الحرب بين المستقبل والماضي
سمير كرم
كل الحروب ـ من زاوية ما ـ هي حروب بين المستقبل والماضي.. ودائما مهما طال الأمد ينتصر المستقبل. هذه طبيعة الأشياء ومنطق الحياة.
والحرب الدائرة الآن بين فلسطين وإسرائيل هي أيضا حرب بين المستقبل والماضي.
الطرف الفلسطيني فيها يحارب من أجل المستقبل.
وإسرائيل هي الطرف الذي يحارب من أجل الماضي.
هذه معادلة واضحة لا تحتاج الى فلسفة أو تفلسف. ففلسطين تحارب من أجل مستقبلها.. من أجل ألا تبقى أسيرة حاضر حاصرتها فيه إسرائيل من ناحية وحاصرتها فيه ـ من ناحية اخرى ـ النظم العربية بل الواقع العربي المحيط بها.
أما إسرائيل فهي تحارب من أجل أن يبقى لها كل ما هو لها الآن. إنها لا تريد أن تعود الى احتلال غزة لان الماضي في الحرب مع الفلسطينيين لقنها درسا لا تستطيع أن تنساه أو تغفله بأن لا مستقبل لها في هذا القسم من فلسطين في وجود المقاومة العازمة على استعادة فلسطين.
المقاومة تحارب من أجل مستقبل فلسطين .. والمستقبل يعني الدولة الفلسطينية ونوعيتها ونظامها وقدراتها .. وان بدا أن المقاومة تحارب بأسلحة لا يمكن اعتبارها أسلحة مستقبلية بالمقارنة مع أسلحة إسرائيل ـ أميركا، فإن هذا قد يدفع الى استنتاج بأن الأسلحة هي التي تحدد نتائج الحرب ولا شيء غير الأسلحة. وهذا استنتاج خاطئ برمته.
دولة اسرائيل تخوض هذه الحرب والأمر الواقع هو أقصى طموحها، وهي لا تريد أن تغيره. تريد أن يبقى هناك فلسطينيون بدون فلسطين .. مجموعات مشرذمة لا كيان موحدا لهم ولا تصور واحدا للمستقبل. ودولة لا يتجاوز طموحها الأمر الواقع لا تستطيع أن تعرف قدرة من يحارب من أجل مستقبل مختلف يتجاوز الامر الواقع. وبالتالي لا تستطيع أن تتصور كيف يمكن أن يهزمها بقدراته غير الموازية، بل لا تستطيع أن تقتنع بأن هزيمتها حتمية كحتمية انتصار المستقبل على الامر الواقع.
كل ما يتعلق الآن بالقضية الفلسطينية، وتحديدا بسبب هذه الحرب، ولأسباب تكوينية عديدة، من التاريخ الى الانجازات والإخفاقات، يشير الى ان المقاومة تحارب في بيئة إقليمية وفي بيئة دولية مهيأة لمستقبل فلسطين بل تهيئ لمستقبل فلسطين .. فمن يستطيع الآن أن يغفل الاختلافات الشاسعة بين مواقف العالم ـ ذلك التعبير المجرد عن مجموع القوى المتوائمة والمتصارعة على المسرح الدولي السياسي والاستراتيجي والثقافي ـ كما هي الآن إزاء فلسطين والقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية، وكما كانت قبل عشر سنوات، وكما كانت قبل عشرين سنة … وما كانت قبل خمسين أو ستين سنة؟
كل الدلائل تشير الى أن العالم مهيأ بكامل وعيه الإنساني لتلقي المستقبل الفلسطيني وقبوله ومد الأيدي اعترافا به. العالم الآن معني مباشرة وبكل وعي بمستقبل فلسطين. دلت على ذلك التظاهرات التي عمت الدنيا طوال الفترة منذ بدأت هجمة الأمر الواقع الإسرائيلي على احتمالات المستقبل الفلسطيني. وهنا لا يهم أبدا اذا كان هناك بين حكام العالم ـ من العرب وغير العرب ـ من لا يعتقد أن التاريخ والمستقبل يصنعه هؤلاء الذين انتظموا في التظاهرات معبرين عن اتجاهاتهم وتوجهاتهم ضد حكامهم وحكام الآخرين.
هذا الاعتقاد الذي يحاول أن يطفو بعدم جدوى التظاهرات إنما ينم عن موقف آني يفتقر الى النضج ويتسم بقصر النظر … لان الذين يصنعون التاريخ هم هؤلاء أنفسهم الذين يخرجون معبرين عن رؤيتهم للاتجاه المستقبلي الصحيح للتاريخ، بجرأة لا يخشون ما يمكن أن يفعله الحكام، لا يعودون يتصورون أهمية لما يمكن أن يلحق بهم كأفراد.
