الـ١٨٦٠ يشرّع ويسرع الفتنة الفلسطينيّة ـ الفلسطينيّة

جورج علم
تعمّد قرار وقف إطلاق النار »الفوري والدائم« بأكثر من ٣٠ شهيداً سقطوا في غزّة، للتأكيد على إلزاميّة احترامه من قبل إسرائيل، فماذا جرى خلال الساعات التي سبقت صدوره؟
ما توافر عند بعض المتتبعين، أن المجموعة العربيّة في نيويورك ضغطت لاستصدار قرار بعدما تبين لها على مدى الأيام الخمسة من الاجتماعات والاتصالات وراء كواليس الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أن هناك إصراراً أميركيّاً على منح إسرائيل »الوقت الكافي« لكي تحقق الغرض من عدوانها على غزة، بمعزل عن المجازر التي ترتكب، وعدد الشهداء والجرحى. وإصراراً على استبعاد »حماس« عن دوائر الاتصال والحوار، وحصر المهمة بالسلطة الفلسطينيّة. وإصراراً على فرض معادلة جديدة في غزة (من دون الدخول في أي توصيفات علنيّة لها)، قد يكون من أبرز أهدافها تحسين الشروط الإسرائيليّة في أي مفاوضات مستقبليّة مع السلطة الفلسطينية.
وتمكّن وزراء الخارجية العرب من تشكيل »مجموعة ضغط« من دول عدم الانحياز، ودول منظمة المؤتمر الإسلامي، والكتلة الآسيويّة، في الجمعيّة العامة للمنظمة بزعامة الصين، وتم توزيع المهام والأدوار لحمل مجلس الأمن على الخروج من حلقة الاجتماعات المفتوحة الى مرحلة التقرير، وأيضا الإصرار على أن يكون البند الرئيسي في أيّ قرار هو التأكيد على الوقف الفوري لإطلاق النار، لوقف استباحة الأبرياء والعزّل من السكان.
ولعبت روسيا دور الرافعة، وكان هناك ثناء على دورها الذي انطلق في البحث »عن أفضل الممكن«، في ظلّ تشبث إسرائيلي باستمرار العدوان، واستسلام أميركي مطلق لمنطق تل أبيب »وكأن ما عجزت عنه كوندليسا رايس في لبنان تريد تطبيقه في غزّة، أو كأن هذه الإدارة قد سلّمت بإمداد إسرائيل بأي موقف أو دعم تريده قبل أن تغادر مواقع القرار في غضون الأيام المقبلة«!
ووصفت روسيا القرار الجديد »بالمتوازن«، لأنه وفق حساباتها أفضل الممكن، ولم يكن هناك من حيلة أو وسيلة لانتزاع آخر أكثر توازناً، لأن »الفيتو« الأميركي كان بالمرصاد لكل الاقتراحات ومشاريع القرارات السابقة التي تقدمت بها المجموعة العربية، أو المجموعات الدوليّة الأخرى المتعاطفة.
ولعب الفرنسي مع الروسي دور »القابلة« لولادة هذا القرار، من خلال حركة مكوكيّة من اللقاءات والاتصالات مع الوفد الأميركي بشكل رئيسي، والبريطاني الذي ميّز أداءه هذه المرّة، ووقف على مسافة واحدة من المجموعة العربية من جهة، والإسرائيليّة الأميركيّة من جهة أخرى، لا بل كان في بعض الأحيان متعاطفاً بقوة مع وجهة النظر القائلة بوجوب وقف إطلاق النار فوراً، ووقف المجازر بأي ثمن، على أن يتم البحث بعد ذلك في المراحل اللاحقة.
وشكّل مشروع القرار العربي العمود الفقري »للمولود الجديد« ، وإن كان قد تحوّل في مرحلة من المراحل الى حقل للتجارب نتيجة ما أدخل عليه من صيغ كثيرة وتعديلات شتى، إلا أن الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار كان بمثابة اللازمة العربيّة التي لا بدّ منها في متن أي مشروع قرار، وهذا ما حصل.
… ومع ذلك فقد سجّلت الجهات المتابعة عيوباً خمسة، على الأقل، يعاني منها القرار الدولي الجديد، أولها أن الهدف من وراء استصداره كان الحفاظ على البقية الباقية من ماء الوجه لدى المجتمع الدولي، أو نوعاً من رفع العتب، وعلى قاعدة أن مجلس الأمن قام بما هو مطلوب منه، وعلى الجهات المعنيّة أن تبادر وتتحمل مسؤوليّة التنفيذ.
أما ثاني هذه العيوب فتمثّل بامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، ويوازي هذا الامتناع بمفعوله مفعول استخدام حق النقض »الفيتو«، وكأن الأميركي شاء أن يقول: ليست العبرة في استصدار القرار، بل في تنفيذه، وكانت النتيجة ما شهده قطاع غزّة يوم أمس من فواجع!
الثالث: كان غياب الآليات التنفيذيّة التي لا بدّ من التعويل عليها لوضع هذا القرار موضع التنفيذ، وكأنه اتخذ للهروب من الضغط الدولي المسيطر في الجمعيّة العامة وفي كواليس مجلس الأمن، ولإرضاء الوفد العربي، على أن يكون مقدمة لسلسلة جديدة من القرارات التي لا بدّ منها لرسم الآليات التنفيذيّة لوقف العدوان الذي تفاقم على وتيرة أعنف وأشد يوم أمس.
الرابع: كان ربط تنفيذ هذا القرار بالمبادرة المصريّة والدور الذي تضطلع به القاهرة مع »حماس« من جهة والإسرائيلييّن من جهة أخرى، وفي ذلك إشارة صريحة الى انعدام روح المسؤوليّة الأخلاقيّة والمعنويّة لدى بعض من شاء أن يكون هذا القرار بمثابة »مصيدة« لزهق المزيد من الأرواح البريئة تحت شعار »الوقف الفوري والدائم لإطلاق النار«، الذي تبين في ما بعد أنه لا فوري ولا دائم.
أما العيب الخامس، والخطير في آن، أن هذا القرار شرّع الأبواب وسيعة على حرب فلسطينيّة ـ فلسطينيّة، بعدما سارعت السلطة الى الترحيب به، فيما اعتبرت »حماس« أنه لم يؤخذ برأيها، وبالتالي فهو لا يعنيها ولا يلزمها بشيء.
لقد امتنعت الولايات المتحدة عن استخدام »الفيتو« بعدما اطمأنت الى أن لا دور لـ»حماس« في العمليّة الدبلوماسيّة، ولا مكان لها على أي طاولة مستقبليّة للحوار، وهذا ما يتوافق مع الهدف الأول والأبرز الذي سعت إسرائيل الى تحقيقه من خلال عدوانها، وأقصى ما تريده وتطمح اليه عندما تستعد لأن تتقدم بأجندتها الجديدة عندما يسكت المدفع وتستأنف جلسات المفاوضات.
أما ما هي مواصفات هذه الأجندة الجديدة؟ لا جواب، لكن هناك خشية لدى البعض من السعي لوضع القطاع في نهاية المطاف بعهدة مصر، والضفة بعهدة الأردن.