صفحات مختارة

واقع الـعالم الـعربي هل يعوق الـتطور؟ الـحداثة الـمريـضة

null

خالد غزال

يثير مشهد العالم العربي الراهن الكثير من الاسئلة حول مدى التطور الذي عرفه خلال اكثر من قرن ومدى انتسابه الى الحداثة التي انتقلت اليها مجتمعات متعددة في كل مكان. فعلى رغم التقدم التكنولوجي والفكري والحضاري والاقتصادي الذي طاول البشرية على امتداد القرون الماضية وانتصاب الحداثة بعناصرها المتعددة عنصرا مقررا في تقدم المجتمعات،
فإن سؤالا كبيرا يطرح على المجتمعات العربية لجهة الحداثة التي تحققت فيها وخصوصا منذ عقود الاستقلال. ينبع السؤال من اتساع رقعة التفكك الذي تشهده هذه المجتمعات العربية والانهيارات البنيوية التي تتوالى في كل مكان من اجزاء العالم العربي فتقدم صورة سوداء لما آلت اليه اوضاعها، بما يوحي القول ان المجتمعات العربية لم تعرف سوى “قشرة حداثية” خلال تطورها. وعلى رغم ان نقاشا يدور في بعض الاوساط الثقافية عن ضرورة البحث في “ما بعد الحداثة” تمثلا بالنقاش الدائر في الغرب حول المعضلات الناجمة عن تحقق الحداثة فيه، الا ان الموضوع الفعلي عربيا يظل متصلا بالنقاش عن المدى الذي وصلت اليه الحداثة في العالم العربي والاستعصاءات والاعاقات التي تحول دون تحقق هذه الحداثة فيه.تتحدَّد الحداثة في وصفها محصلة التطور الانساني والتقدم الذي عرفته البشرية في الميادين الفكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والاكتشافات الجغرافية وعلى صعيد الاصلاح الديني وخصوصا في المجتمعات الغربية على امتداد قرون. في رحاب هذه الحداثة ولدت المفاهيم والافكار وقامت النظريات في مختلف الميادين ونشأ فكر سياسي جديد وتكوّنت انظمة سياسية واجتماعية متقدمة.

اذا كان ما جرت الاشارة اليه تلميحاً من معطيات حداثية يؤشر الى الانتقال الذي عرفته اوروبا والغرب خلال القرون الماضية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو حول موقع العالم العربي من هذه الحداثة ومنتجاتها ومدى دخول المجتمعات العربية فيها. ان نظرة متفحصة الى بعض الميادين العربية يمكن ان تعطي فكرة عن القرب او البعد من هذا التقدم الانساني.

سلطة لا دولة

مثّل نشوء الدولة في اوروبا درجة من اهم درجات التطور والحداثة، فلعب النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري دورا في بلورة مفهوم القومية الذي شكل قاعدة الكيانات الاوروبية التي كانت تعاني الانقسام وصراعا في ما بينها للسيطرة على الاراضي والمقاطعات. ساعد قيام الدولة في اوروبا في بلورة قواعد قانونية ومبادئ تتصل بالفصل بين السلطات والمساواة امام القانون وحماية الحريات وتحقيق المواطنية وغيرها، فشكلت هذه المبادئ اسسا استندت اليها انظمة الاستقلال في العالم الثالث ومنها العالم العربي في وضع دساتيرها وقوانينها.

تكونت الدول العربية منذ نصف قرن تقريبا، في سياق النضال من اجل الاستقلال الوطني، وعلى حاملة مشروع قومي ذي مضمون اجتماعي وسياسي وطني. استوحت النخب العربية التي تسلمت زمام الحكم في الكثير من انظمة الاستقلال مبادئ تنظيم الدولة المعمول به في الغرب واخضعت بعض نصوصه لما يتوافق مع واقع المجتمع المحدد. تقوم في البلدان العربية راهنا دساتير تتشابه في التوجهات والقوانين والتشديد على الاهداف المركزية للدولة، وتؤكد الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، كما تركز على مقولة الفصل بين السلطات وتأمين التوازن في ما بينها وسيادة القانون على جميع ابناء الشعب. كما تذهب بعيدا في التزام المبادئ الديموقراطية في الحكم التي تكفل المساواة بين المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتضمن الحقوق العامة ولا سيما منها حرية الاعلام والفكر والمعتقد والعمل السياسي. وتشدد هذه الدساتير والقوانين العامة على الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتسعى الى الارتقاء بمستوى الانسان العربي. كما تؤكد هذه الدساتير ايضا المساواة بين المجموعات السياسية والاقليات والطوائف والاثنيات ومكافحة التمييز ضدها او المس بحقوقها، وهي امور تظهر مدى تأثر النخب العربية بالدول والانظمة التي استندت الى مقومات الحداثة في تكوينها. لكن السؤال المطروح هو مدى تطبيق هذه المبادئ واقعيا والتزام ما تنص عليه؟

شكل تحقيق الاستقلال وتعيين مبادئ الدولة المستندة الى الدستور والقوانين احد مصادر شرعية السلطة. يؤشر المشهد العربي الراهن منذ عقود الى تغييب شبه كامل للقواعد الدستورية والقانونية، والى انحسار في شرعية السلطة، وذلك لمصلحة تمركزها في يد قوى محددة وبما لا يتناسب مطلقا مع المبادئ التي اسست لقيام الدولة، وهذا يعني تراجعا في منطق الدولة لمصلحة منطق السلطة.

قد يبدو هذا الكلام غريبا من الناحية النظرية لصعوبة الفصل بين الدولة والسلطة في اي بلد. لكن، اذا كان السؤال حول الدولة والسلطة في الدول الحديثة والمتقدمة عبثيا ولا معنى له، فانه يكتسب دلالة راهنية كبيرة في العالم العربي، حيث تعاني الدولة الوهن على حساب سلطات متنوعة الانتماءات، عسكرية او طائفية او قبلية او اثنية. ادى التراجع في تطبيق مبادئ الدولة الى تحولها سلطة استبدادية تستند بشكل رئيسي الى الاجهزة الامنية او بعض المكونات التقليدية وتمارس الغاء للقوانين الدستورية. تمارس هذه السلطات وخلافا للنصوص الدستورية تغييبا للحريات العامة، وتمييزا بين المواطنين لمصلحة الجهة التي ينتمي اليها الحاكم. اختزلت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد سلطة الحاكم فتعزز الطغيان، وبات القائد او الزعيم عنوانا للسلطة والمؤسسات التي اختزلت في شخصه على غرار ما عرفته اوروبا ايام الاستبداد وسيادة منطق “انا الدولة والدولة انا”، وجعلت طاعته وعدم نقده من المقدسات. كرست السلطة التسلطية غياب الديموقراطية والاحزاب السياسية وحرية الصحافة والتعبير، وابتكرت شتى وسائل القمع والارهاب والتخويف والتهميش والترغيب من اجل ضمان بقاء السلطة في يديها. في هذا السياق اكتسب الاستبداد طابع المؤسسة وهو ما ساعد على ان يجدد طاقته بحيث تبدو اطاحته متعذرةً من القوى الداخلية على غرار ما شهده العراق، او ان محاولة اطاحته تهدد الكيان والنظام بالانهيار ودخول البلد المعني في دوامة حروب اهلية تدمر كل ما يكون المجتمع قد حققه من تقدم، وخصوصا ان الحاكم كف عن ان يكون ممثلا للشعب بمقدار ما بات تعبيرا عن الجماعة التي ينتسب اليها. الاسوأ من ذلك، سيادة ظاهرة ارتباط الاستبداد بنوع من الايمان بالخرافات والغيبيات واستخدام اللاهوت الديني في اسباغ المشروعية عليه. في هذا الاطار لا يعود غريبا ان تتحول الجيوش الى اداة لسحق الانسان العربي والى سيادة نظام الطاعة المطلق بدل ان تكون مكرسة للدفاع عن الوطن من العدو الخارجي وعن المواطن في الداخل وحماية حقوقه، اضافة الى تكريس نوع من عسكرة هذه المجتمعات العربية. هكذا ترافق هذا الارتداد عن الدولة بانحسار في النهوض الاقتصادي، كما ساد الفقر والبطالة والامية والفساد، ونجم عن ذلك غياب المحاسبة والمراقبة. وفي ظل هذا التسلط على الدولة ومؤسساتها وممارستها، استشرى الفساد السياسي والاداري في كل مكان، وتوزعت المواقع السياسية على اصحاب النفوذ على شاكلة اقطاعات كحصص سياسية وموارد اقتصادية وشركات عاملة. الاخطر من ذلك كله، غياب تداول السلطة بل احتكارها في يد اقلية مسيطرة وسيادة منطق التوريث في الدول الجمهورية على غرار ما هو سائد في الانظمة الملكية، وهو امر يحرم الشعوب حق المشاركة واختيار الحاكم فضلا عن محاسبته.

لا يعود غريبا بعد ذلك ان تنبعث في العالم العربي مكوّنات ما قبل الدولة، من استعادة للطوائف والعصبيات القبلية والعلاقات العشائرية، وان يحتدم الصراع في ما بينها من اجل اقتسام المؤسسات والبلدان اجمالا. يشهد على ذلك حجم الاصطفاف الذي تعيشه المجتمعات العربية وامكان تحوله حروبا اهلية تهدد العديد من الاقطار وتهز كيانات راسخة في المنطقة. في ظل هذا المناخ تصبح الاستعانة بالخارج اساسية في حسم الصراعات وتحقيق الغلبة لمصلحة هذه الجماعة او تلك. كما تصبح قدرة هذا الخارج على النفاذ الى قلب المجتمعات العربية واختراقها اكثر يسرا وسهولة في التلاعب بالكيانات.

هكذا بعد مسيرة اكثر من نصف قرن يبدو العالم العربي امام تداعيات متتالية في منطق قيام الدولة لصالح منطق سلطة التهمت الدولة واجهزت على المجتمع في آن واحد. ألغيت فكرة الوطن وحل مكانها النظام، وسادت نظرية حرمان الشعب من السياسة كأفضل سبيل لضمان سيطرة السلطة على ما بقي من الدولة وعلى المجتمع نفسه. ضاعت قشرة الحداثة التي بدا ان المجتمعات العربية قد حققتها وخصوصا منها التي عرفت تجربة في التطور والليبيرالية الى هذا الحد او ذاك.

تحديث ام حداثة؟

يوحي المشهد العربي في مظاهره المتعددة بتطور تقني وتكنولوجي يحتل موقعا متقدماً في الحياة اليومية. ثمة ظواهر تتمثل في استخدام التقنيات الحديثة وبناء الابراج الضخمة في بعض البلدان العربية، اضافة الى دخول منتجات التكنولوجيا في اكثر من مجال صناعي وزراعي وتجاري وفي تسليح الجيوش، وقيام انظمة قاربت اعتماد علاقات رأسمالية والاقتراب من بناء دول قائمة على دساتير وقوانين…، هذه كلها مظاهر تشي بدخول عالم الحداثة الى غالبية المجتمعات العربية. لكن التدقيق في حدود هذا التقدم ثم في الارتداد عنه، يسمح بالقول ان ما عرفته المجتمعات العربية تغلب عليه صفة التحديث وليس الحداثة، حيث يجري نقل هذه التكنولوجيا مقترنةً برفض الافكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية التي انتجتها بحجة مخالفة هذه الافكار للتراث العربي والاسلامي وتناقضها مع النصوص الدينية الاساسية، وهو ما يعني عمليا الاكتفاء باستهلاك هذه التقنيات من دون القدرة على المساهمة في انتاجها الا بالجزء القليل. وهذا من شأنه أن يضع حدا فاصلا بين ادعاءت “الحداثة” العربية والحداثة الغربية بمعناها الفعلي كما تجسدت ولا تزال في المجتمعات المتقدمة.

