أخيرا: إسرائيل في قبضة المحاكمة الإنسانية
مطاع صفدي
في هذه اللحظة من تكاثف همجية التاريخ الغربي في الهوكولوست اليهودي المرتد على الصدر العربي في غزة فلسطين، يبدو أن أعلى هم إنساني يتمثل في فرض قرار الضمائر الحية في كل مكان بوقف المجزرة التلمودية الثانية والكبرى لبداية القرن الواحد والعشرين. إنه قرار منع القتلة المسعورين من استكمال الجريمة المطلقة، الموغلين في تغذية جحيمها بأجساد الأطفال والنساء والشيوخ من ذلك الشعب الفلسطيني الفريد، ليس في كونه الأخير من سلالة الشعوب المقاومة للاستعمار الأبيض بكل مراحله وتطوراته المعاصرة بخاصة، ولكنه هو شعب المقاومة الرائدة لمستقبل آخر مختلف في طبيعة علاقات القوة السائدة حتى اليوم بين طواغيت العالم وضحاياهم.
فالدفاع الذاتي الحقيقي الذي لا يزال يمارسه شعب فلسطين منذ ستين عاماً وأكثر، كان يقدم، في كل جولة صراع مع الغزاة الصهاينة، براهينه الحاسمة المتجددة، على أن مبدأ التمسك بالأرض التاريخية من قبل أصحابها، هو مصدر المشروعية الإنسانية أولاً، لحق التملك من الوطن، ضداً على كل مشروعية أخرى مستوردة، ومفروضة بقوة الأمر الواقع لطرف دولي عارض وطارئ. هذا الوضع الالتباسي الزائف لما يسمى بحق إسرائيل في الوجود والأمن، يعرف العقل الغربي نفسه الذي اخترعه وفرضه، أنه وضع مرتهن بمدى قدرة إسرائيل على التطور من حال مستعمرة غازية إلى دولة مستقرة.
الغرب قلق إزاء هذا الارتهان الذي يدرك أنه من طبيعة وجودية أنطولوجية، وليست سياسية أو أمنية عابرة. ولذلك يجد نفسه في كل واقعة صدام دامية، مندفعاً بكليته وراء صنيعته إسرائيل، مأزوماً (من) وقابلاً بكل أفعالها الشريرة التي تستعيد عبرها خلاصة الذاكرة الاستعمارية لإمبراطورياته الغابرة.
لكن بعض الغرب، وبالنسبة لبعض طلائعه المثقفة، فإن اختصاص إسرائيل بصنف المجازر الجماعية للعزّل المدنيين وأطفالهم ونسائهم، قد يتعدى فظاعات ذاكرة الغرب الأوروبي الاستعمارية. إنها بالأحرى تنتج نسخة جديدة عن ذاكرة التأسيس الأمريكي لمستعمرتهم، التي دعوها فيما بعد وطناً لهم باسم الولايات المتحدة الأمريكية. مع العلم أن أمريكا استطاعت تجاوز رهانها الأنطولوجي بين أن تكون مستعمرة غازية أو دولة مستقرة. فلقد استطاعت أمريكا، وهي في طور المستعمرة، أن تبيد مائة مليون من السكان الأصليين، ومعهم تاريخهم البشري والحضاري. أما إسرائيل فهي لا تكاد تبرح قليلاً طبيعة المستعمرة الأصلية، كما قد يخيل إليها حتى ترتد إليها، لتمارس مجدداً أبشع وسائلها القذرة المعتادة.
إسرائيل كمستعمرة، جسم دخيل على طبيعة المنطقة كجغرافيا وتاريخ ومجتمع، محتاجة منذ انزراعها إلى خوض دورات من العنف ضد البيئة الكبرى حولها الرافضة لها. إذ إنها مضطرة إلى أن تبرهن لشعبها أن تمتّعها بعامل القوة المتفوقة هو الشرط الوحيد الضامن لاستمراريتها. كل الحروب التي خاضتها ضد دول المحيط لم تشنّها للأسباب التي تعلنها عادة، بقدر ما هي للتعبير عن علة وجودها المفتقر أساساً إلى أصول الكيان الطبيعي لأمة حقيقية متأصلة في أرضها وبيئتها. فالعنف اللاأخلاقي الذي يعتمد وسيلة الايقاع بأكبر عددٍ من الضحايا من المدنيين العزل بخاصة، وليس من المقاتلين أو العسكريين، هذا العنف الشرير الأعمى ملازم لمسيرة المستعمرة المغتصبة لأوطان الآخرين.
لا تعرف المستعمرة اليهودية من ثقافة الحرب إلا القتل المجاني لمزيد من الأعداد الكبيرة بوسيلة المجازر الكلية الغادرة بالشعب الأصلي. فإن بقاءه الديمومي هو شهادة بقاء مقاومته اليومية التي تكذب زيف اسرائيل المستعمرة، وتؤكد موت مستقبلها بدءاً من حاضرها العاجز عن استكمال شروط الوجود لدولة حقيقية.
مثقفون يهود كثر داخل إسرائيل وخارجها في أوروبا وأمريكا يترددون في الاعتراف بإسرائيل كياناً قابلاً للحياة والاستمرار بعوامله الذاتية، والبعض منهم يعبِّر عن حرجه كلما ارتكبت إسرائيل مجزرة جديدة، بإعادة رفضهم الانتماء للمشروع الصهيوني، كموقف (أخلاقي) للتبرؤ من صنيعته اسرائيل، وتحديداً فهي كانت مستعمرة لإيواء يهود أوروبا الناجين من محرقة النازية. لكنها تحولت إلى مستعمرة عسكرية برسم التأجير للإمبراطورية الأمريكية في حقبة صعودها واستئثارها بقيادة العالم. فهي ليست مجرد قلعة متقدمة للغرب في عمق الشرق العربي والاسلامي، وإن كان لها هذا الرمز الدال على بقية حياة للذاكرة الاستعمارية المكبوتة تحت مدنية الغرب المدّعاة، من قبل بعض فلاسفته، شبه المنسيين اليوم هم وأفكارهم المتفائلة بأحقية التنوير المنتصرة لا محالة!
وفي لحظة هذه المذبحة العظمى التي يقترفها جيل أخير من قادة المستعمرة العسكرية، ضد مليون ونصف المليون من عرب فلسطين ألا يجدر بالنظام العربي أن يفتح عينيه ولو لمرة واحدة ليرى واقع أمته التي استمرأ تجاهلها، والمشاركة الفعالة مع أعدائها في تشويه حقائقها البديهية، والإمكان في تعجيزها، وتشتيت إمكانياتها؛ فالكارثة الفلسطينية الراهنة لا تجدد مسؤولية النظام العربي عن كونه هو المنتج الأول لأخطر أسبابها، وفي هذه الجولة المسعورة، المتفوقة على تراثها المعهود من فنون الوحشية المطلقة، عبر جولاتها الشريرة السابقة، لا تفعل ذلك فحسب، لا تكشف مذابح غزة فقط عن مدى ولوغ الحاكم العربي، في نوعية الجريمة السياسية ضد شعبه ووجدانه فقط، بل ها هو ينخرط أمام الملأ العربي والإسلامي والعالمي، في المشاركة الفعلية بجرائم الإبادة ضد الإنسانية.
بعد غزة يعيد القاتل الصهيوني تصنيف نفسه بنفسه، وكما كان دائماً عبر مسيرته الظلامية، ليس مجرد عدو للفلسطينيين لكونه حاملاً لهذه الهوية فحسب، بل لكونه إنساناً، كيفما هو الإنسان أفراداً أو جماعات وأُسراً، أو شعباً كاملاً. بالمقابل كيف يجيز النظام العربي لبعض حكامه المضي في الاعتراف بإسرائيل، كدولة ذات مشروعية قانونية، في الوقت الذي يجمع فيه أحرار العالم الغاضبون، على سحب المشروعية الإنسانية وليس الأخلاقية وحدها، من هذا الكيان الصهيوني السفاح. فهو الذي عمل جاهداً على تكذيب وإبطال ذلك الرهان (الوجودي)، الموهوم، على إمكانية تطوره وتحوله من مستعمرة عسكرية طارئة إلى دولة شرعية مستوفية لشروطها الذاتية والدولية. لكن حصيلة هذا الرهان أن إسرائيل التي ابتدأت كمستعمرة لعسكرة اللاجئين أو الغزاة اليهود، نمت وانتهت إلى مستعمرة عنصرية، مقودة دائماً بنخبة من القتلة المرتزقة، وهي برسم التأجير والاستثمار من قبل المشروع الإمبراطوري، الأمريكي، الذي يواجه مصيره كذلك مع آخر أجداث ضحاياه في غزة فلسطين بعد العراق ولبنان.
ستكون غزوة إسرائيل لغزة لا كسواها من واقعات حروبها ضد الفلسطينيين والعرب، إنها الغزوة البالغة أقصى حدود الهمجية المنظمة التي اخترقت فظائعها سجوفَ الصمت العالمي، أخرجت مؤسساته (الإنسانية) عن تقاليد حيادها المصطنع. فاضطرت إلى التأشير على المجرم الحقيقي. هذه هي فضيحة إسرائيل، الكبرى، التي طالما تجاهلها الغرب. لكن إنجازاتها هذه المرة تخطت كل تابوهات المعايير المزدوجة. اضطرت الصحافة الأوروبية إلى نقل بعض براهين الصور والوقائع. فالفضيحة هي من طبيعة الإبادة الإنسانية الكلية التي لم يعد في طاقة أية سياسة متبجرة، أي إعلام عنصري، أن يجادلا الحقيقة الساطعة؛ هذه (إنجازات) الهمجية المطلقة تملأ شاشات الضمائر، بعد أن اكتسحت فظائعها أسوار القارات والحضارات. فالمستعمرة العسكرية أمست أسيرة فضيحتها الكبرى. ذلك هو أعظم قفص اتهام ينقضّ على الجلاد. انطلقت المحاكمة العالمية، في ضمائر أحرار الإنسانية أولاً. لكن الإنكاريين من العرب المقتنعين بالدولة الإسرائيلية وكيانها الدستوري والقانوني كما يدعون لا يزالون يساوون بين الضحية والجلاد وفي ظروف هذه المعركة الفاصلة بين مشروعية المقاومة، و(الأحقية) الكاذبة للمستعمرة العسكرية أن تكون لها دولة ديمقراطية.. وبالتالي يحق لها الدفاع عن نفسها، وإن بالإبادة لأعدائها. وعلى ذلك فالمنطق الإنكاري الذي دأب على إبطال مشروعية المقاومة المستمدة أصلاً من أحقيتها الإنسانية والوجودية، يواجه مأزقه الوطني والأخلاقي الأصعب، منذ انخراطه في عملية (أوسلو)؛ ذلك إن قرار الاختيار بين الحق والباطل، يبلغ ذروته الأعنف إزاء المقتلة الفلسطينية الكبرى المستمرة في غزة. فيبدو أن وحدة الموقف للجماهير العربية والرأي العام العالمي إزاء هذه المقتلة، والتأشير الواضح على مرتكبيها، هذه الوحدة التي هي الثمرة الأنضج لمسيرة المقاومة بمعناها السياسي والحضاري الشامل، لم تفعل فعلها المؤثر بعد في حل عقد المأزق الإنكاري لدى المتمسكين بأسبابه والمتعامين عن نتائجه الكارثية، خاصة بالنسبة لبعض رؤوسه الحامية وأبواقهم المحترفة لفن الكذب، وتغطيته بالمزيد من الكذب ووقاحته.
فلسطين القضية الإنسانية المركزية لهذا العصر، تنال جائزتها التقديرية من اعتراف الجمهور العالمي الحر بأحقيتها الناصعة ضداً على آخر جيل من مجرمي الحروب. إنها اللحظة المصيرية التي تمزق فيها إسرائيل أسطورتها بيدها. تقشع عنها وهم الدولة الديمقراطية لشعب من ضحايا المحرقة النازية، لتظهّر تحتها مشروع المستعمرة العسكرية، المتحولة إلى قلعة محكومة من مرتزقة القتلة، برسم التأجير لعصر الامبراطورية الأمريكية الآفلة. إنها الدولة الوحيدة في الخارطة العالمية التي يتسابق زعماؤها نحو الحكم، بحسب نسب القتل للعرب التي يحققها كل فرد منهم إزاء الآخر من منافسيه.
هل يعي أحرار العرب ما تعنيه فضيحة المستعمرة القاتلة التي انهارت أوهامها مع أذيال الرأسمالية المتوحشة؟ لقد آن أوان محاكمة الجلاد المقبوض عليه في قفص فضيحته مع تاريخ جرائمه كلها. هذه الواقعة لا بد لها أن تغير قاموس اللغة النضالية كلها. فالصراع اليوم كوني وإنساني، والعرب هم رواد ساحاته الجديدة ، شاء (الإنكاريون) منهم أو أبوا.
‘ مفكر عربي مقيم في باريس