نصر أبو زيد: الفساد طال كل جوانب المجتمع المصري
محمد الحمامصي
حوار شامل مع د. نصر حامد أبو زيد:
** المحصلة أن هذا الشباب الذي تقتله بشكل يومي ومنظم أين سيجد ملاذه؟ في الجماعات المتطرفة!!
** أنت مجتمع “عمولي” يعتمد علي العمولات، أنت لا تؤسس بنية إنتاجية، وإنتاج الفكر لا يتم منفصلا عن الإنتاج في مجالات أخرى
** ماذا يعني أن يوضع ملف المسيحيين أو المسيحية في يد الشرطة؟! ما معنى أن تسلم المواطن للكنيسة أو تسلمه للجامع، المواطن ينتسب لوطن؟!
** الصراع الذي يرسم في العالم العربي بين الشيعة والسنة ليس صراعا فكريا وإنما احتقان اجتماعي
** لدينا دعاة تنوير وليس صناع تنوير، وهناك فرق بين أن تدعو للتنوير وتهلل للتنوير وتقول يحيي التنوير وبين أن تصنعه
** أحد أساتذة الفلسفة سألني: كيف نطبق علي القرآن وهو كلام الله مناهج البشر؟ فرددت بتلقائية شديدة: هل تفترض أنني لابد أن أصبح إلها لكي أفهم كلام الله؟
محمد الحمامصي من الاسكندرية: المرة الأولي التي حاورت فيه المفكر الإسلامي د.نصر حامد أبو زيد كانت عام 1993 بمكتبه بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان يومئذ يتمتع بحضور قوي من خلال رؤاه وكتاباته المثيرة للجدل والنقاش سواء داخل أروقة الجامعة أو بين أوساط المثقفين والكتاب، ولم يكن قد دخل بعد معركته الشهيرة التي تحولت إلي معارك بين أكثر من تيار في المجتمع المصري، للأسف انتصر فيها التيار السلفي، لينتهي الأمر بخروجه من مصر ورفع كتبه من المكتبات العامة وحتى مكتبة الجامعة، لكنه بدءا من عام 2003 وبعد ثماني سنوات يبدأ في زيارة مصر مرة لزيارة أهله ومرة بدعوة من الجامعة الأمريكية، وها هي مكتبة الاسكندرية ممثلة في مركز المخطوطات برئاسة د.يوسف زيدان تستضيفه باحثا مقيما علي مدار خمسة عشر يوما، ألقي خلالها خمس محاضرات تناولت العديد من القضايا القرآنية والفلسفية الإسلامية الإشكالية منها القرآن في تأويله اللاهوتي: المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل، و القرآن في التأويل الصوفي، انفتاح المعنى من خلال التجربة.
ود.نصر حامد أبو زيد له ما يزيد عن عشرين كتابا جلها يناقش قضايا إشكالية مهمة، من هذه الكتب: الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة ـ فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي ـ أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا ـ مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن ـ إشكاليات القراءة وآليات التأويل ـ الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية ـ نقد الخطاب الديني ـ المرأة في خطاب الأزمة ـ التفكير في زمن التكفيرـ الخلافة وسلطة الأمة ـ النص، السلطة، الحقيقة ـ دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة ـ الخطاب والتأويل ـ هكذا تكلم ابن عربي ـ اليسار الإسلامي: إطلالة عامة، وغيرها، فضلا عن المقالات باللغتين العربية والإنجليزية والمراجعات والترجمات.
** بعد ما يقرب من 14 سنة مما حدث لك في مصر سواء في الجامعة أو دعوى التفريق بينك وبين زوجتك أو والارتداد ومعارك فكرية تشابكت فيه الآراء والأفكار.. كيف تنظر إلي تلك الفترة وما عانيت خلالها؟ وبماذا تفسر هذا الذي حدث؟