وكل الدلائل تشير ـ في الوقت نفسه ـ الى أن النظم الحاكمة العربية ترتكن الى الامر الواقع حتى وهو يتدهور وينهار، وهي لا تملك تصورا للمستقبل، بل انها لا تطيق فكرة مستقبل فلسطيني ينتج من حرب شعبية ثورية مهما كان اتجاهها دينيا أو يساريا أو مزيجا طبيعيا بين التيارين.
انتصار المستقبل الفلسطيني يشكل بالنسبة للأنظمة العربية الحاكمة عاصفة تغيير لا توقف إسرائيل فحسب بل ربما تسقطها كلية، وتطيح هذه الأنظمة ذاتها المتعلقة بالماضي الى حد لا تمانع معه أن تنحاز لإسرائيل والولايات المتحدة ضد المقاومة الفلسطينية، عن طريق خلق كل الذرائع القائلة بأن المقاومة ضد الفلسطينيين وضد العرب، وخاصة القريبين جغرافياً من أرض الصراع.
ومدى الرؤية لدى الأنظمة الحاكمة العربية قصير الى حد لا تستطيع معه أن ترى لأبعد من الارقام اليومية لأعداد الضحايا في الحرب التي يخوضها الفلسطينيون. على أساسها يتصورون نتيجة للحرب أكثر مدعاة لاطمئنانهم الى أن الارتكان الى قوة اسرائيل الاميركية يعطي بحد ذاته أفضل النتائج. لا يتجاوز مدى الرؤية لدى الأنظمة العربية الحاكمة حساب الخسائر البشرية والمادية، ولهذا فإن تقديرها لما يمكن أن يسفر عنه سفك دماء الفلسطينيين من نتائج هو بدوره قصير المدى ولا يشمل رؤية انعكاسات كل هذه التضحيات على وجودها ذاته وعلى ثباتها.
مدى الرؤية لدى الأنظمة العربية الحاكمة لا يسمح لها بأن ترى أبعد من الامر الواقع الفلسطيني والعربي. وفكرتها عن الامر الواقع الاسرائيلي ـ الاميركي محصورة في مدى خطورة الأسلحة المتطورة ومدى الاستعداد الأميركي لمواصلة دعم الدولة اليهودية وتمويلها وتسليحها… حتى وأميركا موشكة على الإفلاس وإسرائيل لا تجد لها بدائل عن الدعم الأميركي وبمستواه. وفي مدى الرؤية هذا لا يوجد إلا احتمال واحد في نظر الأنظمة العربية الحاكمة وفي وعيها، لما يمكن أن تنتهي اليه الحرب الفلسطسنية ـ الاسرائيلية، أي حرب بين فلسطين واسرائيل في أي وقت وتحت اية ظروف، وهذا الاحتمال الواحد هو ان تكون الغلبة لإسرائيل القوية المتطورة التي لا تخضع لضغط ولا يهمها قانون دولي أو عرف إنساني.
بمعنى ان الانظمة العربية لا تستطيع أن ترى بديلا عن سياستها القائمة على ثلاث قوائم هي: الخوف المطلق من اسرائيل ـ أميركا، والتشبث بالحكم بالشروط والاوضاع الراهنة والتعهد بالوقوف في وجه من لا يردعهم هذا الخوف … وان كانت ثلاث قوائم لا تضمن ثباتا أو استقرارا لكراسي السلطة. تضمن فقط اهتزازا مستمرا وإنذارا لا ينقطع بقرب السقوط.
لا يستطيع قادة الأنظمة العربية الحاكمة أن يتصوروا إلا هزيمة فلسطينية أمام القوة الاسرائيلية ـ الاميركية … واذا وقعت مثل هذه الهزيمة مؤقتا أو تكتيكيا تصوروها نهاية المطاف وخاتمة أحزانهم. أما ان المقاومة الفلسطينية قادرة على استئناف الحرب ومواصلة التضحية فهو تصور وحساب مستبعد ولا يخطر على بال الحكام. لقد بنوا على هذا الأساس حاضرهم وواقعهم، واستطاعوا على مدى ستين عاما منذ النكبة حتى الآن أن يقنعوا أنفسهم بأنه الأمر الواقع الوحيد الممكن … حتى بينما كانت الثورة الفلسطينية تولد وتقوى ثم تتحدى، وحتى بينما مستقبل فلسطين يتحول من قضية تهز وجدان العرب الى قضية عالمية تخرج من أجل نصرتها الجماهير بالملايين تدين اسرائيل ـ أميركا وعرب الحكم.
