بيان الأخوان المسلمين السوريين المفاجئ: اكتشاف متأخر لوطنية النظام السوري
عبد الرزاق عيد
في هذا المقال سنتابع- مع الأخوان- حوارنا السابق “لماذا يصالح النظام عون ولا يصالح الأخوان المسلمون”، بعد أن أثار ردودا واستجابات متعددة ومتنوعة: بغض النظر إن كانت سلبية أم ايجابية، وفي أوساط متعددة إسلامية أو علمانية… فقد أتى البيان الأخير الصادر في 7/1 / عن الأخوان المسلمين2009، استمرارا ومواصلة بل وتعزيزا وتأييدا لنزوع قوي في وسط الجماعة -فيما بدا لنا- يراهن بشكل خجول وموارب على المحور (السوري – الإيراني) بوصفه محور مناضلة ومدافعة ضد إسرائيل، كما يتداعى إلى ذلك أكثر الحركات الأخوانية عربيا – ربما بسبب تأثير المحور الأخواني المصري الذي كنا نعتقد أن المحور الاخواني السوري قد تجاوز المصري وتخطى شعبويته وشعاريته باتجاه حركة إسلامية عقلانية مدنية ليبرالية تتقاطع مع الإسلامية التركية التنويرية الديموقراطية في مواجهة الثيوقراطية الإيرانية وهجومها الطائفي المذهبي التشييعي على المنطقة من خلال استخدام النظام السوري الطائفي وحزب الله كمخلبين- وذلك لالتفاف هذه الحركات الأخوانية عربيا حول زعامة ايران، ومن ثم حول دمشق التي تحولت إلى مركز استقطاب للمؤتمرات (القومية- الإسلامية) وهتافاتها بالروح والدم (لسوريا الأسد)؟ كل ذلك سيقود الأخوان السوريين إلى الإنشداد أو التقرب -مباشرة- من محور بازارات المهرجانيات الشعاراتية التي تحركها: (الوظيفية الاقليمية الايرانية في الوثب على القضية الفلسطينية بوصفها المقدس الإسلامي الوحيد الذي من خلاله تتمكن من تثمير مشروعها القوماني المذهبي أو الوظيفية التأبيدية للنظام السوري في مواجهة استحقاقات قانونية وجنائية وجرمية اجرائية وطنية ودولية، ناهيك عن الاستحقاقات الوطنية التاريخية نحو الجرائم وانتهاكات النظام تجاه شعبه ومجتمعه).
هذه المنظومة الشعارية (التجارية: السوبرماركت السوري الذي يبيع كل أنواع الإيديولوجيات: القومية واليسارية والإسلامية والمذهبية والجهادية والسلامية حتى بالتفاوض المباشر مع اسرائيل) ستفرض على الأخوان تحدي خطاب المنافسة الشعارية من جهة، في موضوع لا يحتمل أية ذرة من (البريغماتية) الشعارية، الشعبوية التلفيقوية ذات الوظيفية التعبوية التجييشية، لأنه موضوع إنساني أخلاقي بالدرجة الأولى، إنه دم أطفالنا ونسائنا في غزة الذي هو أعز وأنبل وأشرف من أن يكون موضوعا للاستخدام السياسي الإيرانو-سوري. وأنا أعرف معظم قيادات الأخوان المسلمين في الخارج، وأعرف مناقبيتهم الأخلاقية والوجدانية الرفيعة وسموهم السلوكي المترفع عن الصغار والتكسب السياسي الذرائعي على حساب أهل غزة وأطفالها. ولذا كان عليه التريث قبل قراره الأخير بما يشبه تبرئة النظام من الهزائم التي ألحقها بالأمة عبر الحديث الموحي بوطنية هذا النظام، وهذا ما يميزهم كأصحاب دعوة روحية وأخلاقية تحتاجها سوريا لفترة طويلة من الزمن لإنقاذ ما يمكن انقاذه من تخريب ممنهج ومنظم للقيم الأخلاقية الوطنية التي كرسها النظام إراديا، وذلك من أجل تمكين (الفساد بنيويا) كنظام متكامل يتيح للصوص إطارا نظاميا يمارسون من خلاله فسادهم ونهبهم ولصوصيتهم دون أن يكون هناك مدعاة للإدانة الأخلاقية، ولكي يكون من الطبيعي أن لا ينظر إليه كممارسة لا وطنية تهدم البلاد لصالح زبانية من عصابات مافيوية آخر ما يخطر لها أن تكون معنية بمسألة الوطن أو الوطنية إلا بحدود ما يدخل في حساباتها ومكاسبها المافيوزية ومن ثم بقائها. بل ويهبط الموقف السوري تجاه المسألة الوطنية والقومية ويتدنى إلى مستوى أقل من (التوظيف) الايراني لـ”العقيدة” الذي قد يبرره صراع ميزان المصالح والطموح القومي الايراني في منطقة الشرق الأوسط، لكن ليس من مبررات للنظام السوري اليوم أكثر من الشغب وإشاعة الفوضى والاضطراب في المنطقة لتعويم المحكمة الدولية التي تنتظره خلال أسابيع…هذا التعويم حتى ولو كان في دم أطفال غزة…
إن النظام الذي كان يعلن عن الاستعداد المباشر للتفاوض مع اسرائيل بشرط إشراف أمريكا، هو الذي يسجن أصدقاءنا في زنزاناته باتهامهم بصداقة أمريكا (12 سنة للدكتور كمال اللبواني) لزيارته أمريكا ولقائه بعض ممثلي إدارتها. هو نفسه النظام الذي يراهن على تعميم الخراب في المنطقة إذا لم تجد إسرائيل عبرالولايات المتحدة حلا لمشكلته مع القانون الدولي. وعلينا في هذا السياق أن ننظر للمفاوضات السورية الإسرائيلية من هذا المنظور. فإذا وجدنا ثمة تصعيد ودفع للمنطقة باتجاه التدهور، فهذا يعني أن اسرائيل لم تتمكن من تقديم وعود وضمانات للنظام لتخليصه من مقصلة المحكمة الدولية، وهذا ليس استنتاجنا، بل هو حديث علني وصريح من قبل وريث آل الأسد الصغير بتهديده في إغراق المنطقة في الدم بدءا من بحر قزوين، إذا لم يبادر المجتمع الدولي لحل المشكلة الجنائية للعائلة الحاكمة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ويبدو أن المفاوضات أظهرت لهم أن اسرائيل ليس لديها حلول على هذا المستوى، فتلاقت مصلحتهم بالفرار من الجريمة مع مصلحة ايران في إعلان حربها على العالم العربي لتصدير أزماتها الداخلية من خلال أوهامها على ممكناتها في قيادة الشارع العربي وإسقاط أنظمته لتتقاسمه اقليميا ووظيفيا مع اسرائيل بعد فرض سلاحها النووي كأمر واقع على العالم، وذلك من خلال الاعتماد على وكلائهم في المنطقة ممثلين بـ (وكيل ولي الفقيه الأول) المكلف بادارة العداء مع أمريكا واسرائيل (آل نصر الله وحزب الله)، في مقابل (وكيل الفقيه الثاني من آل الحكيم) العراقي (المكلف بالصداقة مع أمريكا)، بل والداعي لتعويض ايران على حربها مع العراق ومن موازنة الشعب العراقي المذبوح، هكذا تتذاكى وتتشاطر إيران من خلال وكلائها، ليس على العرب والمسلمين فحسب بل والعالم.
يدعو بيان جماعة الأخوان المسلمين إلى تعليق نشاطها المعارض للنظام السوري للتركيز على دعم غزة وتوفير لكل الجهود للمعركة الأساسية… ولتوفير جهودالاثنين: النظام والأخوان…!!!
هذه الصياغة من حق الأخوان أن يبرروا فيها تعليق نشاطهم، لو كان نشاطا مقاتلا وشاغلا للنظام عن معركته الأساسية مع العدو بحق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يفترض أن يكون هذا النظام مقاتلا للعدو بحق… وقد دعم البيان هذه الصيغة ما سماه البيان ” توفير جهود الاثنين”، وهذا أول إعلان صريح بتصديق النظام بأنه معني بأولوية المسألة الوطنية والمسألة الفلسطينية من خلال الحديث عن توفير جهوده التي يفترض بها الوطنية المخلصة، مما يسقط أي معنى لمعارضة الأخوان له خلال عقود، ويتعزز هذا المعنى بالحديث عن النظام “بأنه يبذل الجهود في هذه المعركة الأساسية…. !”
نقول للأخوة: رأيكم الجديد في النظام هذا كان رأينا كيساريين من قبل، وكنا نبني سياساتنا على أساس هذه الأطروحة
ونتحالف معه… فهل تعتبرون إننا كنا على حق في تحالفنا في الجبهة الوطنية التقدمية…؟ وأن نقدنا لسياساتكم كان على حق باعتباركم ما كنتم ترون حقيقة ما نرى؟ وإذا كان ذلك حقاً، فهل تعلنون صراحة أن أولوية هذا النظام –حقا- هي القضية الفلسطينية…!؟، وأنه يعتبرها القضية المحورية مثلما تعتبرونها… ولهذا تعلقون نشاطكم الرمزي… لأنه ليس في سوريا –على أي حال- أحد يمارس نشاطا فعليا واجرائيا ومؤثرا على الأرض سوى النظام الطغياني المتأبد المحتكر عنفيا واجراميا السياسة والاقتصاد والوطن…!؟
هذه الأطروحة لبيان الأخوان أتاحت لمن كتبه وصاغه -بكل سهولة وسلاسة -الحديث عن (بلدنا سوريا “الدولة والشعب” في مواجهة العدوان…) وهي الصيغة ذاتها التي طالما استخدمناها، ولطالما أسس النظام عليها حربه ضد المجتمع، وطالما لاكها – بسفاهة ورقاعة خطابية زائفة ومكشوفة- خطاب نظام أسد من الآب إلى الإبن…
حيث تحولت إلى أداة لبناء منظومة ايديولوجية متكاملة لبناء دولة الفساد ومشروعية العنف ضد المجتمع والسياسة، إذ أمدت هذه الأطروحة الممارسة الأسدية القوموية الزائفة نحو القضية الفلسطينية مشروعية الوصاية والهيمنة على القرار الفلسطيني بوصفه النظام الوطني الذي تتوحد فيه الدولة والمجتمع ضد العدوان، باعتبار هذه الصيغة (مقولة مقاولة) على هذه القضية، حيث تترك مفتوحة بدون حل، لابتزاز الأطراف العربية وخاصة الخليجية الأموال باسم الصمود والتصدي، وحيث تتحول دمشق الى قلب العروبة النابض بالفساد والشعارات والأكاذيب والتكسب والارتزاق بالقضية الفلسطينية، ومن ثم الوصاية الأبوية عليها، حيث هذه الوصاية تعطيه حق أن يصفي 3500 فلسطيني في تل الزعتر باسم فلسطين، وحيث على الشعب الفلسطيني في غزة الآن أن يتحمل انتقامات ومذابح الاسرائيليين أضعاف المرات دون اعتراض، ما دامت نتائج الإبادة والذبح الاسرائيلي ما زالت بعيدة عن معدل الإبادة القومية الأسدية، فهي لا تشكل –حتى الآن- إلا ربع ضحايا إحدى معارك (تل الزعتر) الأشقاء العرب القوميين الأوصياء على قضيتهم، ولذلك ليس خطأ الاستنتاج أن مآثر (الذبح الأسدي) القومي للفلسطينيين، كانت بمثابة مقياس لرفع سقف الحسابات الإسرائيلية في مشروعية حق الذبح للفلسطينيين أمام تساؤلات المجتمع الدولي أو اعتراضاته، من خلال مثال استرخاص الأشقاء العرب (السوريين القوميين الثوريين) للدم الفلسطيني…. ولن نتحدث عن أمثلة السجون والمعتقلات القومية للفلسطينيين، فهذه أمور غدت من الكماليات التي لا تستحق الحديث عنها بالنسبة لعذابات وشقاء الفلسطيني ما بين الشقيق الوصي والعدو القوي، فهل لنا بعد كل ذلك أن نتحدث عن “توفير جهود الإثنين ” أي النظام والأخوان…
لقد قضينا سنوات في سوريا (كتابا ومفكرين وحركات وأحزاب) -أيها الأخوة- ونحن نحاول أن نبرهن لشعبنا والعالم أن هذا النظام القائم ليس له علاقة بشكل الدولة ولا ببنيتها، بل إن واضع المنطلقات النظرية لحزب البعث، وصف دولة الأسد في السبعينات – قبل تقويضها النهائي بعد فترة الثمانينات – بـ(ما دون الدولة)، بل بالدولة الانكشارية أو المملوكية، لكن دون شرف الدولتين السابقتين على مستوى الدفاع عن الحمى والبلاد. ولو كنا نعتقد أن ثمة دولة يجسدها هذا النظام لما توقف الحوار معه يوما، ولما كان انتقالنا في “اعلان دمشق” لاستبدال شعار الاصلاح بشعار التغيير… فكيف بعد تقوض كل معالم الدولة بنيويا قانونيا قضائيا اداريا تعليميا صحيا نتحدث عن (شعب ودولة)؟ كيف تأتى لمجموعة هي الأكثر اضطهادا وتعرضا للفتك أن تتحدث بسهولة تامة عن واقع وجود (دولة وشعب)، فلا دولة إلا نظام طغيان العصابات العاري من القانون والمتدثر بالسلاح ضد شعبه بهدف تحويله إلى خصيان وعبيد، فلا شعب إذن سوى رعايا وجماهير سديمية بلا ملامح تفتقر للحدود الدنيا من المواطنة التي تؤسس مفهوميا لمعنى كلمة الشعب في العصر الحديث، حيث تحويلها إلى دهماء تقاد إلى ساحات التأييد والهتاف أو السوق إلى السجون…!
