زمن أوباما العربي
مرح البقاعي
في صباح يوم انتخابات الرئاسة الأميركية الذي أقرّه المشرّعون في الولايات المتحدة الأميركية في ثلاثاء الأسبوع الأول من شهر نوفمبر لكل أربعة أعوام، والذي صادف هذا العام في الرابع من نوفمبر 2008، أيقظتني رسالة هاتفية قصيرة ، إس أم إس، تلقيتها على هاتفي المحمول، فظننت أنها من صديقي ما وراء البحار يوقظني كالمعتاد ليبدأ صباحه بصوتي، كما يدّعي، “تقرّبا”!. لكن المفاجأة كانت كبيرة حين قرأت الرسالة التالية بالانكليزية: A great day in America, it is time for Obama، ما معناه: “هذا يوم عظيم لأميركا ، إنه زمن أوباما”!
دواعي الاستغراب والامتعاض اللذين اعتراني في ذلك الصباح يندرجان تحت عنوانين: أولهما هو فعل اختراق “خصوصية المعلومات” للمواطنين الأميركيين، والحصول على قائمة طويلة أرقام الهواتف المحمولة الخاصة، كان رقم هاتفي المحمول الخاص أحد ضحاياها، وإرسال رسالة قصيرة لها علاقة بانتخاب مرشح حكومي أميركي ـ مهما علا شأن منصبه. وهذا تصرّف ينطوي على الكثير من النزعة الشمولية واللامسؤولية السياسية من معسكر الحملة الانتخابية لمرشح الحزب الديمقراطي في ذلك الوقت، والرئيس المنتخب الحالي، باراك حسين أوباما. والعنوان الثاني يتعلق باختراق “الخصوصية المنزلية ” بما يتناقض مع المزاج الأميركي، والذي يضع عرفا أخلاقيا متداولا يتعلق باحترام خصوصية الأشخاص في ساعات الصباح المبكرة والمساء المتأخرة، وعدم الاتصال بهم، إلا في حالة الطوارئ والضرورة القصوى، أو في حال كون المتّصل من الأصدقاء أو أفراد العائلة المقربين جدا. هذا علاوة على كون الرسالة الهاتفية تكلف المتلقي مبلغا معينا حين استلامها، وهذا انتهاك آخر لحقوق المواطن الأميركي في خصوصيته وأمنه الماليين. علما أن هذه أمور يراعيها المواطن الأميركي بدقة بليغة، كون حجم الفواتير والمدفوعات الشهرية عالية جدا نظرا لحجم رفاهية الحياة الأميركية والخدمات العالية التي يحصل عليها دافع الضرائب الأميركي، وأنا واحدة من مجاميعه.
هذه الاستعادات هجمت إلى رأسي ودمي، دفعة واحدة، وفي محطة الميترو هذا الصباح، وأنا أقوم بشراء بطاقة لركوب القطار الذي يقلّني إلى مكتبي في واشنطن، وإذا بالبطاقة “تنطّ” إلى وجهي وعليها صورة ـ بحجم البطاقة تماما ـ للرئيس المنتخب باراك أوباما!
كان يتبادر إلى مسامعي في المحطة إعلانا تبثه مكبرات الصوت في الأنفاق، يعلن عن صدور بطاقة استثنائية للميترو تحمل صورة أوباما واسمه ولكني ظننت أن الأمر اختياري، بمعنى أنك حين تقرر عدم شراء بطاقة أوباما الخاصة بحفل “التتويج” ـ ولا أقول التنصيب، نظرا لحجم الاستعدادات والأموال المزهقة على الحفل ـ ستحصل على البطاقة العادية التي تحمل أرقاما للمبلغ المدفوع في البطاقة وتاريخ الاستعمال فقط، كما جرت العادة. ولكن الأمر كان مختلفا هذه المرة: فإن أنت لم ترغب “اختيارا” شراء بطاقة أوباما الاستثنائية التي تحمل صورته، فستحصل على الصورة”قسرا” في البطاقة الاعتيادية!
ذكّرني هذا الأمر على الفور بصور الرؤساء العرب التي نشأت على مشهدها، “مرشوشة دراكا”، على الجدران والنوافذ والشجر والجبل، وكل فتحة أوكسجين أو ضوء ممكنة في غير مدينة عربية.
ومن المثير للدهشة، والسخرية أيضا، أنه من جملة المحطات التلفزيونية الرئيسة التي ستغطي حفل التنصيب، بالإضافة إلى المحطات الإخبارية المحلية والعالمية، محطة التسويق والمبيع الشهيرة QVC كيو في سي. وحين سألتْ مذيعة السي إن إن ضيفتها، الخبيرة الإعلامية ، عن سبب تواجد هذه المحطة التجارية البحتة لتغطية حدث سياسي مثل هذا الحدث قالت: They want to cash in، بمعنى أنهم يريدون نصيبا من الكعكة، لأن صور أوباما تباع بصورة منقطعة النظير على كل البضائع الأميركية ابتداء بالزينة التي تعلّق على شجرة عيد الميلاد وانتهاء بالأقراط الثمينة التي تعلّق بآذان النساء، والتي تحمل صورة أوباما وأفراد عائلته، وهذه فرصة ذهبية لتسويق بضائعهم كما أفادت الخبيرة الإعلامية.
ها نحن اليوم نودع رئيسا أمريكيا هو الأقل شعبية في التاريخ الأميركي، بحذاء مصوّب إلى رأسه، ونستقبل آخرهو الأكثر شعبية في التاريخ الأميركي، والأمين على “التغيير” المرتقب، بطقوس من الاحتفاء نتمنى ألا تصل إلى حد التقديس والعبادة. فمن المؤكد أن وصول رئيس من أصول إفريقية، صاحب جلدة سمراء، واسمه أبيه حسين، هو إنجاز أميركي متجاوز لكافة الإنجازات السياسة لأعتى دول الغرب دفاعا عن المشاركة السياسية وحقوق الأفراد مجتمعة، لكن أن يتحول هذا الإنجاز إلى النظر إلى الرئيس أوباما على أنه “المخلّص” المرتجى ، فهذا شأن آخر!
وها هم العرب الذين ما فتئوا يجترّون مخاوفهم من خطورة الغزو الثقافي الأميركي وقدرته على تقويض بنيان ثقافتهم التليدة وإحالتها إلى ما يشابه النعجة دولّي التي كانت أول تهجين عولمي بامتاز، ها هم يصدّرون ممارساتهم السياسية الأقرب إلى ثقافة شعبية جارفة لجهة عبادة “الشخص”، وتأليه” الزعيم” حيا، واستنساخه ميتا، يصدرونها، بزخم، إلى الشارع الأميركي، في غزو ثقافي استباقي الضربات.
للعرب أن يبتهجوا بهذا الإنجاز التاريخي الذي يحسب لهم، فمشهد الحذاء العربي الذي يودّع الرئيس الأميركي جورج بوش في العراق على شاشات العالم، والانبهار الشعبي والرسمي بالرئيس المنتخب أوباما، والمصحوب بشحنات عاطفية عالية التوتر، إنما هي صور باهرة من صور الغزو الثقافي العربي للولايات المتحدة الأميركية؛ وعلى العرب أن يكفّوا عن تدوير إسطوانة الترهيب من الغزو الأميركي الثقافي “المشروخة”، ويحتفوا بغزوهم المعاكس!
هنيئا لكم ايها العرب.. جينات الرجل الأوحد هي الغالبة .. وكذلك سيكولوجيا الحنين الأبدي إلى إله معبود من تمر أو حجر أو ورق… أو حتى من غمام .
مرح البقاعي
أستاذة الإسلام المعاصر في جامعة جورج تاون/ الدراسات المستمرّة
مستشارة الشؤون الإعلامية والثقافية
خاص – صفحات سورية –