** المجتمع المصري كان في حالة احتقان وفي حالة غليان ومنقسم إلي معسكرات، وكان بحاجة إلي معركة، في هذا الوقت كان الإرهاب أو ما يسمي بالإرهاب تخطى حدود الصعيد التي لم تهتم بها الحكومة كثيرا ووصل إلي العاصمة، وتمثل ذلك في اغتيال رئيس مجلس الشعب وقتئذ في عز النهار أمام فندق، ثم اغتيال فرج فودة، ثم الاعتداء علي نجيب محفوظ، كل ذلك كان ممتدا إلي الجامعة، فالمجتمع وقتئذ كان يريد دخول معركة، معركة بين تيارين في المجتمع، وقد جاءت مساءلة الترقية إلي أستاذ في هذا السياق، وكانت كما يبدو الفرصة التي أراد المجتمع كله تصفية حساباته فيها، وتصادف أن الترقية كانت خاصة بشخص هو نصر حامد أبو زيد، وهو شخص لم يكن مشغولا أن يصبح بطلا، ولا أن يستفز أحدا، ولا عنده أوهام أنه المجدد والمستنير، كان راضيا بمساءلة كونه باحثا ومعلما، ومازلت حريصا علي هذه الصفة، صفة الباحث والمعلم، كان جزءا من المعركة حقيقيا، وهذا هو الجانب الذي كنت أخوضه، معركة ضد مصادرة الحريات في الجامعة، هذا أمر كان بالنسبة لي الأمر الكثير، يعني كنت مستعدا من أجله أن أخوض معركة واثنتين وثلاثة وعشرة مع داخل الجامعة، ومستعد الآن لخوض هذه المعركة لعشرين مرة، لأن الجامعة بالنسبة لي ليست مجرد اختيار الأسرة، لا، كان دخولها حلمي، تخرجت كما تعلم بدبلوم صنايع نتيجة ظروف عائلية، حلمي كان أن ألتحق بالجامعة، كان حلما مبكرا، كنت أريد دخول الجامعة و لم أكن أعرف الفرق بين محمد عبده وطه حسين، أبي رحمه الله أدخلني الكتاب لحفظ القرآن لكي أكون مثل محمد عبده، حفظت القرآن، وأدرك أبي أنه علي وشك الموت وأن “سكة” الأزهر طويلة قياسا للتعليم العام، فكان أن قرر تحويلني من التعليم الديني إلي التعليم المدني، وأذكر الحوار الذي دار بين والدي وأصدقائه:” يا شيخ حامد التعليم الديني سكته طويلة، علي ما يتخرج ويبقي شيخ، ثلاثين سنة “، في هذا الوقت كانوا يتخرجون متزوجين، التعليم المدني كانت سكته قصيرة، حولت للتعليم المدني والتحقت بمدرسة خاصة، لأن سني كان أكبر من أن تقبلني المدرسة الحكومية، وقبيل حصلي علي الإعدادية كانت المرض اشتد علي أبي، فقرر أن يلحقني بالثانوية الصناعية لأسباب عملية، لكن الحلم الطفولي بالالتحاق بالجامعة لم يغادرني، فبعد حصولي علي دبلوم الصنايع ثم عملي، ذاكرت وحصلت علي الثانوية العامة ودخلت الجامعة التي طالما حلمت بها، ومن ثم لن أسمح لأحد علي وجه الأرض أن يأخذ منى حلم جامعة حرة، أنا رجل ضعيف لا أملك غير كلمتى، وإذا تتبعت كتابتي سوف تجد ذلك، لكن المجتمع المصري كله كان يريد معركة والمجتمع كله دخل المعركة، أنا دخلت المعركة من أجل الحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي في الجامعة، لكن المعركة خرجت عن حدود الجامعة، وهذا أمر لا أدينه، لأن الجامعة في النهاية جزء من المجتمع، الجامعة ليست أسوارا مغلقة يجب أن يتم فيها كل شيء بعيدا عن المجتمع، الجامعة عقل المجتمع، وإذا أصيب عقل المجتمع بالخراب فحدث ولا حرج، وهذا ما هو حادث الآن، ما يحدث الآن أن الجامعة حلم المجتمع المصري انطفأ، المجتمع المصري الناهض أنشأ الجامعة، محمد عبده وقاسم أمين أنشأوا الجامعة الأهلية، الآن الحلم انطفأ، لكني جزء من هذا الحلم الذي لا أريده أن ينطفئ.
المصادفة التاريخية أنني عانيت، من أجل ذلك عندما أنظر لهذه الأيام أتألم، لا أستطيع إنكار أنني تألمت في تلك الفترة، وهذا الألم منعني من أن أزور مصر لمدة ثماني سنوات، ألم وزعل وغضب، استغرق منى ثماني سنوات، خرجت عام 1995 وأول زيارة لي كانت عام 2003، أول زيارة كانت بداية أن أقول إن الألم والزعل لا ينبغي أن يكون من الوطن، وإلا فأنت توحد الوطن بالذين تسببوا في الألم والزعل، لذا قدمت أول زيارة لأهلي، ذهبت إلي الجامعة من باب أنني كنت قد بلغت الستين وبنصيحة د.حسن حنفي ينبغي أن أذهب لتسوية معاشي رسميا حتى يمكنني أن أعين أستاذا متفرغا، قال حنفي”لأنه لو سويت معاشك وأنت خارج البلاد ستفقد هذا الحق “، ومنذ هذه الزيارة عام 2003 وحتى الآن حصلت مصالحة من جانبي.