إن ستين عاما من الثبات في وجه القوة العسكرية الاسرائيلية ـ الاميركية تعني بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في مراحل تصاعدها المختلفة تأكيدا على إمكانية تطوير المستقبل وتفتيت الامر الواقع المرفوض … وتعني هي نفسها بالنسبة للأنظمة العربية الحاكمة عمرا ضائعا في الهباء واللا مجدي، وظهر أخيرا تعبير العبثية في مواجهة أسلحة أميركا ـ اسرائيل القوية المتطورة التي لا تقهر. وهذه ان كانت قد خابت مرة في لبنان في صيف ٢٠٠٦ فإن »واقع المقاومة الفلسطينية شيء وواقع المقاومة اللبنانية شيء آخر«.
والحقيقة أن الواقع في الحالة اللبنانية لم يبد للحكام العرب أنفسهم في حينه شيئا آخر أو ممكنا طوال استمرار حرب حزب الله الايام الاربعة والثلاثين. وقد وجدوا أن من المناسب للأمر الواقع أن ينضموا الى تحالف أعداء حزب الله، لان الاسرائيليين ـ الاميركيين أقنعوهم بأن ما هو خطر على اسرائيل الى هذا الحد لا بد أن يكون خطرا بالمثل عليهم … على النظم العربية الحاكمة.
بهذا المنطق ـ وبمنطوق واعتراف وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني عندما كانت في باريس في اليوم الثالث من الحرب على غزة ـ ادعت اسرائيل أنها تخوض حربها ضد حماس ليس لان حماس خطر على إسرائيل وحياة الاسرائيليين، بل لأنها »خطر على الفلسطينيين، بل وخطر على العرب«.
لا يحتاج أي حاكم عربي لان يعلن تأييده لهذه المعادلة أو هذه الصيغة الاسرائيلية .. ان سلوكياتهم من اليوم الاول كشفت ولا تزال عن اقتناعهم بهذا المنطق، الى حد يوازي بل يتجاوز حد اقتناع الولايات المتحدة واقتناع الاتحاد الاوروبي.
ومنطق المقاومة ببعديها الفلسطيني في حرب غزة والجماهيري في حرب جماهير العالم ضد هذه الحرب يؤكد أنه ليس باستطاعة الأنظمة العربية الحاكمة أن تكون إلا في صف من يحارب من أجل الماضي ومن أجل الامر الواقع. إنها لا تستطيع أن تكون طرفا في حرب المستقبل لأنها لا تنتمي اليه لا بفكرها ولا باستعداداتها وقدراتها.
على سبيل، وليس أبدا على سبيل الحصر، فإن النظام الحاكم المصري في الوضع الذي اختاره لنفسه تمترس ضد حرب المستقبل تماما. وقف مع الماضي، بل انه وقف مع أسوأ تجليات الماضي.
لقد تناوب على حكم مصر منذ نكبة فلسطين قبل ستين عاما ملك وأربعة رؤساء لم يختر أي واحد منهم إلا الأخير على الرغم من اختلاف توجهاتهم أن يحدث الشعب المصري بخطاب ضد المقاومة الفلسطينية. هذا ما يفعله النظام المصري الآن وبلا مواربة.
واختيار الخطاب بالنسبة لهذه القضية اختيار لا يمكن اعتباره أقل من مصيري. الامر الذي يعني أن النظام يعبر عن ثقة مطلقة بقوة الأمر الواقع الاسرائيلي وقدرته على أن يهزم المستقبل الفلسطيني، وبأن السلاح الاسرائيلي الاميركي أمضى وأقدر على تثبيت الامر الواقع الاسرائيلي الاميركي وتثبيت النظام العربي الرسمي المؤلف من حكام المنطقة العربية، وإلغاء المستقبل الفلسطيني من جدول الاعمال العالمي الرسمي والشعبي على السواء، فضلا عن برنامج عمل المقاومة الفلسطينية ذاتها.
[[[
قد يستطيع النظام المصري ـ ومن يسير في ركابه من النظم العربية ـ أن يجد متنفسا من وطأة أزمة هذه الحرب عليه كلما تصاعدت أعداد »القتلى والجرحى« الفلسطينيين … فهو يهوى كثيرا في الدفاع عن مواقفه تعبيرات »ألم أقل لكم؟« ـ ألم أحذركم؟« ـ »ألم تضربوا عرض الحائط بتحذيراتي؟« ـ »هذا ما توقعته وهذا ما لم تصدقوه«… ولكنه لا يحب أن يعرف أن المقاومة كانت تعرف وتحسب الاحتمالات ربما بدقة لا تخطر على بال الحكام.
كل ما في الأمر أن المقاومة لا تخاف تقديم التضحيات ولا تدع مجالا لحساب التكاليف أن يوقف المقاومة أو حتى يعرضها للتردد.
لهذا تنتصر المقاومة مهما بلغت التضحيات.
لهذا ينتصر المستقبل مهما كانت قوة الماضي والأمر الواقع.
([) كاتب سياسي عربي من مصر