“قِصَر نظر” أوباما أمام اختبار غزة
هيثم مناع
في غمرة العدوان الإسرائيلي على غزة، جرى افتتاح سفارة الولايات المتحدة الاميركية في بغداد، كأكبر سفارة اميركية في العالمين العربي والإسلامي. وقد غادر السفير الاميركي أحد قصور صدام حسين الى مقر عمله الجديد الذي يستوعب من الموظفين والخبراء أكثر من كل البعثات الديبلوماسية العربية في بغداد بمرات عدة. وبهذا العمل الرمزي، تُذكرنا الإدارة الاميركية الراحلة أن الاحتلال هو الاحتلال وانتزاع السيادة ليس أغنية أو قصيدة هجاء. فالإدارة الاميركية لم تدفع ما دفعت من أجل عيون العرب والاكراد، وإن كان لأوباما أن يوقف بعض النزيف المادي والمعنوي لبلده في وقت يرث فيه أزمة اقتصادية لا سابق لها واحتلالاً في العراق وآخر في أفغانستان وطريقاً مسدوداً في فلسطين، فإن هذا الرئيس الوسيم الذي بهر العالم بكونه أول ملون يعتلي منصب الرئاسة، لن يكون وفق كل المؤشرات، وأولها اختبار العدوان على غزة، التغيير أو الحلم أو الأمل. بل لعله وفق ما نملك من مؤشرات بما في ذلك فريق عمله التقليدي، بكل المعايير، مجرد رئيس إدارة وقف التدهور
ووضع الرتوش والترقيعات الضرورية لإعادة زخرفة الحلم الاميركي.
رغم كل الأهمية التي توليها مراكز القرار الاميركي للعراق والدول النفطية الخليجية، فإن الحليف الأول والمقياس الثابت لكل من دخل البيت الأبيض كان توثيق التعاون والدعم لإسرائيل. من هنا في الرد على السؤال ما إذا كان أوباما مشروع تغيير أو مشروع تجميل، أجاب أحد العرب الاميركيين بجملة بسيطة: “التغيير الاميركي النوعي لا يمكن أن يمر فوق البيت الفلسطيني”. فالقضية الفلسطينية كالمارد كلما حاولت الدولة العبرية اختصارها في حلمها اللاواعي (الهنود الحمر)، تعود إليها أكثر حضورا وأكثر قوة. وعوض أن تسمع صوت ثمانية ملايين فلسطيني، ها هي اليوم تسمع أصوات أكثر من مليار إنسان يقولون: كلنا فلسطينيون.
حتى اليوم، كانت إسرائيل قوة إقليمية وحيدة في المشروع الاميركي، وقد اعتبرت عند الجمهوريين والديموقراطيين مربط الفرس لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. طبعا، ومنذ اتفاقات “كمب ديفيد”، لم تعد المشكلة، حتى في البروباغندا الإسرائيلية والصهيونية، تكمن في الدفاع عن حق الدولة العبرية في الحياة، وإنما في توسعها الجيو سياسي والاقتصادي ودورها الأمني والعسكري في المنطقة، بعد تفتيت فرص دولة فلسطينية جديرة بتسمية دولة على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب 1967. لكن إسرائيل ومنذ عام 2000 في حالة تقدم عسكري وتراجع سياسي ومجتمعي معمم، وهي لا تحمل أي فكرة حضارية أو ثقافية مقبولة حتى من مكوناتها التي تنحسر أكثر فأكثر في قراءات غيبية للذات والآخر. “جدار الفصل العنصري” الذي تقوم ببنائه هو الرمز لقطيعتها البشرية والثقافية والسياسية مع المحيط لأنها لا تحمل، رغم غرورها الأعمى، أية أوهام عن إمكان تحولها قوة تفاعل حضاري. وهي تخوض في مشاريع استيطان وفق برامج الأطراف الأكثر عنصرية وتطرفا في الكيان الصهيوني، ويقوم جيشها بمحاصرة وتقطيع أوصال كل ما يجعل الفلسطيني قادراً على العيش بشكل طبيعي، وها هي أمام أنظار العالم تحطم كل ما في طريقها وهي تخوض عدوانا بربريا على قطاع غزة. إن ما انحدرت إليه الدولة العبرية في خطابها الإيديولوجي عن الأمن والديموقراطية ومناهضة الإرهاب يتعرى ببشاعة الممارسات الوحشية التي تجعلها لا تثق بأقل من تغييب الآخر كقوة مادية كشرط لبقائها. الآخر كجسر ومصنع ومدرسة ومزرعة وبئر ماء ومجتمع مدني. بهذا المعنى نستجوب الرئيس الاميركي الجديد، وبهذا المعنى أيضا نذكره بأن “الحقد على الاميركي” رغم كل عمليات التطويع والتركيع لسماسرة حكمٍ وقلمٍ هنا وهناك، ما زال أقوى من كل الخطابات العقلانية عن المجتمع الاميركي. ولا شك في أن أي خطاب أمريكي جديد سيصطدم بالضرورة بحقيقة أن العميل الإقليمي الرسمي (الدولة العبرية) قوة بدون أية حكمة سياسية، تتمتع بتضخم سرطاني عسكري ترافقه حالة استعصاء سياسي، وشعور بالتفوق خالٍ من القيم الأخلاقية والحقوقية الأساسية للعصر، بكلمة أخرى، تل أبيب تجسد كل ما اعتبره العالم شؤما في الإدارة الاميركية الراحلة.
إذن، مهما كان حجم التغيير عن سياسة بوش-تشيني، فإن ميزان حرارة السياسة الجديدة مرتبط بشكل عضوي بالقضية الفلسطينية. لكن هذا الميزان لن يكون محصورا في غزة أو رام الله، فبالنسبة للمجتمعات المدنية على الصعيد العالمي، لا يمكن اختزال مصائب المحافظين الجدد بمواقفهم في فلسطين والعدوان على لبنان. وهناك عشرات الأسئلة المهمة التي تجنب الرئيس الاميركي الإجابة عليها في حملته الانتخابية منها للمثل لا للحصر: هل يقبل بملاحقة الاميركيين المتهمين بجرائم حرب في قوات حفظ السلام؟ هل هو على استعداد لإلغاء أكثر من سبعين اتفاقية ثنائية مع دول صدقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كي لا تحاكم الاميركيين على أراضيها؟ هل سيطالب بمحاسبة قوات الاحتلال في العراق وأفغانستان في جرائم الحرب؟ هل سيقبل بلجنة دولية للإشراف على الأنترنيت بدل هيمنة دولته عليها؟ هل سيوقف إرهاب الحرب على الإرهاب المتجسد بوضع العمليات في 7800 مؤسسة مصرفية تحت الرقابة وتجميد أموال عشرات المؤسسات الخيرية الإسلامية وتقييد الحقوق الدستورية بقرارات “قراقوشية” اتخذها سلفه مثل إلغاء حق الإحضار habeas corpus والاعتقال بالأدلة السرية والسماح بالضغط على المعتقلين لأخذ المعلومات (التعذيب في اللغة الحقوقية)؟ هل سيستمر في فرض تعهدات على أية جمعية غير حكومية تنال مساعدة أمريكية أهلية أو حكومية بعدم التعامل مع أي طرف تتهمه الإدارة الاميركية بالإرهاب؟ وهل ستستمر السجون السرية ويغلق غوانتنامو لذر الرماد في العيون؟
ومن كل هذه الأسئلة، ثمة سؤال مركزي يتعلق بمستقبل الديموقراطية في العالم، هذا السؤال يعود إلى أكبر انتهاك للحقوق والحريات قامت به إدارة بوش، بإعلانها الأمن معيارا لسياستها الداخلية والخارجية على حساب الحرية. وكما يقول الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن في رده على هذا الزلزال السياسي والإيديولوجي: “لقد أصبح الأمن المعيار الوحيد للشرعية السياسية. فكرة الأمن تحمل في طياتها خطرا أساسيا. إن أية دولة تجعل الأمن غاية أساسية ومصدر شرعية هي مجرد جسم هش، جسم يسمح للتعرض المستمر لتحريض الإرهاب ليصبح بدوره إرهابيا”.
قصر نظر أوباما لم يسمح له حتى الآن بإبصار تحول الدولة الأمنية الإسرائيلية إلى دولة إرهابية بكل معاني الكلمة، ولن يسمح له بقراءة ما كتب الأديب الياس خوري في معمعان العدوان على غزة: “لم يعد السلام ممكنا، لأن اسرائيل لا تريد سلاما، بل تريد هيمنة مطلقة وترهيبا متواصلا. لذا فان العقلانية الوحيدة في مواجهة النار والوحشية والدمار هي المقاومة”.
– باريس
(حقوقي سوري يعيش في فرنسا)