** خلال الثماني سنوات التي لم تزر فيها مصر وحتى أول زيارة، حتما كنت تراقب ما يحدث في مصر وتتابع، كيف ترى المشهد الآن وأنت في مصر وبعد عدة زيارات قصيرة لكنها زيارات مكنتك من رؤية ما يحدث؟
** في هذا العصر الحادي والعشرين ليس هناك أحد بعيد، فكرة المكان اختفت، أنت كل يوم تفتح الإنترنت وتقرأ كل الجرائد المصرية والعربية، وتتحاور عبر الإيميل والتليفون أيضا، والكثيرون يزورون أوروبا فتلتقي بهم، فلست بعيدا عما يحدث في مصر، ما يحدث في مصر يحدث في العالم العربي بشكل عام فيما يرتبط بقضية الدين والمعنى الديني، هناك فساد، والفساد يطال كل جوانب المجتمع، لم تعد المشكلة تتفق مع من وتختلف مع من؟ أصبحت المشكلة من الفاسد ومن غير الفاسد؟ أصبحت المسألة أن تقف ضد الفساد مع كل من يقف ضده، وأصبح تقييمي للأشخاص ليس تقييما بما يكتبون، أصبح تقييمي بسلوكهم، أنت جزء من نظام الفساد أم تقف ضده؟ يمكن أن تكون جزءا من نظام الفساد ولا تعي ذلك؟ يعني عندما يطرد أستاذ طالبا من مكتبه، لأن هذا الطالب لا يقدم له فروض الولاء والطاعة، هذا الأستاذ مع الفساد، حتى وإن كان هو نفسه أخلاقيا غير فاسد، وقصص كثيرة، عندما آتي ألتقي بالشباب داخل الجامعة وخارجها، عرفت ما الخراب الذي أصاب الجامعة وأصاب المجتمع، آخر ندوة حضرتها في الجمعية الفلسفية داخل جامعة القاهرة لم أقل بحثا ولكن قلت صرخة ضد الفساد والاستبداد، صرخة لإنقاذ المجتمع، لا تستطيع إنقاذ الجامعة والمجتمع غارق في الفساد، أنا يؤلمنى أشياء كثيرة جدا، ربما لأنك تعيش داخل المجتمع لا تراها، ولأنني لا أعيش فيه أراها، من يعيش في المجتمع يري للفساد الذي ينشر عنه في الصحف، غرق العبارة والدم الفاسد والقطارات التي تحترق، والمسرح ,غيرها، لكن إلي جانب هذا الفساد الذي يؤذيني، يؤذيني أكثر أن البرلمان المصري ينشغل لشهريين بقضية الحجاب، كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الموجودة في المجتمع المصري، برلمان وطن كامل مشغول عنها بعبارة قالها وزير عن حق أو عن باطل، وتصبح قضية مجلس الشعب والنظام السياسي أن يتوب الوزير، أنا طبعا من بعيد أكاد أصاب بالجنون، معرفتك بمشاكل مصر ومشاكل المواطن والقتل اليومي، القتل القتل بالمعنى المادي، كم من الشباب والشابات في المجتمع المصري يحرمون من فرصهم وكفاءتهم لأسباب: أنه من يعين معيدا لابد أن يكون ابن أستاذا، ومن يعين كذا ابن طبيب، فساد الواسطة، أن البنت لا تعين في وظائف معينة لأنها محجبة، بينما خطابك السياسي يقول إن الحجاب فريضة، هذا يصيبني بالجنون أن أري هذا القتل اليومي ” بيتم يوميا ـ اللي عايش هنا ما يخدش لباله منه ـ يتم بشكل يومي” ويكاد يكون قتلا منظما.
المحصلة أن هذا الشباب الذي تقتله بشكل يومي ومنظم أين سيجد ملاذه؟ في الجماعات المتطرفة، المجتمع يحرمه لأنه مثلا متدين، المجتمع يحرمها لأنها تلبس الحجاب، في حين قد يكون هذا الشاب أو هذه الفتاة تملك من المؤهلات ما يجعلها جديرة بالحصول علي فرصة متميزة.
أنا رجل الناس كلها تعرفني أنني ناقد للفكر الديني، ولكنى لست ضد التدين، وأتمني ألا أرى مفكرا ضد التدين، أنت ضد استخدام الدين وتوظيف الدين.. إلخ، كل هذا يصيبني ـ علي رأي أمل دنقل ـ بالعطب.
** هناك قضية لم تتطرق إليها ألا وهي قضية الطائفية، هل تعتقد أن مصر دخلت صراعا طائفيا فكريا إذا جاز التعبير بين شقيها الإسلامي والمسيحي؟
** ليته فكريا، كنت أتمني أن يكون فكريا، أتمنى أن ندخل في أي قضية فكرية، لا، ليس صراعا فكريا، ولا الصراع الذي يرسم في العالم العربي بين الشيعة والسنة صراعا فكريا، هو احتقان اجتماعي، تهميش لفكرة المواطن، لأنها فكرة تتناقض مع نصوص كثيرة في الدستور، وسياسات متراكمة، إنني أعيش في هولندا في بلد تضم أربعة كنائس قبطية، وما يحدث في أي قرية مصرية يجرح الناس في هذا البلد، ردود أفعالهم لا أستطيع أن أصفها بالعقلانية، يعني ما حدث في الإسكندرية منذ عامين، وأنا أدعى في الأنشطة الثقافية للكنيسة وانتقد الأقباط، عندما أذهب في ندوة دعي إليها الأقباط ولا أجد أي امرأة، أقول لهم: لا، الموقف من المرأة ليس له علاقة بالإسلام ولكن له علاقة بالعقل المصري، أين نساؤكم؟، ندوة لا توجد بها امرأة واحدة، في حين أنني عندما ذهبت لهولندا وذهبت إلي ندوة حضرتها سيدات وفتيات وشباب صغار، فهذا التحول الذي يحدث يحدث في المجتمع كله ومن ينتمون إليه في الخارج، المجتمع ضد المرأة، لكن أقباط هولندا يتقبلون هذا الانتقاد، لأنهم يعرفون أنني لست متعصبا، وموقفي النقدي ليس موقفا متعصبا “بيطبطب علي المسلمين وينتقد الأقباط”، هنا في مصر يوجد نوع من الطبطبة، وهناك نوع من الشماتة بين بعض المفكرين، يعني إن قام الأقباط بالهجوم علي أحد ينبسط الإسلاميون، وهذا يوجد حتى في هولندا، وواحد زميل في هولندا من العلمانيين التنويريين المتطرفين الذين يكرهون الأديان كتب مقالا قال فيها كلاما فارغا عني، المسلمون بسببها بدأوا يحبونني، لأن فلان يهاجمني، يبقي أنا لازم أكون كويس، لا ليس ذلك ضروريا، ليس هناك منطق، ما يحدث في مصر مخيف، مخيف، مخيف، أن المواطن المسيحي أصبح يحتمي بالكنيسة ولا يحتمي بالقانون ولا يحتمي بالوطن، فكرة الوطن غائبة عنه، فكرة الوطن غائبة عن الشباب، هناك تهميش واسع بسبب الفساد، هناك تهميش علي مستويات واسعة داخل كل مؤسسة، هذا مخيف، ومخيف لأنه إذا تم تفكيك النسيج فأنت مهدد بدويلات طائفية، يعني لا تستغرب إذا قال لك أحدهم عاوزين دولة للأقباط وتبقي قضية في الأمم المتحدة، والنظام لا ينظر إلي هذه المشكلة بأي مستوى من مستويات الجدية، ماذا يعني أن يوضع ملف المسيحيين أو المسيحية في يد الشرطة؟! لقد تابعت قضية وفاء قسطنطين، ما بقتش فاهم، ما بقتش فاهم حقيقي، ما معنى أن تسلم المواطن للكنيسة أو تسلمه للجامع، المواطن ينتسب لوطن، كل هذا وجع أعيشه، أكتب أحيانا كثيرة فيه نتيجة تفاقم إحساسي بأوجاع الوطن.