أي دولة هذه التي تحولت الى عصابة عائلية وراثية طائفية مرتهنة بوجودها الى الخارج المتأرجح بين إيران واسرائيل: تارة مع هذه على جبهة اللغة الظاهرية المقاتلة (ايران) ومحورها الشعاري الزاعم بالدفاع عن سيادة الأمة الاسلامية من أجل أن نلتحق بها عربيا، أي وهميا بعد أن كسر حتى رجل مهزوم كصدام حسين شوكة كل قادتها اللاهوتيين وإجبار نبيهم الخميني على تجرع السم… وتارة أخرى اللجوء(باطنيا) للحوار مع اسرائيل كبوابة لأمريكا بحثا عن الإنقاذ من قفص القصاص الدولي.
إن الأخوان المسلمين، بتكرارهم الحديث عن أولوية القضية الفلسطينية بدون مراجعة أشكال صيرورتها عبر ستين سنة، وبدون الاستنتاجات الفكرية والنظرية والسياسية التي وصلت لها الحركة الديموقراطية السورية التي يشارك بها الأخوان كفصيل أساسي، إن هذا الحديث سيكون من قبيل لزوم ما لا يلزم مادام لم يصل مع الإجماع الديموقراطي السوري القائل: إن أولوية القضية الفلسطينية (تحريريا وطنيا وقوميا) لم يعد ممكنا بدون التحرر السياسي الديموقراطي (تحرريا مدنيا :الحريات السياسية) أي بدون اطلاق قيود الشعب وتعبيراته وتمثيلاته السياسية ليخوض معركة وجوده الوطني والقومي.
وفي هذا السياق نتوجه الى الأخوان المسلمين والبعثيين والشيوعيين والليبراليين المنتمين واللامنتمين، اليمين واليسار، اسلاميين أم علمانيين، أن يتوقف الجميع عن مناقشة المسألة الوطنية إلا بوصفها بداهة وجود غير قابل في التشكيك، وليس بوصفها قضية اعتقادية فكرية ايديولوجية تسمح باطلاق حكم (الاثبات والنفي)، فليس ثمة عربي وبالتالي مسلم بالوجود العضوي والفيزيولوجي من يمتلك ترف أن يكون خارج دائرة الصراع مع الصهيونية، فالصهيونية- حتى الآن – تتعامل مع الآخرين (العرب والمسلمين) ككيانات متناقضة معها وجوديا ومتصارعة معها كينونيا (انطولوجيا)، ولهذا فنحن كشعوب تنتمي إلى العروبة والاسلام كهوية – شئنا أم أبينا –لا يمكن لنا تجاوزها أو تخطيها أو رفضها لكي نتبادل التهم والتخوين والتجريم، مثلما يرتبط الفرد بهوية أبيه وعائلته، بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع أهله، فهو لا يستطيع أن ينكرهم أو ينكروه، لكن يمكن أن ينكر عليهم طريقة فهمهم لحياتهم وطراز وجودهم وعيشهم، ويمكن أن ينكروا عليه طريقته وخياراته لكنهم لا يمكن لهم أن ينكروا عليه انتماءه إلى نسبهم وهويتهم. ولذا من المعيب والمخجل أن يخوّن أو يشكك عربي أو مسلم غيره من العرب أو المسلمين، وأن يظل هذا الخطاب الإنحطاطي متداولا بين الفلسطينيين أولا، والعرب والمسلمين ثانيا وثالثا وأبدا، فهذا الخطاب انقرض في عالمنا الحديث منذ انقراض العصور الوسطى…!
• كاتب سوري