قاتل تسلسلي
عناية جابر
بدا الأمر وكأن تامـــــر المسحال مراسل ‘الجزيرة’ من مُجمع الشفاء (المستشفى الوحيد في غــــزة الآن) يوقــــن مُســــبقاً، أن عاديات قتل الإسرائــيليين للأطفال الفلسطينيين لن تقتلني.
بلى تامر، أنا قُتلت أيضاً! سأل تامر أحد الآباء الغزاويين وهو يحمل طفلته القتيلة بين يديه : إيش إسمها هادي؟ أجابه الأب هادي: ‘كان’ اسمها يارا.
منذ بدء العدوان الهمجي على الناس في غزة، وانا أُغالب رغبتي في الكتابة عنها. أتجنب فخ الكتابة ثانية عن حفلات قتل الأطفال الذي يحدث فيّ كما يحدث فيهم. أحتاج الى المسافة عن الموت لأكتب فيه وأحتاج الوقوف على رجلي أولاً للذهاب الى الكتابة.
من المؤكد أن إسرائيل بما نراه ورأيناه دائماً، هي ‘قاتل تسلسلي’ لن يكف عن القتل ويستهويها فيه الأطفال على وجه الخصوص. إرحمني يا تامر، ولا تسأل عن إسم الطفلة المقطعة أشلاء، الملفوفة بورق الورد الأبيض. إذا شئت اسماً يتكرر لهذه الجثث، فهو عناية يا اخي. اسـم كل القتيلات عناية. لا تسأل بعد، كلهن يحملن اسم عناية.
الثابت الوحيد في الصور هم الأطفال. لا أرى سواهم. لا يتعذر علي تعيين نقيض هذا الموت الوفير في فلسطين، فكل الميتات التي تحدث في العالم هي نقيض الموت الفلسطيني. لا أقصد أن فلسطين تحتكر الموت لنفسها، فهذا أكثر الأقدار شيوعاً لبني البشر جميعاً. مع ذلك لفلسطين موتها الخاص، ومُبرزة فيه وتُسابق الجميع.
القتل هو إرادته. هو نيته. وهو أنك تريد أن تقتل. إسرائيل تريد أن تقتل وينهشها جوع الى القتل، ورغبة فيه. في الرغبة ثمة ديناميكية تحول دون قبول القاتل بالكف عنه. القتل فعل إرادة ليس في طاقة اسرائيل إحتمال مقاومتها .
لا أحد يدري لماذا يولد البعض قاتلاً فيما يولد البعض الآخر مقاوماً. إنه يانصيب، واسرائيل ربحت الجائزة الكبرى في القتل. غير أنني لا أرتاب لحظة واحدة في أن الملوك والرؤساء والزعماء العرب وبعض مريديهم النخبويين! قد أعانوها على صقل كفاءاتها الإجرامية. لطالما امتلكت اسرائيل مع ذلك، بمساعدة هؤلاء ومن دونها، شهية ممتازة الى القتل تتصيد فيها الأطفال وتتحدى أي منافسة تُذكر في هذا المجال .
موت الطفولة النموذجي: عوض التفاخر الى أقصى الحدود بالبراءة المطبوعة بالطفولة، يأتي القتل ‘ليقتل’ هذا التفاخر. كأنه تفاخر الأطفال الفسطينيين المُذنب وحدهم، ما داموا يتشبهون بقادتهم (بحسب الإسرائيليين) ولا يتمايزون عنهم. بلى، تفاخر الطفولة الفلسطينية يتم محوها بشهية قتل عريقة. ذلك أن من يُعاني جوعاً فادحاً الى القتل تتنوع شهياته وتتزايد وتزداد صعوبة مرضية في رغبتها الى الأعمار الطرية.
ثمة سلم للقيم الآن في العالم حيث الأقوى هو الأفضل. مشاهير القتلة يعرفون هذه المعادلة المُهينة ويعرفها أيضاً الحُكام العرب المهجوسون بدوام حكمهم، وما كان لتلك المناورات والحيل الإسرائيلية أن تنطلي على نباهة القتل فيهم، بل تزيدهُ سعاراً .
إذا كان الحزن مرضاً حميداً يُفضي الى الشعر، فما هي القصيدة الرائعة التي إذا كتبتها شفتني من الحزن؟ ما سر مرضي الدفين وأي لغز يتعين على السماء حله لكي أبرأ من تدهور قلبي في ظلمات ساحقة؟
هناك صنف من صنوف الكلام يقوله هذا الحاكم العربي وذاك، مُستغلقاً علي، لا افقه فيه شيئاً. يُعجزني إستكشاف هذه البقاع اللغوية المرعبة التي يقولونها، ثم ان العذوبة البادية على وجوههم ليست سوى خيانة إضافية ومقتلة جديدة لأطفال غزة .
لم أفقد شهيتي الى عالم عادل، ولكني في قرارتي أشعر بتصدعه. حين يغدو قتل الأطفال وجبة إسرائيل اليومية، ينطق صوت جديد في داخلي، صوت هو مُحدثي المُعتمد عن عالم بلا رحمة، ودليلي الى فظاعة الأشياء .
أطفال، كائنات صغيرة لا أحد يكترث لاكتسابها حديثاً صفتها البشرية. يقتلون الكائنات الصغيرة في مشاهد هي مزيج الواقع والتوهم. أجساد طرية، رخوة من الجوع استحالت شذرات في الهواء. الحروب أحجية بازل، تفقد ما زالت، المزيد من اجزائها، لتكون اللعبة تامة .