**علي الرغم من الجهود الفكرية الكبيرة التي تبذل من قبل مفكرين مستنيرين بارزا منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن مطلع الألفية الثالثة لا زال العالم الإسلامي أسيراً في معظم سلوكه أسيراً للنص الديني والنص التراثي.. لماذا؟
** لأنه لم يصنع التنوير، هناك دعاة تنوير وليس صناع تنوير، هناك فرق بين أن تدعو للتنوير وتهلل للتنوير وتقول يحيي التنوير، يحيي قاسم أمين، يحيي محمد عبده، يعيش نصر أبو زيد، فرق كبير جدا أن تفعل ذلك وتتحول إلي مردد هتافات وشعارات، مثل ما يفعله الإسلاميين حول ابن تيمية وسيد قطب، هتافات، وبين أن تصنع تنويرا يطال كل جوانب المجتمع، ليست هناك صناعة للتنوير بمعنى الانخراط في عمل ثقيل لتأسيس ما يسمى بالفكر التنويري، من أين يبدأ تأسيس الفكر التنويري؟ يبدأ من المفكرين ويدخل في التعليم و يقوم الإعلام بدوره، الذي صنع التنوير في أوروبا ليس الفلاسفة ولا العلماء، هؤلاء مشغولون بالكتابة والعلم، الذي صنع التنوير هم هؤلاء الذين قرأوا كلام الفلاسفة عبر الإعلام بمؤسساته الصحفية الناشئة، قرأوه عبر كتابات فهمت داروين مثلا، داروين لم يكن مشغولا لا بالكتاب المقدس ولا بالكنيسة، لم تكن تلك قضيته، كان مشغولا بتحليلاته الجيولوجية، أحدهم قرأ كتابه، وقال إن ذلك يعمل مشكلة مع ما تقوله الكنيسة، فكتب وقرأ الناس وحدث نقاش داخل المجتمع، والكنيسة عملت رد فعل، في مناخ يحمل إمكانية حدوث هذا النقاش، وهذا ما صنع التنوير.
صناعة التنوير تبدأ من التوقف عن القتل المستمر للمواهب، هذا جزء من صناعة التنوير أن أدفع عن شاب أو فتاة تحرم من حقها في الاستمرار في تحقيق ذاتها، ودخول معارك ضد الفساد، دخول معارك من أجل ترسيخ الديمقراطية، معارك حقيقية، والانخراط في قضايا مجتمعية، طبعا هناك مؤسسات مجتمع مدني تعمل عملا ناجحا لكنه جزئي لأن عملها كله في العاصمة، حتى المؤسسات الثقافية التي يمكن أن تساهم في صناعة التنوير في تصب عملها بالقاهرة، وما يسمي بالوطن المصري في الوجه البحري والصعيد بعيد عن محاولة صناعة التنوير.
لذا نعود إلي القضايا التي تصورنا أن الرواد قد طرحوا حلولا ناجزة لها سواء في النص الديني أو في الفقه أو في التراث، نعود لها مجددا، لو أنت عملت ملاحظة علي ما يدرس في الأزهر ستجد أن الطالب يتخرج في كلياته لا يعرف شيئا عن التراث، لأنه يدرس مذكرات الأساتذة، ولو دخلت جامعة القاهرة أو الإسكندرية أو.. إلي أي حد الطالب الذي يتخرج من قسم الفلسفة يعرف أبو العلا عفيفي، يعرف الأستاذ الذي درّس له فقط، إلي حد الطالب الذي تخرج في قسم اللغة العربية يعرف طه حسين أو أمين الخولي أو شكري عياد أو..، لا يعرفهم، يعرف فقط الأستاذ الذي درّس له، من يعرف نصر حامد أبو زيد يعرفه من الإعلام لا من خلال المؤسسة، المؤسسة رفعت كتبي من المكتبة، وأيامها قلت أن هذا هو السحل الحقيقي، أن ترفع كتبك من أرفف مكتبة جامعة القاهرة فهذا هو السحل الحقيقي، بعد ذلك كله قال من قال: مش أنا، رئيس الجامعة قال مش أنا، والعميد قال مش أنا وهكذا.
التنوير صناعة ثقيلة لا تقل عن التصنيع في المجتمع،أنت ليس عندك تصنيع، ولا صناعة، عندك اقتصاد يعتمد علي الفهلوة، أنت ليس عندك بنية صناعية اقتصادية، ليس عندك مؤسسات تعمل صناعة إنتاجية في المجتمع، كلها صناعات شبيسي وكوكولا و..و.. و..، نشأ التنوير مع المجتمع التجاري الذي تحول إلي مجتمع صناعي، أنت مجتمع “عمولي” يعتمد علي العمولات، أنت لا تؤسس بنية إنتاجية، كلمة إنتاج هنا كلمة مهمة جدا، لأن إنتاج الفكر لا يتم منفصلا عن الإنتاج في مجالات أخرى، ومن هنا الكلمة الرائعة التي يرددها دعاة التنوير طوال الوقت من دون أن يحللونها: ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع، نحن نتحدث عن الحرية والفكر طوال الوقت ولا نتحدث عن المصنع، طبعا الحرية شرط الفكر ,الفكر شرط المصنع، وإلا يسقط المصنع.
** في ضوء هذه الرؤية يتضح اللافعل لا لمفكرين ولا لمثقفين ولا حتى لمعلمين داخل الجامعات والأكاديميات العربية؟
** لا، المفكرون، والمثقفون بالمعنى النقدي أقلية في المجتمعات الحديثة كلها، أقلية يمكن أن يكون لها تأثير أو لا يكون لها تأثير، يمكن أن يكون لها تأثير لو أن المؤسسات الثقافية والتعليمية تأخذ الفكر مأخذ الجد، هنا الحلقة المفقودة، إذا هذه المؤسسات الوسيطة تأخذ الفكر مأخذ الجد، ينتشر هذا الفكر ببطء لكنه ينتشر ويخلق نوعا من الحوار في المجتمع، هذا ليس موجودا، فماذا سيفعل المفكر أو المثقف سيقدم كتابا أو يلقي محاضرة، يتوقع أن يناقش كتابه مناقشة حقيقية وليس نقاشا / مديحا مدفع الأجر، نحن نتكلم عن جهاز إعلامي أو تثقيفي يصنع ثقافة حقيقية عبر مناقشة هذا الكتاب أو ذاك، أنت لديك إعلام علاقته بالثقافة علاقة تجميلية، هناك بعض البرامج الجادة لا أنكر ذلك لكن العلاقة تجميلية، يعطي للتليفزيون صورة حلوة، لكنه ليس سياسة في استراتيجية الجهاز الإعلامي، الجهاز الإعلامي في العالم العربي كله هو ارضاء الجمهور، شهر رمضان ظاهرة لا تحتاج إلي تعليق منى.
** ولماذا انصب اهتمامك على النص القرآني تحديداً؟
** لأن هذا هو النص المؤسس بامتياز لكل ما أتي بعد ذلك من نصوص، النص الذي لا نص قبله، كان قبله الشعر، لكن هذا هو النص الذي حل محل الشعر، وإن عدم الاقتراب من هذا النص واعتباره بمنأى عن الدراسة التحليلية التاريخية والفهم هو ما يمكن أن يفسر لنا ما يسمى التقهقر الدائمة في حركة الإصلاح الفكري، أنها لم تدخل في جذور الأمر، ظل المشروع يتناوبه التأويل والتأويل المضاد، ووعي بهذا أن التأويل والتأويل المضاد لابد أن يجعلنا نطرح سؤالا: عما نتكلم بالضبط؟ إذا كان هذا التأويل صحيح، وهذا التأويل صحيح فلابد أن هناك مشكلة في فهمنا لطبيعة هذا النص، إذا كان مرة اشتراكي ومرة قومي ومرة عروبي ومرة أممي و..، و..
إن عدم الدخول في هذه المنطقة التي اعتبرت منطقة غير قابلة للدخول فيها بمنهج التحليل التاريخي أو النقدي، يعنى أنه لن يحدث تطور حقيقي في الفكر، سيبقي التطور فيما يسمى النتائج وليس في التعامل مع الجذور، طبعا هنا ليس هناك أي نية لقطع الجذور وتدميرها، إنما المسلمون طوال تاريخهم منذ عصر الخلفاء الراشدين عندما تكون عندهم مشكلة يعودون للقرآن، لم يحدث في سقيفة بني ساعدة لكنه حصل في الحروب الأهلية، ونحن نواصل هذا التراث، كلما واجهتنا مشكلة نعود للقرآن، لكن لم نطور نظرتنا للقرآن بحيث نستطيع أن نجد الإجابات الملائمة لعصرنا، ونكتفي بالإجابات الذين سبقونا، الذين سبقونا كانوا أشجع منا طوروا نحن عاجزين عن تطويرها، وهذا ما كان يدور في فكري، الرجوع إلي القرآن يحتاج إلي تطوير الأدوات، لا نكتفي بالأدوات التي قدمها أسلافنا، وإنما نحتاج إلي تطوير أدوات، ولن يتحقق تطوير الأدوات من غير أن نعيش المعرفة المعاصرة، كما عاش أسلافنا الحياة المعاصرة في زمنهم، وهذا ليس أمرا إدا.
في جامعة الإسكندرية عندما جئت أقاموا ندوة حول كتابي مفهوم النص، وأحد أساتذة الفلسفة سألني سؤالا: كيف نطبق علي القرآن وهو كلام الله مناهج البشر؟ فأنا بتلقائية شديدة قلت: هل تفترض أنني لابد أن أصبح إلها لكي أفهم كلام الله؟ قدري أنني إنسان وليس عندي غير مناهجي التي أبدعها وأطورها، وهذه المناهج تجعلني أفهم كلام الله، فصفق الطلاب الأمر الذي جعلني أشعر بالحرج، أنني أحرجت الأستاذ، لكن الأستاذ كان من سعة الصدر بحيث رد: لقد كنت أريد أن أسمع منك هذه الإجابة ولم أحرج بل صفقت لك كما صفق الطلاب.
هذا كلام الله وكلنا يؤمن بذلك، لكن ليس أمامنا وسيلة لفهم كلام الله إلا بأدواتنا كبشر، وأدواتنا كبشر تتطور، وهذا يجعل هناك إمكانية أن يتطور المعنى الديني بتطور معرفتنا، ومن هنا لابد أن نضع في اعتبارنا دور البشر في إنتاج المعنى الديني، الفكر السائد اليوم أنه ليس هناك بشر ينتجون المعنى الديني، وأن المعنى الديني الذي أنتج في العصور السابقة أنتجه ملائكة، وهذا يفسر لك سر الهجمة الشرسة لأنني تكلمت علي الإمام الشافعي، كيف تتكلم عن الإمام الشافعي؟ الإمام الشافعي هنا أصبح مقدسا، هذه كلها مشاكل.
أنا أعتقد أنه لم تحدث مقاربة وتطوير أدوات لفهم النص الديني تقوم علي معرفة تاريخه ومعرفة بنيته ومعرفة الفضاء اللغوي الخاص به، سنظل نأخذ رأيا من هنا ورأيا من هناك ونقول إن هذا تفسيرا جديدا، حسب مزاجنا، أنا رجل تنويري أخذ ابن رشد والمعتزلة و.. و..، أنا رجل لست تنويرا آخذ ابن تيمية، ابن تيمية والمعتزلة علي عيني وعلي رأسي، لكن أن أسجن عند أحدهم فهذا ضد تاريخ الفكر الإسلامي كله.
** (الفكر الإسلامي متجمد منذ عهد ابن رشد) مقولتك، أليس في ذلك ظلم بين لعلماء مفكرين أسهموا إسهامات جادة في الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين من بينهم الشيخ محمد عبده؟
** في الفكر الفلسفي، لا، الشيخ محمد عبده كتب رسالة التوحيد وهي محاولة لفتح إطار علم الكلام، وأنا لم أنكر دور محمد عبده ولا يمكن إنكار دوره، بالعكس أقول إن محمد عبده لم يقرأ ومازال بشكل جيد، إنما تجربة ابن رشد تمثل تصحيحا لمسار الفلسفة الإسلامية من وجهة نظره، باعتبارها خلطت بين أفلاطون وأرسطو والمشائية والغنوصية.. إلخ، هناك جانب معرفي عند ابن رشد قد تتفق معه أو قد تختلف معه، لكن هناك جانبا مهما أنه أضاف بعدا لتعامله مع النص الديني كونه فقيها وفيلسوفا وطبيبا وهذه ثلاث سمات لا يمكن فهم ابن رشد إلا إذا وضعناها مع بعضها.
لقد قصدت الفكر المشتبك مع الماضي والذي يعيش العصر، وهذا لا يعني عدم وجود مفكرين، وكما قلت المفكرون أقلية وليس هناك أي محاولة لتحويل هذا الفكر إلي معرفة، هناك محمد عابد الجابري، الطيب دزيني، حسن حنفي، لكن معرفة ما يقدمونه لم تتحول إلي معرفة شائعة، التجمد هنا لا يعني عدم وجود بؤر حيوية هنا وهناك، التجمد هو الظاهرة المرئية في ظل الديكتاتوريات وغياب حريات.
** بماذا تفسر هذه العلاقة الوثيقة والراسخة بين السياسي والديني في عالمنا الإسلامي والتي ترتبت وتترتب عليها الكثير من إشكاليات هذا العالم؟
** الحقيقة أن إشكالية العالم العربي لا تترتب علي ذلك، لأنه السياسي والديني مسألة معقدة جدا، المشكلة السلطة السياسية والسلطة الدينية، وليس السياسي والديني، لأن السياسي بالمعنى العام هو جزء من الحياة.
** معذرة كنت أقصد السلطة السياسية والسلطة الدينية؟
** السلطتان السياسية والدينية بالفعل يشكلان مشكلة حقيقية في العالم العربي، لكن في العالم الإسلامي الأمر مختلف، فعلي الرغم من أنه نظريا لا توجد في الإسلام سلطة سياسية لكن تاريخيا ـ وهذا هو الفارق بين الكلام النظري والتاريخ ـ كانت هناك سلطة سياسية استطاعت في عصر الدولة العباسية بطرق شتي ملتوية أن تجمع في يديها السلطتين السياسية والدينية، وأن تحول الفكر الديني إلي جزء من مؤسسة الإمبراطورية. فهذا التوحد بين السلطتين له أسباب تاريخية مرتبطة بجانبين أولهما أنه وقتئذ كان هناك الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية، فقد انتهت الفتوحات وتم الدخول في منطقة التجاذب والتناحر والكر والفر، فالحدود أصبحت تنتهك من الجانبين، وهذا صراع يخلق توترا ويعطي للسلطة السياسية مبررات هائلة من أجل أن تعتقد أنها تدافع عن الدين وعن الحمي وعن.. وعن..، الحروب دائما تسبب هذا وبالذات في عصر الإمبراطوريات، وهذا حدث في الأندلس بنفس الدرجة، أن الأندلس طوال الوقت تعيش مسألة الحروب الريكونكسته “التحرير ضد الملوك المسيحيين”.
إلي أي حد هذا الوضع تغير، العالم دخل في الحرب الصليبية، والمفروض أن العالم الإسلامي انتصر في هذه الحروب، لكن انتصار الحروب يمكن أن يخلق نتائج غير إيجابية، أوروبا أفاقت بسبب الحروب الصليبية وبدأت الخروج من العصور الوسطى لأنها واجهت مجتمعات متحضرة، وعندما تقرأ تاريخ أسامة بن منقذ وترى انطباعات الجنود الصليبيين عندما دخلوا المستشفيات دهشوا للمستوى، ومن ثم الحروب الصليبية أدت إلي يقظة أوروبا وإلي نوم العالم الإسلامي علي الرغم من أن النتائج العسكرية مختلفة، النتائج العسكرية لا تفسر لك كل شيء، ومع حالة السبات الطويل للعالم الإسلامي وعدم الاحتكاك تخلّقت أوضاعا أشبه أن تكون “أمر الله”، هذا هو المجتمع، الذي حدث أن المجتمعات الإسلامية أفاقت مع الغزو الأوروبي، لكن الغزو الأوروبي أيضا عمل تأثيراته السلبية علي مسار هذه الإفاقة، يعني أوروبا رجعت مهزومة وأصيبت بالإفاقة وأخذ الإفاقة أبعادا مختلفة نسميها عصر النهضة، الإصلاح الديني،.. إلخ، إذن الإفاقة الأوروبية ليست إفاقة مصدومة، هي مصدومة بالهزيمة، لكن إفاقة تم تطويرها طبقا لآليات داخلية وصراعات أوروبية أوروبية، وبالتالي دخلت في الطريق الصحيح، وصححت أخطاءها، وانتقلت انتقالات طبيعية.
الإفاقة في العالم الإسلامي جاءت علي عدو قاهر ظالم لابد أن تحاربه، ومعلم لابد أن تتعلم منه، وما تزال هذه الأوضاع موجودة، علاقة العالم الإسلامي بالعالم حوله علاقة ملتبسة، وسؤال النهضة: لماذا تقدم الأوروبيون وتخلفنا؟ فأنت تقيس تقدمك وتخلفك علي التقدم الأوروبي، لكن مسألة الصورة الملتبسة، العدو الذي يجب أن تحاربه وتحتاج إلي السلاح الذي ستحاربه به وتستورد هذا السلاح منه، والمعلم الذي قدم إنجازات إنسانية ولابد أن تتعلم منه، يتوقف الأمر في تاريخ العالم الإسلامي الحديث علي أي البعدين له الحضور الأكثر، أن تتعلم أم أن تحارب، لكن ثنائية التعلم والحرب خلقت مشكلة الانتقائية في أن لا تقبل التقدم كما هو إنما تأخذ اختيارات منه، وأصبح هناك تقدم يناسبك وأخر لا يناسبك، بناء علي هوية كاذبة خلقها الاحتلال في المحتل وهي الهوية الدينية، الهوية الإسلامية بدأت تستيقظ مع وجود الآخر الذي صنف باعتباره صليبيا ومسيحيا، يعني ذكريات الحروب الصليبية، والآخر دخل هذا العالم باعتباره عالما إسلاميا دون تمييز بين مسلم هندي ومسلم في جنوب شرق آسيا ومسلم في الشرق الأوسط، الصراع كله قائم علي مفهوم العالم الإسلامي، هذه الهوية الدينية ليست نابعة من تفكيرك المستقل وإنما هوية: الآخر طلب منك وضربك بالقلم وقال لك أنت مسلم وأنا لا أحبك لأنك مسلم، إذا حللت خطاب هنيتجيون وخطابات كثيرة جدا جوهرها أن مشكلة العالم الإسلامي أنه مسلم، وأن خلاص العالم الإسلامي وتقدمه: ” أن يفض حكاية الإسلام هذه كما فضت أوروبا حكاية المسيحية “، حدث خلط رهيب جدا بين الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وبين الفصل بين الدين والمجتمع والعالم، بما أن هذه الهوية فرضت عليك فأنت لا تريد أن تنكرها لكن تريد أن تقول ليس هذا هو سبب تخلفي، جواب النهضة من أول الأفغاني و محمد عبده وحتى حسن البنا أن الإسلام ليس مسئولا عن تخلفنا، المشكلة أننا لا نفهم الإسلام، نريد الرجوع ونعيد فهم الإسلام كما فهم الأسلاف، الأسلاف فهموا الإسلام جيدا وعملوا حضارة، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، هذا عمق خطاب الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، الخطاب هنا يعني أن مشكلتنا أننا لا نفهم الإسلام، إذن الحل إبداع فهم للإسلام، في إبداع هذا الفهم ظل النص القرآني بمنأى، هناك إعادة نظر لكن دون أن تغير رؤيتك للنص القرآني، فأصبح الأمر اختيار معنى، هذا السؤال سؤال النهضة حدث له تحوير من مسألة: لا، مشكلتنا ليست في الإسلام ولكن في عدم فهم الإسلام والحل هو فهم الإسلام، مع حسن البنا وإلغاء الخلافة التركية التي خلقت أزمة أخرى في الهوية، أزمة سياسية قوية، وأزمة ارتبطت بأن الكماليين عملوا خطوتين الخطوة الأولي فرح بها العالم الإسلامي جدا ما عدا الهند وهي الفصل بين السلطنة والخلافة، وبعدها بشهور الغيت الخلافة وكان رد الفعل في العالم الإسلامي كان علي النقيض في موقفه من أتاتورك، وجد العالم الإسلامي نفسه عاريا من وحدة كانت خيالية أكثر منها حقيقية، وهنا تجد أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت عام 1928، السؤال الخاص بإعادة الفهم الذي نسميه سؤال الإصلاح الديني السلفي، أصبح إجابة تانية لنفس السؤال: إننا فعلا متخلفين، هكذا اعترف الأفغاني واعترف محمد عبده، ومتخلفين ليس لكوننا لا نفهم الإسلام، وأصبحت الإجابة: فعلا نحن متخلفين لأننا لم نصبح مسلمين، وهذا في رسائل حسن البنا، فانتقلنا من أننا “مسلمون بس فهمنا وحش وعاوزين نتعلم، إلي: لا، القضية ليست أن فهمنا وحش للإسلام، داحنا أصلا بعدنا عن الإسلام، لابد من الرجوع إلي الإسلام، الإصلاح الإسلامي عمل شفت مائة وثمانون درجة من إعادة الفهم.
