحولات السياسية التي تمت بعد ذلك بمجملها، وبحصيلتها العامة (رغم وجود محطات متفاوتة فيها) أن المشروع الصهيوني الاستيطاني تجاوز بعد ذلك الاستيلاء بالاحتلال والاستيطان على كامل فلسطين التاريخية، وطرد نصف شعبها وإخضاع النصف الآخر، كما تجاوز مجرد إقامة حاجز بين مصر والمشرق العربي (الهدف الأساسي للمشروع)، بالبدء بتحييد قطرين عربيين أساسيين في الصراع، وهو في عز احتدامه، والتفرغ لاستكمال تهويد واستيطان ما تبقى من أرض فلسطين، وسحق شعبها، جماعات وأفرادا، تمهيدا للإخضاع النهائي الكامل.
غير أن التدهور العربي، والنجاح التاريخي المذهل للمشروع الصهيوني ـ الاستعماري، لم يكتف بالتوقف عند هذه الإنجازات التي فاقت أحلام مؤسسي المشروع الأصلي في القرن التاسع عشر، فإذا بالكيان الصهيوني ينتصب بواقعه الإقليمي، ومحيطه العربي الرسمي المهترئ، وتحالفاته الدولية الذكية والفعالة، عملاقا استراتيجيا إقليميا يفرض إرادته السياسية (رغم كل مشكلاته البنيوية الداخلية) على الارادة السياسية العربية الرسمية، المتمثلة بجامعة الدول العربية، التي كشفت عن آخر أوراقها عندما تنصلت مما يجري في غزة، وحوّلته الى مجلس الأمن، وهي تعرف مسبقا تاريخ قرار النقض الأميركي (الفيتو) في هذا المجلس، في حماية عدوان اسرائيل وتوسعها، بشكل خاص.
نحن العرب لسنا مستباحين في قطاع غزة فقط ومعبر رفح فقط، إننا مستباحون من المحيط الى الخليج، إقليما هائلا من المساحات الجغرافية العربية الشاسعة، والكثافة البشرية بمئات الملايين، وفوائض الثروات النفطية الخيالية، لكنه إقليم منزوع الإرادة السياسية في قمة أنظمته السياسية.
إنها بلا شك، الذروة المتأخرة (ولكن الناضجة) لهزيمة ،١٩٦٧ وعبور ١٩٧٣ المجهض. إنها النهاية الفاجعة لعصر كامل، وصــل الذل فيه الى أقصى حدود العجز السياسي الرسمي، والتفجع السياسي الشعبي، الذي يملأ الارض ضجيجا غاضبا بين المحيط والخليج، لكنه لا يملك من أمره أكثر من التفجع والغضب، حتى إشعار آخر.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى