صبحي حديديقضية فلسطين

جمهوريات مجرم الحرب

null
صبحي حديدي
‘باراك يسيّر البلد على غرار جمهورية الموز، والمكتب يُسيّر بطريقة عشوائية تحت ـ أرضية. وليس في وسعك تسيير بلد عن طريق تفحّص استطلاعات الرأي كلّ ليلة، ثم التصرّف طبقاً لها. باراك يعمل لوحده، ويسيّر كلّ شيء بنفسه. كلّ من يحيط به أُصيب باليأس. وهو محاط بوزراء لا يريدون له النجاح حقاً. باراك لديه خمسة مستشارين صحافيين، كلّ منهم يغنّي على ليلاه. وحين يصل إلى المستشار الثالث، فإنّ الأمور عندئذ ستختلط عليه. ذلك يؤذي حدّة ذهنه، وتركيزه، وقدرته على إنجاز الأمور’.
هذا التصريح اللاذع يتحدّث عن إيهود باراك، رئيس وزراء الدولة العبرية الأسبق، زعيم حزب العمل الراهن، ووزير الدفاع الحالي الذي يقود المجازر الهمجية ضدّ أهل غزّة. وأمّا القائل فهو شمعون بطاط، الذي كان يشغل منصب المدير المساعد لمكتب باراك حين كان رئيساً للحكومة، واستقال في صيف 2000، فانضمّ إلى لائحة طويلة ممّن صفقوا الباب خلفهم وانفضّوا عن رئيس وزراء انتُخب في أجواء محمومة من الحديث عن طور جديد في عمر إسرائيل، بل عمر الحركة الصهيونية بأسرها كما تردّد.
جمهورية موز، إذاً! والذي يديرها على هذا النحو هو الجنرال ‘الأكثر أوسمة’ في تاريخ الدولة العبرية، المختصّ في الفيزياء والرياضيات وعلوم الأنظمة، والعاشق للموسيقى الكلاسيكية، وعازفها. أكثر من ذلك، إنه الرجل الذي أطلق، بعد دقائق على إعلان انتخابه، تلك الشروط ‘الستراتيجية’ الكبرى التي لا تترك للإسرائيلي العادي هامش ملامة واحداً ضدّ الجنرال المنقلب إلى سياسي أريب: القدس ستبقى موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لا عودة البتة إلى حدود 1967، وغالبية المستوطنين في يهودا والسامرة سوف يواصلون الحياة تحت السيادة الإسرائيلية.
Bibi-compatible، كما قال بعض المعلّقين الإسرائيليين الأذكياء في وصف قدرة باراك على ‘التطابق’ مع برامج خصومه، أياً كان الخصم، وأياً كانت درجات التناقض. وقبل نحو عام من فوزه بقيادة حزب العمل، كان الكاتب والجامعي الإسرائيلي أفيشاي مرغاليت قد نشر مقالة في ‘نيويورك ريفيو’، تناولت صعود باراك، وحملت عنوان ‘إسرائيل الأخرى’ لأنّ جوهر ستراتيجية باراك نهض على إعادة اكتساب إسرائيل أخرى إلى صفوف حزب العمل: تلك المؤلفة من اليهود الشرقيين (المغاربة واليمنيين بصفة خاصة)، وشرائح الوسط (الذي قد يكون مجرّد صيغة مفهومية وليس قوّة اجتماعية)، فضلاً عن إسرائيل الديانة والقبائل والإثنيات. وكان مرغاليت قد توقف عند دلالة انعقاد مؤتمر حزب العمل في بلدة نيتيفوت، البعيدة تماماً عن تل أبيب (أي عن مركز نُخَب حزب العمل)، القريبة من غزّة، والبلدة التي أعطت نسبة 86′ من أصواتها إلى نتنياهو، و11′ فقط إلى منافسه شمعون بيريس.
في ذلك المؤتمر، الذي انعقد سنة 1997 بعد مرور عام ونصف العام على اغتيال إسحق رابين، وعام على هزيمة شمعون بيريس، ألقى باراك كلمة بالغة المغزى، حملت ملامح عقيدته السياسية المستقبلية. ولقد اعتذر من اليهود الشرقيين الذين أرسلهم الحزب إلى مناطق تنموية مثل نيتيفوت، حيث جرى ‘تمزيق معظم النسيج الإجتماعي’، وعانى المستوطنون من ‘آلام سوف تظلّ محفورة في قلوبهم وفي قلوب أحفادهم’، ثم ختم بالقول: ‘اعترافاً بتلك المعاناة وذلك الألم، ومن منطلق التماهي مع المعذّبين وأحفادهم، فإنني من هذا المنبر أطلب المغفرة باسمي شخصياً، وباسم حركة حزب العمل التاريخية’.
كان باراك يدرك جملة حقائق ثقافية وسوسيولوجية، هي التي جعلته يمارس لعبة الإزدواج والتلوّن، في رأسها حقيقة أنّ اليهود الشرقيين ليسوا ضدّ العملية السلمية لأنهم يكرهون السلام على نحو تجريدي، بل لأنّ ذلك السلام سوف يكون لصالح اليهود الأشكنازي، نُخَب حزب العمل، أو شرائح رجال الأعمال والأثرياء الذين سيكونون الأوفر حظاً باقتسام غنائم ‘الشرق الأوسط الجديد’ كما بشّر به بيريس. وباراك تذكّر، ربما أكثر بكثير من جميع قادة حزب العمل أو الجيل التالي من قادة الليكود، أنّ مناحيم بيغن فاز في انتخابات عام 1977 لأنه جنّد اليهود الشرقيين، وأقام برنامجه الاجتماعي ـ الثقافي على ذلك التناقض الصارخ بين ‘مليونير الكيبوتز الناعس في حوض السباحة’ و’الفقير الكادح في الضواحي وبلدات التنمية’.
من جانب ثانٍ، كان باراك يدرك أنّ إيغال أمير، قاتل رابين، ليس سوى أحد الأحفاد الذين قصد الإشارة إليهم في خطبة الإعتذار تلك. وإذا كان أمير قد أعلن أنه اغتال رابين لكي يغتال اتفاقات أوسلو، فإنّ الخلفيات السوسيولوجية والثقافية والنفسية والإثنية أعلنت أنّ تنكيل نُخَب حزب العمل باليهود اليمنيين (معسكرات، تمييز عنصري في الدراسة والإقامة والعمل، اختطاف أطفال لإجراء تجارب صحية ونفسية وبيولوجية…) كانت تستقرّ عميقاً في روح أمير، وكانت تحرّك فيه نوازع الحقد على المؤسسة.
وبلدة نيتيفوت، التي شهدت خطبة باراك قبل 11 سنة وتذوق اليوم طعم الحياة تحت صافرات الإنذار وصواريخ ‘غراد’ الفلسطينية، هي جمهورية الموز المصغّرة الدامية التي يديرها باراك بالطائرات والدبابات والمدافع، وعينه على انتخابات الكنيست القادمة. وأمّا ضحايا غزّة، فإنّ النصّ التوراتي العتيق كفيل بغسل يدَيْ مجرم الحرب، من كلّ إثم وجريمة ودم: ‘ولا تعفُ عنهم بل اقتلْ رجلاً وامرأة. طفلاً ورضيعاً. بقراً وغنماً. جملاً وحماراً…’؛ سفر صموئيل الأول، 15: 3ـ4.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى