العولمة والمجتمعات المعرفية
السيد يسين
عقب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق ودول الكتلة الاشتراكية حوالى عام 1989، ونهاية عصر الحرب الباردة وزوال النظام الثنائي القطبية الذي دار فيه الصراع الأيديولوجي والسياسي العنيف بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، بعبارة أخرى بين الشيوعية والرأسمالية، ظهرت الحاجة إلى ضرورة صياغة أطر نظرية جديدة للعلم الاجتماعي بكل فروعه.
فقد تغير العالم، وتبدلت موازين القوة فيه، ولم تعد النظريات القديمة في العلاقات الدولية والسياسة المقارنة وعلوم والاقتصاد وعلوم الاجتماع والثقافة، قادرة على وصف العالم، الذي تحول إلى نص معقد يحتاج فك شفراته إلى أطر نظرية جديدة.
وقد التفتُّ منذ بداية التسعينيات -باعتباري باحثاً في علم الاجتماع السياسي- إلى ضرورة تجديد إطاري النظري في ضوء قراءة شاملة وتحليلية ونقدية لمتغيرات المجتمع العالمي.
وهكذا صغتُ نظرية جديدة لفهم العالم أطلقت عليها “الثورة الكونية”. وهي ثورة مثلثة الأبعاد. ثورة سياسية شعاراتها الديمقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، وثورة قيمية أساسها الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، وأخيراً ثورة معرفية مبناها الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
وقد فصلتُ الحديث في مختلف أبعاد هذه الثورة في كتابي “الثورة الكونية والوعي التاريخي”، الذي نشره “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” عام 1995 وطبع طبعتين.
وحين نشرت مؤخراً مقالي “هل العولمة هي عصر المراجعة الشاملة” (في 13/3/2008) الذي عالجت فيه المسؤولية الملقاة على عاتق كافة الدول لمراجعة سياساتها الدولية والاقتصادية والثقافية، بحكم تدفق موجات العولمة المختلفة، لم أتعرض لأهمية التجدد المعرفي الذي ينبغي على العلماء الاجتماعيين في مختلف الدول أن يقوموا به، لكي يتصدوا للمشكلات الجديدة التي تواجه الإنسانية في الألفية الثالثة. وذلك على رغم أنني طرقت الموضوع -كما سبق أن ذكرت- منذ التسعينيات حين واجهت أهمية التجدد المعرفي بصياغتي لنظرية الثورة الكونية.
غير أن الموضوع اكتسب في السنوات الأخيرة أهمية بالغة بعد ظهور مفهوم المجتمعات المعرفيةEpistemic Communities.
والمجتمعات المعرفية كمفهوم صاغه عالم السياسة الأميركي بيتر هاس Hass عام 1992، في المقدمة التي كتبها لعدد خاص من مجلة “التنظيم الدولي” (مجلد 46، العدد الأول، شتاء 1992، 1- 35). وهذا العدد من المجلة خصص لدراسة المجتمعات المعرفية في مجال تنسيق السياسات بين أجهزة الدولة المختلفة. وذلك على أساس أن صناع القرار المحدثين واجهوا تعقيدات فنية متزايدة، وضروباً متعددة من عدم اليقين في مجال صياغة سياسات فعالة، مما دفعهم للجوء إلى مشورة وخبرة الخبراء ذوي المعرفة العلمية العميقة. والشبكات التي يتشكل منها هؤلاء الخبراء يمكن أن يطلق عليها مسمى مجتمعات معرفية “يتشارك أعضاؤها المعرفة الفنية في مجالات محددة، بالإضافة إلى إيمانهم بمبادئ معيارية Normative، وعقائد خاصة بالسببية (ونعني العلاقات بين المتغيرات)، بالإضافة إلى صدورهم عن مفهوم مشترك للمصالح التي ينبغي الدفاع عنها”. ونظراً لخبرتها فإن هذه المجتمعات المعرفية يمكن أن تنشر معايير معينة وقيماً متعددة، وكذلك الخبرة الفنية، ومن هنا يؤثر أعضاؤها على عملية صنع القرار. وخذ، على سبيل المثال، المشروع المقترح من العالم المصري د. فاروق الباز لإقامة ممر للتنمية في مصر، يخرج بالسكان من الوادي الضيق، ويسهم في تعمير الصحراء.
إن المجتمع المعرفي المكون من خبراء الجيولوجيا والبيئة والري والاقتصاد والاجتماع، يمكن أن يؤثر سلباً أو إيجاباً على قبول هذا المشروع أو رفضه، لأن صانع القرار السياسي لا يفترض فيه بالضرورة العلم بالجوانب الفنية لمشاريع التنمية المعقدة والمركبة.
وإذا كان كل بلد فيه مجتمعات معرفية، فإن العولمة بكل التدفقات التي أحدثتها وبحكم أن العالم أصبح متصلاً ببعضه بعضاً Connected، بالإضافة إلى ظاهرة الاعتماد المتبادل بين الأقطار، قد أدت إلى نشوء مجتمعات معرفية عالمية، يسهم فيها الخبراء من كل أنحاء العالم، وهي تقدم المشورة لصناع القرار على المستوى الدولي والإقليمي والقُطري.
وهكذا تقوم هذه المجتمعات المعرفية بحكم الاعتماد المتبادل في الفعل الإنساني، وفي مواجهة عدم اليقين السائد في العالم اليوم، بتقديم المشورة لصناع القرار في قضايا متعددة أصبحت عالمية مثل مكافحة الفقر، ومواجهة الفساد، بالإضافة إلى صياغة الاستراتيجيات المختلفة للتنمية المستدامة. وتتمثل الأدوار المختلفة التي يمكن أن تقوم بها المجتمعات المعرفية فيما يلي:
1- عقب صدمة معينة مثل انهيار الأسواق الآسيوية فإن الخبراء يقيمون العلاقات بين الأسباب والنتائج، وكذلك تحديد من كسبوا من الصدمة ومن خسروا.
2- إيجاد الصلات بين الموضوعات المختلفة.
3- تعريف المصالح التي ينبغي الدفاع عنها.
4- صياغة السياسات.
غير أن المجتمعات المعرفية التي تتشكل من الخبراء لا تصدر عادة عن مجرد آراء علمية لحل المشكلات، لأنها عادة ما تتضمن عقائد معيارية، ونعني مفهوم الخبراء للصالح والطالح، والمفيد وغير المفيد، والإيجابي والسلبي.
وبعبارة أخرى، فإن العقلانية التي تنطوي عليها أي خيارات علمية ليست مجردة، بل لابد أن تكون ذات صلة -بصورة صغيرة أو كبيرة- بعقائد الخبراء. فهناك في المجتمعات المعرفية من يؤمنون في مجال الاقتصاد -على سبيل المثال- بالحرية المطلقة للسوق اعتماداً على آلية العرض والطلب. وهناك غيرهم يؤمنون بأهمية الرقابة النسبية للسوق وفرض معايير محددة، تضمن عدم المغالاة في مجال الأسعار والتكلفة، حمايةً للأطراف الضعيفة والعناصر الفقيرة في السوق.
وقد يذهب بعض أعضاء المجتمعات المعرفية على مستوى القُطر الواحد، أو على مستوى العالم، إلى أنه لابد أن تحتفظ الدولة بدور ما في قيادة عملية التنمية وعدم تركها لعشوائية السوق. على سبيل المثال في فرنسا الرأسمالية هناك اعتماد على “التخطيط التأشيري” من خلال السيطرة على عالم الائتمان، لضمان توجيه الاستثمارات لقطاعات من شأنها أن توزع ثمار التنمية بشكل عادل.
وكذلك الحال في اليابان الرأسمالية حيث تلعب وزارة التجارة MITI الشهيرة دوراً حاسماً في توجيه الرأسمالية اليابانية.
وأياً ما كان الأمر، فإنه يمكن القول إن خبراء المجتمعات المعرفية باعتبارهم من ناحية “حراس البوابات” أي الذين يسمحون بتمرير مشروعات معينة أو رفضها، ومن ناحية أخرى باعتبارهم يمتلكون المعرفة العلمية، فإنهم يتدخلون في أربع مراحل من مراحل صياغة السياسات:
1- في مجال التجديد، وذلك في ميدان تأطير حدود هذا التجديد، وتحديد مصالح الدولة، ووضع معايير لمستويات الأداء.
2- نشر المعرفة من خلال تسهيل التنسيق بين أجهزة الدولة.
3- الاختيار بين البدائل، والميل إلى الحلول المتوازنة والإصلاحية.
4- الاستمرارية، بمعنى أن جهود المجتمعات المعرفية لو نجحت، فإن ذلك سيسمح بتشكيل عقائد تنموية ثابتة، ودرجة من درجات الإجماع.
وفي ضوء هذه الملامح الأساسية التي حاولنا بإيجاز شديد رسمها للمجتمعات المعرفية، يمكن القول إن العولمة -بحكم آلياتها- قد خلقت فئة من المثقفين عابري القارات، الذين بغض النظر عن تنوع جنسياتهم واختلاف ثقافاتهم، قد يشتركون في عقائد ثقافية متشابهة في مجال العلاقة بين الأنا والآخر بحكم قراءتهم للمجتمع العالمي الجديد. وهناك إيجابيات كبيرة لهذا الوضع الناشئ، لأنه يمكن أن يسهِّل من عملية حوار الثقافات، ويقضي على ضروب التعصُّب وكراهية الآخر. بل إن من شأنه النقد الإيجابي للمركزيات الثقافية، بمعنى التعصُّب لثقافة ما واعتبارها أسمى من ثقافات الآخرين، وسواء كانت مركزية غربية أو مركزية إسلامية.
وقد ساعدت العولمة أيضاً -كما أسلفنا- على خلق مجتمعات معرفية عالمية، يمكن لأعضائها من خلال المشورة التي يعطونها للحكومات أن يؤثروا تأثيرات حاسمة في مسار التنمية المستدامة.
جميع الحقوق محفوظة © لجريدة الاتحاد