الحركات الاسلامية ومحنة غزة
عبد الاله بلقزيز
يتملك المرء قدر هائل من المفاجأة لردود فعل التيارات الاسلامية في البلاد العربية على ما حدث من عدوان صهيوني غاشم على قطاع غزة: شعباً وسلطة وبنى ومؤسسات ومقدرات. فقد بدت ـ في المحصلة العامة ـ ردوداً فاترة، وكان اكثرها خطابة وبيانات، وبضع مظاهرات رمزية تطرح أحجامها المتواضعة من الاستفهام اكثر مما يجيب وتبدد! وأتت تخيب توقعات كثيرة وكبيرة بأن يلقى العدوان: على غزة درساً شعبياً عربياً يفسد على العدو حساباته، ويلقي بالضغط الكثيف على القرار الرسمي العربي ويحرّك ماءه السياسي الآسن.
لم نلبث ان اكتشفنا ـ مع هول صدمية الغمور والفتور في أداء التيارات الاسلامية تجاه “نازلة” غزة ـ ان هذه التيارات مصابة بالأدواء عينها التي اصيبت بها: التيارات القومية واليسارية قبلا: داء اللفظانية الخطابية، داء التضخم الشعبوي والضعف التنظيمي، الأولوية البرنامجية لمسألة السلطة في الداخل (الوطني) على قضايا الأمة… الخ، وهي جميعها اودت بحركة التحرر الوطني العربية منذ عقود ثلاثة وطن ان الحركات الاسلامية تفطنت لها واتعظت من دروسها وتهيأت لترويض النفس على ممانعتها وتفادي السقوط فيها.
تحدث السياسيون الاسلاميون كثيراً في وسائل الاعلام، فدانوا وشتموا وهددوا العدو بالويل والتبور وعظائم الأمور، وفعلت احزابهم نظير ذلك في بيانات الاستنكار والتنديد التي اهدرتها اثناء العدوان. لكنهم ـ واحزابهم ـ ما فعلوا شيئاً في الميدان يسجلون به مأثرة وسابقة تشهد لهم بأنهم اتوا من عظائم الأمور ما لم يقو عليه من امسكوا بأزمة الميدان قبلهم، حتى القسم الأكبر من المظاهرات والمسيرات ـ على قلتها في البلاد العربية والاسلامية وكثرتها في البلاد الغربية! ـ انما كان عفوياً غير منظم من هذه الحركات، والمنظم منه كان وراءه جمعيات ونقابات مهنية ليس للاسلاميين عليها كبير سلطان وان حضر في مظاهراتها من حضر من قادتهم ومرشديهم فأوحى حضورهم، لمن لا يعرف التفاصيل، بدور رئيس لهم في المبادرة والتنظيم.
وقد يصح تخصيص هذه الملاحظة اكثر وانزالها من العموم (الحركات الاسلامية) الى الخصوص، اقصد الى من يفترض انه يعنيه اكثر من غيره ما تلقاه حركة “حماس” ومناضلوها ومؤسساتها من ابادة وحشية من العدو، وأعني بهذه الجهة المفترضة حركة “الاخوان المسلمين”. فالى ان هذه الحركة هي الحركة الأكبر تنظيمياً وجماهيرياً وتمثيلياً داخل ساحة العمل السياسي الاسلامي، تعتبر “حماس” فرعاً فلسطينياً لها أو ـ للدقة ـ حالة من حالاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، بل هي ـ اليوم ـ الحالة الجهادية الوحيدة لتيار “الاخوان المسلمين” في الوطن العربي؛ وهي الحالة الوحيدة التي تمسح عن هذا التيار من داخله ما فعله في داخله ـ من عار اصطفاف تنظيم من تنظيماته مع الاحتلال: (“الحزب الاسلامي” في العراق)!
