بين الاجتياح البري وأهداف المذبحة….. قضايا كثيرة!
فايز رشيد
ما من كاتب في هذه المرحلة الدامية من حياة القطاع، إلا ويشعر بتزاحم القضايا وثقلها في رأسه، انطلاقاً من أسئلة كثيرة يصطدم بعضها ببعض، وانطلاقاً أيضاً من قضايا كثيرة عديدة التشعبات، ومختلفة العناوين…… والحصيلة هي حشر الكثير من هذه العناوين في مقالة واحدة، وبخاصة أن إطلالة الكاتب على قرائه محدودة بأيام لا ينفع معها الاستفراد بقضية واحدة دون الأخريات، فهذه كلها تقف على المستوى نفسه من الأهمية.
من زاوية إمكانية الاجتياح البري الصهيوني للقطاع في ظل تصريحات القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين باستمرارية عدوانهم لأيام ولأسابيع عديدة، فإن الاجتياح الذي كان صعباً في حرب تموز ٢٠٠٦ على لبنان، هو متوقع في حالة غزة، نظراً لأن الأهداف الإسرائيلية في كل من الحربين وإن تشابهت في استراتيجيتها، لكنها تظل مختلفة في بعض تفاصيلها، ولأن الطبيعة التسليحية للمقاومتين: اللبنانية والفلسطينية، مختلفتان، مما يجعل من الاجتياح في الحالة الأخيرة إمكانية واقعية، وقد يكون شكل الهجوم البري الإسرائيلي في القطاع بعيداً عن التقليدية، ووفقاً لما تقوله بعض التقارير العسكرية: دخولاً على أيدي قوات خاصة تجتاح في اختراقات محددة بأهداف محددة، عنوانها: إنهاء ظاهرة إطلاق الصواريخ من القطاع.
لذا على فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة ألا تنخدع ببعض الأضاليل التمويهية الإسرائيلية مثلما حصل قبل توجيه الضربة العسكرية لمؤسسات حماس، ذلك أن التضليل الإسرائيلي مورس في عام ١٩٦٧ وفي حرب لبنان عام ١٩٨٢ وفي العدوان الأخير على غزة.
الهدف الإسرائيلي في إنهاء ظاهرة إطلاق الصواريخ الفلسطينية ليس قدراً، وبالصمود
والإرادة وحتى بالأسلحة البسيطة المتوافرة، يمكن إفشاله، وبخاصة أن تداعيات العدوان الصهيوني على قطاع غزة، آخذة في الاتساع مثل كرة الثلج على صعيد الشعوب العربية والإسلامية بالشكل الذي يسبب المزيد من الإحراج لحكومات هذه الدول، والتداعيات امتدت أيضاً إلى الدائرة الدولية، هذا ما يسبب المزيد من النقمة والإحراج لإسرائيل، في ظل الحقيقة المؤكدة: صعوبة استمرار إسرائيل في حرب طويلة، حتى وإن كانت هي المتحكمة فيها.
ما فات يحتم على كل الفصائل الفلسطينية يمينها ويسارها، الخروج من حالة الانقسام الراهنة (باعتبارها عامل إضعاف لكل الفرقاء) والعودة بالوحدة الوطنية إلى أسسها السليمة واشتراطاتها، مثل ضرورة إنشاء قيادة عسكرية واحدة من مختلف الأذرع المسلحة للفصائل في القطاع من أجل التنسيق العسكري لمواجهة كل الاحتمالات الممكنة، وإنشاء المرجعية السياسية الواحدة المشكّلَة من كل الفصائل، ولا معنى للامتناع عن حضور الدعوات واللقاءات الوطنية وحدودية التوجه، وبخاصة بعدما أوقفت السلطة مفاوضاتها مع العدو الصهيوني في ظل استمرار العدوان، فالوقت لا يسمح بالتفرد والاستفراد في القرار الوطني، والهدف الصهيوني من المحرقة في القطاع يظل أولاً وأخيراً: استهداف الشعب الفلسطيني بكامله مع الخصوصيات القائمة بشكل السلطة ومضمونها ومحتواها في القطاع.
هذا هو الهدف الآني من العدوان الصهيوني على غزة، أما الأهداف الاستراتيجية فتمثل في ما يلي: تمرير التسوية وتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، بالتصور الإسرائيلي، أي: لا لحق العودة، ولا لسحب المستوطنات، ولا للانسحاب من كل أراضي عام ،١٩٦٧ والقدس ستظل العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الفعلية، والوصول بالشعب الفلسطيني إلى حالة يرفض فيها المقاومة العسكرية باعتبارها (تحمل المعاناة والعذابات والتضحيات الكثيرة، والجوع والمرض والموت نتيجة للحصار).
هذا ملخص أهداف إسرائيل من مذبحتها في غزة.
