كتّاب يونانيون يسمعون نداء غزه التراجيدي
الجيش الإسرائيلي أكاديمية سفاحين وتجاه ما يجرى لا نستطيع النظر الى الوراء
اسكندر حبش
»هي أيام الموت اليومي«. هكذا يبدو المشهد الذي يأتينا من غزة. موت، يتصاعد في كلّ دقيقة، حاصدا معه المزيد من الضحايا. يكفي فقط أن نقرأ شريط الإعلان الصغير، المتحرك، الذي تبثه الفضائيات ومحطات التلفزيون، لنعرف كم أن عدد الضحايا يزداد في كلّ لحظة، من لحظات هذه الحرب الهمجية التي تشنّها الدولة العبرية على شعب بأسره.
حرب تتركنا نقف أمام هذه الإنسانية التي تُهدر في كلّ لحظة، أمام وحشية آلة الحرب التي لم تترك شيئا إلا ومرّت عليه لتحيله رمادا وأشلاء، ضاربة عرض الحائط بكل المواثيق الدولية. هي فعلا حرب إبادة وتصفية حاملة معها كل ما يمكن لنا أن نتخيله: تطهير عنصري، إبادة جديدة كتلك التي عرفت على مرّ التواريخ المتعددة… صفات كثيرة نستطيع إضافتها لتوصيف هذا الدم الذي ينساب اليوم من دون أن يعرف أحد كيف سيتوقف هذا الشلال.
ربما أمام ذلك كله، نلجأ في أغلب الأحيان إلى الكلمات. بالتأكيد لا لأنها تستطيع أن توقف هذا المسلسل، بل ربما لأنها فقط، تحاول أن تصف هذا المشهد، أن تعبر عن حزن دفين، بحاجة لأن يخرج كي لا يفقد الإنسان كل ما تبقى له من هذه الإنسانية المهدورة، المراقة على مذبح الحياة الوسخة.
أمام هذا المشهد طلبنا من بعض المثقفين اليونانيين أن يقرأوا الحدث لـ»السفير«، بالأحرى أن يعبروا عن بعض مشاعرهم إزاء ما يشهدونه ويشاهدونه من هول المأساة التي تصيب الجميع.
اسمعونا
في البداية يتحدث الشاعر والكاتب ستاماتيس بوليناكيس الذي يقول: »ما من شيء أكثر مدعاة للسخط في أيام القصف والموت هذه، إلا رؤية »الجهود« العائدة لحكّام العالم من أجل إيجاد »حلّ للمشكلة«. لا شيء، على سبيل المثال، يثير السخط أكثر من هذا العناق القلبي بين برنار كوشنير وخافيير سولانا مع تسيبي ليفني. يتراءى وكأنه لم يتبق أي شيء إنساني على وجوههم، لا شيء معروفا، لا أثر لشفقة ما، لحزن ما، أو لأيّ شعور إنساني. كما لو أن هذه الوجوه قد احترقت بأسيد داخلي، سرّي، لتحتل مكانها أقنعة الدبلوماسية القاسية. تبدو دولة إسرائيل وكأنها، حقا، قد دخلت في جنون قاتل بشكل كامل. إنها تهاجم ببغض الماضي وحتى الذاكرة التاريخية: فتصرفها الحيواني ليس سوى مزج تجاه ضحايا النازية وجرائمها في أوشفيتز. »ثمة أصوات من داخل السفينة: إننا نغرق. لتسمعونا«. هذا ما كتبه يوما الشاعر باول تسيلان، الذي جاءت أعماله موسومة بالحزن، بالرعب من الهولوكست والموت. هناك أصوات أخرى اليوم، وعبر دمار غزة، توجه النداء ذاته: »اسمعونا أيضا«. تبدو هذه الجملة بمثابة نشيد كورالي حزين منبثق من التراجيديا الإغريقية القديمة التي تتردد عبر العصور. لقد تحولت غزة اليوم إلى قبر لا نهائي. لقد تحطم جميع زجاج العالم«.
هذه المقارنة التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية مع الماضي الذي تعرض له اليهود من قبل النازية نجده أيضا حاضرا في كلام المخرج السينمائي والكاتب يورغوس كاريبيدس، إذ يرى في بداية كلامه »إن حيوانية الليبيرالية الجديدة المتصاعدة ليست سوى الرائحة الكريهة لحشرجة نزعها. إنها تنتج بشكل مستمر منتوجات صغيرة تلوث كوكبنا، وفي الوقت عينه، تنتج مقابر للضحايا، وبخاصة الضحايا المدنيين. أقرباؤنا في فلسطين يبادون بطريقة منهجية من قبل دولة إسرائيل التي تذكرنا بمستشفى كبير للأمراض العصبية كما من قبل الجيش الإسرائيلي الذي هو ليس سوى »الدبلوم« الذي تعطيه أكاديمية السفاحين ـ وهم بذلك يدنسون ذكرى أهلهم، الذين ماتوا في مخيمات التعذيب. أما السياسيون الأوروبيون فيغسلون أيديهم المائية بالدم بالبترول العربي«.
ويضيف يورغوس كاريبيدس بأن »لا حل للمشكلة الفلسطينية إلا بإقامة دولة فلسطينية والاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي. إن الولايات المتحدة وإسرائيل تظهران أنهما لن تقبلا بذلك. ومع ذلك، فإن الناس في جميع أرجاء العالم يهبون ويحتجون ضد هذه السلطة الوحشية التي تجتاح حاضرنا وتلغي مستقبلنا. سلاحنا الوحيد هو المقاومة. علينا اليوم أن نكون كلّنا فلسطينيين«.