** المفكر الكبير د.نصر اسمح لي أن نبدأ حوارنا بالسؤال الراهن حول الإسلام والفكر الإسلامي الذي يشغلك وتبحث له عن إجابة؟
** أبحث عن إجابة لكل ما ذكرته لك، كيف نبدع مقاربة للنص المؤسس القرآن، النص الأول، أهم نص في الثقافة العربية والإسلامية، بعيدا عن كل الأسئلة التي فرضتها علينا السياقات، وزيفت هذه الأسئلة عن المعنى الديني، أنا أدرك الآن أن هناك القرآن وما بعد القرآن، ما بعد القرآن يعني التراث التفسيري والتأويلي سواء كان لاهوتيا أو قانوني، أو كذا، أو كذا، الذي عمل ما يسمي ببنية الفكر الإسلامي، أنا درست ذلك نقديا بشكل جيد، هل يمكن أن نميز القرآن وما بعد القرآن؟ لأن رأيي أن القرآن تجزأ، تبعثر، يعني علماء الكلام أخذوا منه اللاهوت، الفقهاء أخذوا منه القانون، المتصوفة أخذوا منه الأخلاق والروح، كل جماعة أخذت منه جزءا وفي العصر الحديث هذه الأجزاء انفصلت، يعني في تاريخ التراث الإسلامي كان يمكن أن ترى الفقيه متصوفا ومتكلما في ذات الوقت، لكن إنتاجه الفقهي إنتاج مدرك للبعد الأخلاقي والروحي، تجد الفيلسوف فقيها مثل ابن رشد، ففلسفة ابن رشد مدركة للبعد القانوني في الإسلام علي الرغم مما يمكن أن نسميه تشظي النظر إلي القرآن من زوايا مختلفة لكن كان هناك رؤية عامة، تحكم هذا التشظي، هذه الرؤية العامة غابت تماما الآن، يعني فقيه اليوم لا يعرف أي شيء عن الأخلاق ولا عن التجربة الصوفية، التجربة الصوفية ملعونة عند فقهاء هذه الأيام، كفر، بل إن أحد الفقهاء المعاصرين كفر الشيعة، بما يعني أن التجزؤ وصل إلي حدود قصوى، أنا أتصور، وقد اشتغلت في هذا السؤال وقضايا أخرى جزئية، أننا لو عدنا إلي القرآن ما قبل، يعني لو أستطيع الاقتراب من القرآن بعيدا عن عيون المتكلمين وعيون الفقهاء وغيرهم، ولا أعني ببعيد أن تكون خاليا تماما من أي شئ، وهناك شغل في هذا “القرآنك” و”القوسط قرآنك” , و”البري قرآنك”، ما قبل القرآن، القرآن، ما بعد القرآن، سوف تكتشف مناطق من الترابط، أولا مسألة القرآن كنص محكم وفيه وحدة، هذا ما قلته في التسعينيات وعوقبت عليه، الآن أنظر إلي القرآن كخطاب، خطابات، وهذا منظور آخر لا ينكر النص، لأن كل خطاب في النهاية سيكون نصا، لكن هناك خطابات لها سياقات مختلفة، لو عدنا إلي القرآن ما قبل التشظي يمكن أن نستعيد الوحدة القرآنية، وهذا ما أشتغل عليه الآن، كم سيستغرق؟ هل سيكفي العمر؟ خاصة وأنني أعمل لوحدي وليست هناك مؤسسة، هناك ملايين تنفق علي الإعجاز العلمي لكن ليست هناك مؤسسة في العالم الإسلامي كله اسمها دراسات قرآنية بمعني دراسة القرآن وليس تعليمه، فمؤسسات تعليم القرآن كثيرة منها أقسام الدراسات الإسلامية لكنها لا تدرس الإسلام وإنما تعلمه، وهناك فرق كبير جدا جدا بين التعليم والدراسة، فالذي أحاول عمله هو دراسة للقرآن ودراسة للتراث الإسلامي
ايلاف