من زاوية أخرى، فإن أكثر ما يثير القرف والاشمئزاز تلك الكتابات والتحليلات السياسية التي تذهب بعيداً في خيالها، وتحمل حركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية، المسؤولية عن مذبحة إسرائيل القائمة في القطاع، ذلك باعتبار إطلاق الصواريخ البدائية هو السبب! ألم يسأل أصحاب هذه التحليلات أنفسهم، هل إسرائيل بحاجة إلى مبررات من أجل اقتراف المذابح وارتكاب كل أشكال العدوان على الفلسطينيين والعرب؟ وهل كان التاريخ الإسرائيلي منذ ما قبل إنشاء الدولة الصهيونية، وما بعد ذلك، وحتى اللحظة، تاريخاً بريئاً، وأن كل الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد العرب مبررة؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟ ومن أبشع الأصوات الناعقة، ما كتبه فؤاد الهاشم في عموده في جريدة الوطن الكويتية (الاثنين، ٢٩ ديسمبر الحالي) بعنوان (بالكيماوي يا أولمرت) مستدعياً في تزوير شديد وتشفّ حقيقي، شعاراً ينسبه إلى الفلسطينيين، حين اجتاح صدام حسين الكويت وأنهم قالوا آنذاك: (بالكيماوي يا صدام……. من الكويت للدمّام)، ذلك منتهى الكذب والحقارة وكل السفالة.
ولكن ……. هل يمكن الخروج من المأزق؟ بالطبع يمكن إذا ما توافرت الإرادة والصبر على المعاناة وتحمل التضحيات، وإذا ما خرجت الفصائل الفلسطينية من حالة الانقسام، وتلبية اشتراطات الوحدة الوطنية، وإذا ما أعيد الاعتبار إلى المقاومة من بعض القوى التي راهنت على المفاوضات، والتي أثبتت تجربة عقد ونصف العقد منها، عقمها وفشلها في جعل العدو الصهيوني يعترف بأي من الحقوق الفلسطينية، وإذا ما توحد الخطاب الفلسطيني اعتماداً على الثوابت والحقوق الفلسطينية، كل ذلك إن تم، فهو سيعيد الألق للمشروع الوطني وللقضية الفلسطينية.
إن أحد أهم اشتراطات الخروج من المأزق هو إعادة الاعتبار للتلاحم مع العمق الوطني الشعبي العربي، باعتبار الخطر الصهيوني لا يستهدف الشعب الفلسطيني وفلسطين فقط، بل كل الأمة العربية مجتمعة. أما من زاوية النظام الرسمي العربي. فلا أقل من إعادة النظر في المبادرة العربية (للسلام)، فقد أثبتت حرب تموز ٢٠٠٦ والعدوان على غزة (ديسمبر ٢٠٠٨) خطأ الاستراتيجية العربية في المبادرة، فإسرائيل لا تريد السلام مع العرب أو مع الفلسطينيين، بل تريد انصياعاً عربياً لإملاءاتها. ولا أقل من إعادة النظر (من الدول العربية التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل) في هذه العلاقات، وطرد السفراء الإسرائيليين من عواصم هذه البلدان العربية، واستدعاء السفراء العرب من تل أبيب. ولا أقل من استعمال كل الوسائل الاقتصادية والجهود السياسية للضغط على الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي لإسرائيل، ولا أقل من وقفة عز وكرامة مع الشعب الفلسطيني، ولتفتح بوابة رفح لكسر الحصار عن الفلسطينيين. في السياق نفسه يتوجب أن يجري الفلسطينيون (في الوقت المناسب) مراجعة شاملة لمرحلة أوسلو وما بعدها، ولا بد من إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في الوطن والشتات، وأن تتمثل كل القوى الفلسطينية في المنظمة ومؤسساتها وفقاً للتمثيل النسبي.
بالطبع، من الصعب القول بفشل إسرائيل في عدوانها وسط ظروف العدوان، لكن كثيرين من الكتاب والمعلقين السياسيين الإسرائيليين يتوقعون هذا الفشل، منهم: يغئال سيرينا في (هآرتس ٢٨/١٢) فيقول: لن ينشأ أي حل من السحق ومن القصف ومن الهجوم، فلا يوجد في التاريخ أي مثل على انتصار سلاح جو على شعب آخر، ومنهم: جدعون ليفي (في عدد الصحيفة نفسه) فيقول: دم سيراق الآن مثل المياه، غزة المحاصرة والفقيرة مدينة اللاجئين، ستدفع الثمن الأساسي، غير أننا سندفع الثمن أيضاً، والدم عندنا سيراق، وغيرهما، وغيرهما.
باختصار، فإنه ليس أمام شعبنا، سوى الانتصار أو الانتصار وإفشال الأهداف الإسرائيلية. مما لا شك فيه، أن حركة سياسية سواء من الولايات المتحدة أو عبر وساطات أخرى ربما أوروبية وعربية، ستحاول الالتفاف وإلزام الفلسطينيين بالتهدئة مقابل فتح جزئي للمعابر، على الفصائل الفلسطينية الحذر من هذه المحاولات، فلا تهدئة مع الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية.
يبقى القول: إن الأصوات الكثيرة التي تساوي بين الطرفين: إسرائيل والفلسطينيين من خلال دعوة الطرفين إلى وقف العنف، هي أصوات مضللة، فلا مساواة بين المحتل والضحية، ولا توازن مطلقاً في ما يملكه الطرفان من أسلحة، فإسرائيل المزنّرة بأحدث الأسلحة هي المعتدية والمحتلة لأراضي الغير، وشعبنا هو المعتدى عليه، وهو الذي يقع تحت الاحتلال. ومثلما كان النصر حليفاً للمقاومة اللبنانية في عام ،٢٠٠٦ فإن النصر سيكون حليف شعبنا في رد العدوان الصهيوني على غزة.
([) كاتب فلسطيني