زمن فلسطين
»منذ سنين عديدة وهذا الشرّ مستمر«. هكذا تبدأ المخرجة المسرحية مانيا باباديميــتريو كلامــها لتضيـف بالقــول: »كبــير هو هذا الألم الذي يتــعرض له الفلسطينيون من قبل الإسرائيــليين. لا أحد يتـصور كم ستستمر حالة الحصار هذه. وبالرغم من ذلــك فإن ثمة كائنات بشرية وعائلات مع أطفــالها تعيـش في غزة. يلعب الأطفال، يشاهـدون التلــفزيون، يذهــبون إلى مدارسهم في كل مرة يتاح لهم ذلك. هل من الممكن العيش تحت القصف والقنــابل؟ يبدو أن ذلك ممـكن. وهذا ما يتراءى لنا. يكبر الأطفال في قلب الحرب. من هنا ثمة سؤال يطرح نفسه: كم من الخوف يعشــش في قلوبهم وماذا يعني ذلك بالنسبة إليهـم كما بالنــسبة إلى مستقبلنا كلنا. بالنسبة إليــنا، نحن أهـل الغرب، ثمة زمنان يفترقان عن بعضهما البــعض: زمن لفـلسطين وآخر لحياتنا اليومية. لو نظرنا إلى الزمن الأول مباشرة في عينيه، لوجدنا أنه من المستحيل القيام بالتفاتة صغيرة إلى الوراء كي نعيش بشكل طبيعي في الزمن الثاني. وهكذا، كثيرون منّا يختارون أن لا ينظروا أبدا«.
أمام هذه الفرضية ترى المخرجة مانيا باباديميتريو »إذ وبعد كلّ ذلك، يبدو من المستحيل العيش مع الآخرين الذين لا يعرفون شيــئا والذين لا يهــتمون في معرفة كم من المال صـرف على إســرائيل لكي لا نعــرف شيــئا من حقيقة الجـانب الآخر. الأمر الوحيد الذي أستطيع تمنيه للفلسطـينيين الآن أن تُسمع صرخاتهم وأن يستمروا في الحياة بشكل ما، داخل لعــبة الــمذابح هذه، التي ليست سوى محاولة إبادة تــقوم بـها إسرائيل، والتي تأتي أشبه تماما بما قام به هتلر من إبادة لليهود. هذا ما آل إليه الخوف في أرواح الأطفال الذين يكبرون في هذا الخوف. وهكذا أيضا يخاف الإسرائيليون من هذا الألم الكبير الذي يسببونه إلى الفلسطينيين. من المبرر إذا، أعتقد ذلك، السؤال عن خوف الأطفال الفلسطينيين بما يعنيه ذلك لمستقبلنا كله. وإن كنّا نشير إلى هذه المسألة نفهم لِمَ يجب على هذه الحرب أن تتوقف الآن«.
من جهتها، تجد الناقدة المــسرحية والــمترجمة الأدبية بوبولينا نيكاكي أنه »بعد يومــين من رحيل هارولد بينتر وبعد يوم من ميلاد المسيح في فلــسطين، بدأ هجوم متوحش وغير عادل ضد المدنيين، شنته إسرائيل أمام أعينــنا المندهشة والمــصدومة! فهذا الرعب والسلطة موجهان إلينا جميعا، لا إلى الفلســطينيين فقط. رعب وسلطة يشكــلان بالتــأكيد، في هذه اللحـظة بالذات، السهام التي تفترسها جريمة ضد الإنسانية. إذ من غير المعقول أن تُمنــع عملية توزيع المسـاعدات الإنسانية، أن يُمنع الناس الذين في الخارج من أن يذهـبوا إلى الداخل للمساعدة حـتى وإن كان ذلك سيشــكل خطرا على حياتهم، أن يُمنع الصحافيون من تغطية الأحداث. يذكرنا ذلك كلّه بقفص بهائم متوحشة تهاجم البشر العالقين في الفخ، البشر المحــكوم عليهم أن يعيشوا الجــحيم على الأرض، ونحن كلنا، في الخارج، محكوم علينا أيضا بالنظر، من دون أن نرى صــوتنا، من قبل حكوماتنا الغربية. أضف إلى ذلك أن الهيمنة المتصاعدة تخنق كل الأصوات المحتجة في كل مكان، هذه الأصوات الممدودة مثل أيد تجاه أولئــك النـاس. زيادة على ذلك كله، ليس ذلك سوى شرح لكلمة »دفاع« مثلما يشرحها القاموس الجديد للوعي السياسي المعاصر«.
وتضيف الناقدة اليونــانية بالقول: »في رأس السنة هذه، من المستحيل تمني »عام طــيب«… إذ سيحمل العام، الذي ولد لتوه، عندها، كل السلــبيات باتــجاه هذه الإنسانية. مضى وقت لا بــأس به منذ أن لاحظنا هزال الفكر الثقـافي في أوروبــا، كما مانــوية الأرواح. لقد وصلنا إلى درجة الانحطاط في قـيم العالم. وصلنا إلى يــوم »سدوم الـ ١٢٠« مثلما صــوره بازوليـني، الذي تصور جيدا وجه الســلطة الســادي. لا اســتطيع أن أتمنى للعالم بأسره ســوى الوضــوح الثقافي والكرامة السياسية لكي يصبحا بمثابة ســلاح ضد اعوجاج الآراء والتوائها، ضد اللاتسامح، ضــد الميوعة، كي نتقدم نحو »النور« لا نحو العتمة. فالجــمال والحضارة يختبئان في طبيعة الاختلاف. أصبحنا في وقت، وأكثر من أي زمن مضى، نجد فيه أن الاندفاعات بمختلف خصائصها هي أهم من الهدف أو من الدفاع عن الذات«.
السفير