رب قائل ان نصرة غزة وأهل غزة والمقاومة فيها واجب على الجميع القيام به لا على الاسلاميين فحسب ولا على “الاخوان المسلمين” بالتحديد. وهو قول صحيح لا مرية فيه، اذ الواجب هذا عام لا تمييز فيه، والتقصير فيه النهوض به ينسحب على غير الاسلاميين و”الاخوان” اكثر حتى ممن نؤاخذهم على الفتور وضعف الهمة (من الاسلاميين). فالذين يسقطون برصاص العدو في غزة هم ابناء فلسطين اياً تكن عناوينهم وولاءاتهم السياسية. والذي تبدده الغزوة الاسرائيلية هي الحركة الوطنية ومؤسساتها ومواردها البشرية، ولا مكان هنا لحسابات قبلية في معركة هي معركة وجود. غير أن هذا الاستدراك على وجاهته يصطدم بثلاث حقائق أو معطيات لا تقبل التجاهل في معرض اي تحليل للوضع الفلسطيني ولصور التفاعل العربي (غير الرسمي) معه:
اول تلك الحقائق ان القوى القومية واليسارية العربية التي كانت في ما مضى حاضنة شعبية للثورة والمقاومة واداة الاسناد والنصرة لشعب فلسطين لم تعد قوية بما يكفي لممارسة التأثير الفعال الذي كان لها قبل ربع قرن أو يزيد، وما عاد من الممكن بالتالي التعويل على :أدوارها الشعبية” فقد ترهلت احزابها وضمرت قدرتها التمثيلية ولم يبق لها من الجسم غير لسان تطلقه في المنابر الخطابية وبعض عادة موروثة في عقد المؤتمرات وتدبيج البيانات.
اما القوى الاسلامية فتبدو على العكس من الأولى في كامل لياقتها التنظيمية وعافيتها التمثيلية وطاقتها التعبوية والتحشيدية، ويبدو الرأى العام الشعبي العربي أكثر ثقة بها وإصغاء لخطابها. وهذا مما يرتب عليها مسؤوليات: تاريخية وسياسية واخلاقية تتناسب وما لديها من موارد قوة في مجتمعاتها. ومن الطبيعي، في مثل هذا الامتحان وهذا الاتبلاء ان يتساءل المرء: اين هي، وماذا فعلت؟ انه ثمن القوة واستحقاق الدور، وعليها ان تدفعه بشجاعة.
وثاني تلك الحقائق ان الحركات الاسلامية نجحت في ان تدخل بعداً دينياً في الصراع العربي الصهيوني جهدت الحركات القومية واليسارية طويلاً في ان تتفاداه وتحافظ على طابعه السياسي والوطني والقومي؛ وهي عبأت جمهوراً عريضاً من المجتمع العربي على فكرة التلازم بين التحرر الوطني الفلسطيني والخيار الاسلامي، وروجت لهذا الخيار الاسلامي على اوسع نطاق في شارعها ولتعبيراته الفلسطينية (“حماس” و”الجهاد الاسلامي”) وعلى ذلك، كان يفترض في ان يأخذها الالحاح على البعد الديني والخيار الاسلامي وحسبان فلسطين وفقاً اسلامياً الى نصرة هؤلاء المجاهدين الاسلاميين الابطال في غزة حتى لا يكون انكسارهم لا قدر الله انكساراً لمشروعها السياسي ودعواه وحتى تقيم الحجة على ان لهذا الخيار جيشه الجرار من المسلمين في اركان الارض جميعاً.
اما ثالث الحقائق، ففي ان “حماس” جزء من مشروع “الاخوان المسلمين” لا ينبغي تركه يواجه مصيره وحده، وخاصة حينما تكون “حماس” هي الحركة الوحيدة التي أقامت في :الاخوان المسلمين” اول سلطة لهم في تاريخهم وعلى ارض الجهاد المقدسة: فلسطين. ان التفريط بهذه الحركة المجاهدة ومكاسبها اشبه ما يكون بالانتحار السياسي في حسب الاشياء.
لسنا بهذه الملاحظات في معرض مزايدة مع التيار الاسلامي كما قد يحسب ذلك من يسيء الظن بها: انها بالاحرى أقله في هذه المرحلة للتنبيه على دور الاسلاميين أقله في هذه المرحلة بعد ان اشتد عودهم السياسي والتنظيمي. لكنها معروفة ايضاً الى تأكيد الحرص على حق المقاومة الفلسطينية على امتها وقواها في النصرة والاسناد: بالفعل لا بالقول، حتى تثبت وتصمد وتجتاز امتحان الإقتلاع والإفناء.
المستقبل