لا يمكن تجاهل المحاولات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم لدق ابواب التقدم والسعي الى اكتساب منتجات الحداثة الغربية في مختلف الميادين. منذ طرح رواد النهضة السؤال عن سبب تخلف العرب وتقدم الغرب، استمر النقاش دائرا حول السبل التي تنقل المجتمعات العربية الى رحاب الحداثة. تحققت بعض الانجازات في الربع الاول من القرن العشرين، ثم تطورت مع صعود مشروع التحديث العربي في الخمسينات والستينات. لكن الهزائم العربية عسكريا وسياسيا امام العدو الخارجي وخصوصا المشروع الصهيوني وعودة الاستعمار الى المنطقة، مضافا اليها الهزائم الداخلية على مستوى عجز الانظمة الحاكمة عن تحقيق وعودها في التقدم الاجتماعي والاقتصادي وتحلل مقومات الدولة لصالح البنى التقليدية، ادت الى ارتداد واسع عما كانت القشرة الحداثية قد اخترقته داخل المجتمعات العربية. وفي تفحص لبعض المؤشرات الدالة على “الحداثة العربية” يمكن تبيان الارض التي تقف عليها عربيا وحجم الاعاقة الكبيرة والارتداد قياسا على عقود سابقة.

شكل انتصار العقلانية احد اهم المنجزات الاوروبية التي سمحت في تحقيق الحداثة، فلم يكن للحداثة ان تسود من دون تسليط سيف النقد على كل شيء وتسييد العقل حكما وحاكما مطلقا. في هذا المجال يواجه العقل العربي محنة من حيث تعطيل عمله والمنكفئ الى الظل. من ابرز مظاهر “قمع العقل” العربي منعه من اخضاع التراث السائد للقراءة النقدية. يجتاح التراث العربي والاسلامي الحياة العربية ويضع المواطن في قلب القرون الماضية. الاخطر هنا، ان ما يبعث من التراث لا يطاول جانبه الانساني او العقلاني المضيء، وهو تراث ساهم في نهضة الغرب وحداثته، بل ان ما يجري تكريسه على العقول العربية هو “ترفيع” ثقافة الخرافات والاساطير وتسييدها على الذهنية العربية. تتغذى هذه الخرافات من الاساطير الدينية ومن تراث البنى التقليدية المتخلفة. تؤشر ارقام مبيعات الكتب الى غلبة ساحقة للكتب التراثية التي تركّز على الاساطير والفلك وسير رجال الدين والفقهاء والائمة وتدعو الى اعتمادها في تلقين الاجيال الطالعة. تترافق العودة الى تقديس التراث والتموضع في الماضي الى اطلاق نظرية المؤامرة التي يقودها الغرب الهادف الى ممارسة الغزو الثقافي واقتلاع الهوية العربية والاسلامية لصالح منظومته الفكرية وضمن اطار الهيمنة على العالم العربي ونهب ثرواته.

تلعب المؤسسة الدينية دورا مهما في اعاقة الحداثة في العالم العربي، وتعاونها في ذلك السلطات السياسية الحاكمة ومعها البنى التقليدية، العشائرية والقبلية والطائفية. تنصّب هذه المؤسسة نفسها مراقبا على حرية الفكر والعقل وتحدد “المسموح وغير المسموح التفكير فيه”. تحارب الإنتاج الفكري الهادف الى تكريس العقلانية في قراءة معضلات المجتمعات العربية، وتصدر الفتاوى في مصادرة الكتب ومنع التعرض الى قضايا محددة، ولا تتورع عن فتاوى التحريم والتكفير والهرطقة بما يضع حياة المفكر والكاتب تحت رحمة قوى التطرف والتخلف، وهذه ظاهرة شهدها المجتمع العربي في مناسبات عديدة على غرار ما عرفته محاكم التفتيش في القرون الوسطى الاوروبية. يصعب مواجهة التخلف العربي من دون تقليص دور المؤسسة الدينية في الحياة العامة، والحد من تواطؤ السلطة السياسية معها في تكريس هيمنتها، وهو شأن كان في صميم المعركة الاوروبية في سبيل التنوير والحداثة.

يسجل انبعاث الاصوليات بعنفها وتطرفها واستخدامها الدين في السياسة وتسليط تفسيرها الاحادي الجانب له بما يخدم اهدافها، اهم هزيمة في العقود الاخيرة لمشروع مقاربة العالم العربي للحداثة. نحن امام حركات تهدف الى اعادة المجتمعات العربية الى القرون البدائية عبر حجز تطورها بالعنف والارهاب، وتخضع كل مظاهر الحياة اليومية الى منطق المقدس وتقديس ما هو غير مقدس عبر احلال طقوس تتناول السلوك اليومي والقضايا الاكثر دنيوية. اما الخطر الاكبر للحركات الاصولية على التقدم فنابع من برنامج هذه الحركات الذي يصل في مآله الاخير الى تدمير الدولة والمجتمع في آن واحد وتكريس الفوضى وكل ما هو متخلف من قوانين وعادات. تمثل هذه الاصوليات العدو الاشد للحداثة بمعناها الفكري والعقلاني والثقافي والفلسفي، ومن المفارقات انها من اكثر مستخدمي التكنولوجيا بمنتجاتها الحديثة في اعمالها الارهابية.

تمثل النظرة التي لا تزال سائدة تجاه المرأة في المجتمعات العربية دلالة جارحة على اعاقة الحداثة. تعاني المرأة التمييز بينها وبين الرجل والانتقاص من حقوقها في ميادين متعددة. على رغم بعض التقدم الذي حصّلته في نضالها ضد “المجتمع الذكوري” الا ان التعاطي معها كإنسان منقوص الحقوق وفاقد الاهلية في ميادين معينة، لا يزال يشكل عبئا على ممارستها دورها في المجتمع. فخلف الابراج العالية والمظاهر البراقة في الحياة العامة تكمن نظرة معادية للمرأة كإنسان يمتلك المقومات نفسها التي يمتلكها الرجل. في هذا المجال تتحمل البنى المتخلفة السائدة في الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية مسؤولية تكريس هذا التمييز لصالح الرجل، كما تلعب النصوص التراثية والدينية وتلطي المؤسسة الدينية خلفها دورا في منع المرأة من احتلال الموقع الطبيعي الذي تستحق. ان نضال المرأة لامتلاكها كامل الحقوق المعطاة للرجل، هي معركة في صميم النضال للوصول الى الحداثة، ويصعب تصور خروج المجتمعات العربية من اسر التخلف طالما ان اكثر من نصف المجتمع منقوصة حقوقه العامة والخاصة.

تشكل مناهج التعليم وحجم التقدم العلمي والانتاج فيه احد معوقات الحداثة العربية. لا تزال مناهج التعليم بعيدة عن مواكبة تطورات العصر ولا صلة لها عمليا بحاجات التقدم والتطور الاجتماعي، وهو امر يفسر ضعف العالم العربي، الاقرب الى العجز، وعدم قدرته على تقديم منجزات علمية وتقنية تجاري ما هو سائد في انحاء عديدة من العالم المتقدم. الى ذلك فإن التعليم العربي عجز ايضا عن حل معضلة الامية التي يرزح ثلث سكان العالم العربي تحت ربقتها. وتترافق هذه الامية مع مستوى عال من الفقر والبطالة، وهي مؤشرات حاجزة للحداثة، بل على العكس تشكل ارضا خصبة للتطرف والعنف والارهاب وتأبيد التخلف.

لا مجال بعد هذه الاشارات للقول ان ما عرفه العالم العربي يقع في صلب انجاز الحداثة، لان العيش ماديا في القرن الحادي والعشرين يترافق ذهنيا مع العيش في القرون البائدة. وهو امر يسمح بحكم يرى ان المجتمعات العربية مصابة بانفصام في الشخصية ناجم عن هيمنة الافكار التقليدية البالية من جهة وعن الشبق في استيراد احدث انواع التجهيزات والاختراعات التكنولوجية واستخدامها من جهة اخرى.

فرد حرّ أم جماعة؟

كان التأسيس للفرد المواطن الحر احد الشروط التاريخية التي قامت عليها الحضارة الاوروبية وازدهرت، كما شكل الاساس في شرعية السلطة والدعامة الرئيسية التي نهضت عليها الديموقراطية. لم يكن لهذا الانجاز ان يتحقق من دون قيام الدولة – الامة وفصل المجال الديني عن السياسي وتحويل انتماء الانسان من الجماعات الخاصة القبلية والعشائرية والطائفية الى المجال العام المتمثل هذه المرة في الدولة. في رحاب هذا التحول وعلى اساسه، قامت نظرية الحقوق ونشأت نظرية المواطنية التي يعرفها الفكر السياسي على انها انتماء افراد شعب محدد وفي رقعة جغرافية الى وطن واحد لجميع ابنائه والى انتظام هذا الشعب ضمن منظومة واحدة في ظل الخضوع لدستور وقوانين ومؤسسات تظللها حقوق وواجبات متساوية لابناء الشعب من دون تمييز عرقي او جنسي او طائفي. فهل استطاعت المجتمعات العربية التوصل الى تأسيس مواطنية تخرج شعوبها من سجون التشكيلات الاجتماعية البدائية المتمثلة في القبيلة والطائفة والمذهب؟ ليس من الصعب اعطاء جواب سريع عن عجز الوصول الى مثل هذا الانجاز، مما يجعل “الحداثة العربية” بعيدة عن الوصول الى المواطنية في ظل اعاقات متعددة لا يزال زخمها يسير تصاعديا في زمننا الراهن.

شكلت الايديولوجيات التي سادت او حكمت في المنطقة العربية والمنظومة الفكرية التي حملتها، عائقا في نشر مفهوم المواطن – الفرد على امتداد عقود. تشترك الايديولوجيات القومية العربية والاشتراكية والاسلامية في تهميش دور الفرد والحد حتى من تكوّنه الخاص، عبر اقصائه عن الفعل في الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لصالح الذوبان في الجماعة وتحت عنوان التضحية بالذات في سبيل القضية العامة.

عامل اخر في الاعاقة يتصل بفشل الدولة – الامة التي ولدت مشوّهة ومعوقة عن تحقيق المواطنية لاسباب تعود الى عجزها عن تحقيق اندماج اجتماعي على قاعدة الاعتراف بحقوق المجموعات السائدة ومنع التمييز في ما بينها، وذلك بسبب غياب الديموقراطية كوسيلة تحفظ هذه الحقوق. يرتبط بهذه النقطة ان الانظمة السائدة تتسم بالاستبداد وتجميع السلطات في يد فرد او مجموعة افراد تقوم ممارستها على القمع وحجز الحريات السياسية ومنع التعبير عن الرأي والانتظام في مؤسسات المجتمع المدني، وهي شروط ضرورية لتفتح الفرد ونمو قدرته على ممارسة دوره المستقل.

ازدهرت في العقود الاخيرة الحركات الاصولية والسلفية، التي تقوم نظريتها على نفي مفهوم المواطنية الحديثة واعتباره مناهضا للشريعة الاسلامية. تفرز الاصوليات في غالبيتها المجتمعات بين “دار الاسلام” و”دار الكفر” فتمنح حقوقا للاولى وتحجبها عن الاخرى. ان اتساع شعبية هذه الحركات واحتلالها موقعا في الحياة السياسية في كل البلدان العربية تقريبا، يجعل ايديولوجيتها عنصرا فاعلا في الاعاقة وخصوصا انها تمزج بين استحضار الموروث المتخلف الذي لا تزال رموزه وجذوره عميقة في العقلية العربية، مقترنةً بالاعتماد اساسا على النص الديني وفق تفسيرات ضيقة له وبما يتوافق توجهاتها، بما يعطي هذه الاصوليات قوة مضاعفة في التأثير والاستقطاب ومن خلال استخدام وسائل الاعلام المتاحة لها بقوة لترويج افكارها.

اذا اردنا رصد مصير المواطنية وموقع الفرد في المجتمعات العربية فيمكن القول انها سائرة من ارتداد الى آخر. انعكست الهزائم العسكرية والسياسية والثقافية خارجيا وداخليا على مجمل الاوضاع العربي، ومن ابرز نتائجها ارتداد هذه المجتمعات الى مقومات ما قبل الدولة من خلال انبعاث صارخ لعصبيات الماضي واستحضارها لتشكل عنصرا مقررا في مصير الانسان العربي ومجمل سلوكه العام والخاص. يشهد اكثر من بلد عربي انتقالا متسارعا لمهمات الدولة لصالح الجماعات الخاصة. يترتب على ذلك انشداد ولاء الفرد الى هذه الجماعات سياسيا واقتصاديا وثقافيا واعتبارها مصدر الحماية الخاصة. تشهد على هذه الظاهرة بعض البلدان التي اندلعت فيها ازمات سياسية حارة او حروب اهلية تتخذ بوضوح طابعا طائفيا ومذهبيا او بين قبائل مختلفة الهويات، وما يحصل حاليا في اكثر من بلد عربي مرشح للاتساع في ظل الارض التي تهيئ لمثل هذه الانفجارات التي تسير حثيثا في تدمير الكيانات والانظمة على السواء.

تحوي المجتمعات المتقدمة بنى ما قبل دولتية، وهي لا تزال تفعل في ميادين عديدة لكن تطور الدولة وسيطرتها على المجال العام جعل فعل هذه الجماعات محكوما بشروط تقع تحت سقف المواطنية، مما يعني ان هذه المعضلات العربية ليست ابدية او غير قابلة للاحتواء، لكن ذلك يظل مشروطا بقيام الدولة وخضوع جميع مكونات المجتمع الى قوانينها وسلطتها.

اذا كانت الحداثة في العالم العربي استعصت على التحقق، واذا كانت هذه الحداثة استوجبت قروناً لتتحقق في اوروبا، فهل يعني ذلك ان العالم العربي بعيد عن الوصول الى التقدم ومحكوم ان يبقى داخل قضبان التخلف الى ما لا نهاية؟ ليس من جواب حتمي في هذا المجال. ان مستوى التطور البشري المنظور اليه من خلال الثورة التكنولوجية وخصوصا ثورة الاتصالات، يسمح اليوم بتواصل اكبر بما لا يقاس من السابق بين الثقافات والحضارات لتأمين التفاعل في ما بينها. في امكان العرب اختصار المسافات الزمنية والتسريع في الافادة من نقل منتجات هذه التكنولوجيا في تطوير المجتمعات العربية، لكن ذلك يتطلب ولادة قوى سياسية وشعبية تضع في اولوياتها كيفية الحد من عوامل التخلف العربي والتصدي لمعطياته في جميع الميادين. قد يبدو المشهد الراهن شديد السواد، لكن اذا اخذ على المستوى التاريخي فإن إمكان الحد من السلبيات الراهنة يقع في حيز الاحتمال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى